المخ وفهم اللغة

كيف يتفهم العقل اللغة؟ وكيف يمكن للإنسان تعلم اللغة؟ وبماذا يميز القواعد النحوية؟ وما مغزى دلالة الكلمات في عقل الإنسان؟ وكيف يعالج المخ المعلومات؟ وكيف يبحث عن الحقيقة؟ وما تفاصيل الحوارات التي تدور به؟!

كل هذه التساؤلات كانت مثار بحث لدى الدكتورة إنجيلا فريدرشى، مديرة معهد ماكس بلانك لعلم الأعصاب الفهمي Cognitive neuroscience في ليبزج.

عكفت الدكتورة إنجيلا تبحث طوال حياتها المهنية عن إجابة لتساؤل واحد من التساؤلات السابقة ـ على حد تعبيرها ـ ظل يشغلها، وهو: ما هي اللغة؟ وكيف تتمثل في مخي إلى حوار جاد أنتهي منه إلى نتيجة سليمة قانعة بها؟، وتضيف: لقد اطلعت على الكثير من الأبحاث والأدبيات التي تناولت هذا الموضوع، غير أنها كانت بمنزلة نوافذ صغيرة، كل منها تطل على رؤية موضوعية تتباين عن الأخرى.

أثناء قيامها بالكشف على المرضى، أجريت بعض التجارب اللغوية على الأطفال، واختبرت البالغين ولاحظت سلوكهم، وكانت جميع التجارب بمنزلة قطع في أحجية الصورة المقطوعة، التي باندماجها تشكل صورة شاملة عن كيفية إتمام اللغة، ويعتبر مجال بحثها من المجالات الضيقة إلى حد ما، فهي تهتم بصورة حصرية بتفهم اللغة.

وتشكل طريقة معالجة مخ الشخص للمادة علمية أكانت أم نظرية وكيفية استقباله وتجهيزه وتخزينه لها أهمية كبرى في تحديد معدل التذكر أو الاسترجاع اللاحق للمعلومات. ويؤكد نموذج تجهيز المعلومات على أن التجهيز والمعالجة الأعمق للمادة المتعلمة معناه توظيف طاقة أكبر من الجهد العقلي في صنع شبكة أكبر من الترابطات بين أجزاء المادة المتعلمة وبعضها البعض من ناحية وبينها وبين المعرفة المماثلة في الذاكرة من ناحية أخرى، مما ييسر استرجاع المعلومات السابقة.

كما أن التجهيز عند المستوى الأعمق للمعلومات يؤدي إلى تعلم أكثر ثراء وإتقان الترميز وإيجاد العلاقات بين المادة المتعلمة والمعرفة أو الخبرات المماثلة في البناء المعرفي للفرد واستخدام الإطار المرجعي للشخص كل هذا يرفع من كفاءة الذاكرة ويزيد من فاعليتها في الحفظ والتذكر اللاحق للمعلومات.

وتؤثر اللغة الأم على طريقة تشابك مناطق معينة بالدماغ وتكمن وراءها الطريقة التي نفكر بها فقد وجد باحثون اتصالاً أقوى بين فصي المخ للمتحدثين بالعربية، واتصالاً أقوى بمناطق اللغة في النصف الأيسر للمتحدثين بالألمانية مثلاً.

اكتشف العلماء أن الأجزاء الخاصة بالتعامل مع اللغة تتواصل بشكل مختلف مع بعضها باختلاف اللغة الأم لكل شخص.

لكن هل تختلف الطريقة التي تتواصل بها مناطق اللغة في الدماغ مع بعضها باختلاف اللغة الأم؟ وهل يؤثر ذلك على طريقة تفكيرنا؟

أراد العلماء من (معهد ماكس بلانك للعلوم الإدراكية والدماغية) الألماني في لايبزيغ معرفة ذلك، فقام الفريق بقيادة طالب الدكتوراة والمؤلف الرئيسي للبحث، شوي خو وي، بفحص المادة البيضاء في أدمغة 47 من المتحدثين الأصليين باللغة العربية و47 من المتحدثين الأصليين بالألمانية.

عند اختيار الموضوعات، تأكد الباحثون من أنهم قاموا باختيار أشخاص أحاديي اللغة الأم بمعنى أن لديهم لغة أم أصلية واحدة فقط. فبالإضافة إلى لغتهم الأولى، لم يعرف المشاركون سوى بعض الكلمات باللغة الإنجليزية.

كيف تتمثل اللغة في المخ إلى حوار؟

تعالج المعلومة الفورية بشكل أولي عن طريق التعرف على الأشكال حيث يتشكل لدينا الانطباع بأننا ننجز هذه المهمة من دون عناء ونحن لا نعي بما يحدث في نظامنا المعرفي، إذ إن التعرف يحدث بصفة لحظية باستثناء بعض الحالات، كحالة مصادفة شخص لم تره منذ مدة طويلة، ومع ذلك فإن هذا النشاط يضع قيد الاستعمال سلسلة من المهارات تصعب دراستها بفعل استعمالها بسرعة.

وحسب علماء النفس فالمقاربات العامة للتعرف على الأشكال تخلص إلى أن إدراك الأشياء يرتبط بشكل وثيق بالسيرورات الذهنية النازلة التي ندرك بواسطتها ونؤول المثيرات على ضوء معتقداتنا أو توقعاتنا، وهكذا إذا تواجدتَ مثلاً بقاعة للدرس في الجامعة وبمعية زملائك، فإنك تتعرف عليهم بشكل أسرع من التعرف عليهم في الشارع وذلك لأنك تتوقع مصادفتهم بذلك الفضاء.

وتسترسل د. إنجيلا: إذا رغبت في تفهم كيف تفهم اللغة، فينبغي عليك اتباع أوسع منهاج ممكن لكي تتطرق إلى هذا الموضوع: بماذا تمثل القواعد النحوية؟ وما مدى أهمية الكلمات؟ وما أجزاء المخ التي تدخل في هذه العملية؟! وكيف تتفاعل هذه العناصر بعضها مع بعض؟، تقول: يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات فقط من خلال فريق عمل متعدد التخصصات، دون إغفال تعقب سيرة اللغة في المخ يتطلب قدرًا كبيرًا من الصبر للتعامل مع الأشخاص محل الاختيار، إضافة إلى المعرفة الفنية وقدر كبير من التخيل!

وتضيف: علينا أن نجعل الأشخاص محل الاختيار يستمعون إلى الجمل، ونقيس موجات المخ لديهم ولنأخذ مثلاً جملة نموذجية لكي نبدأ بها “كان الرجل يجلس في…” أي شخص يتوقع قدوم الاسم بعد ذلك، على سبيل المثال “المقعد” ونقوم ببساطة بترك الاسم وتقديم الفعل بدلاً منه: “كان الرجل يجلس في قراءة الجريدة” بهدف الكشف عن مدى اعتراض المخ على تركيب الجملة، وقد أثبت هذا الاختيار نجاحه، حيث تبين أنه بعد 160 مللي ثانية، وقبل أن يدرك المخ معنى الكلمات، تفاعل مع الخطأ إذ لو لوحظ ازدياد نشاط المخ.

هل اللغة المجردة مطلبًا ضروريًّا للوعي؟

تميز د. إنجيلا ما بين ثلاث مراحل حاسمة في فهم اللغة فتقول: في المرحلة الأولى، بعد 160 مللي ثانية، يحلل المخ التركيب القواعدي للجملة، فالمعلومات النحوية تشكل منظومة متكاملة متكررة ذاتيًّا، والمخ واعٍ حيث يكتب هذه المعرفة داخل الآنية خاصته، كما هي، ودون الضرورة إلى التفكير فيها ثانية، وهي تفسر ذلك بالإشارة إلى السرعة المذهلة المرتفعة لرد الفعل.

وتضيف أن القاموس بداخل المخ ليس مستعدًا بنفس هذه السرعة، حيث إنه في المرحلة الثانية، بعدما يتراوح ما بين 200 إلى 600 مللي ثانية أخرى يتم تحليل معانى الكلمات، وفي المرحلة الثالثة بعد حوالى 700 مللي ثانية، يتم ربط تركيب الجملة مع معاني الكلمات، وفي حالة ما إذا أعطت المنظومة إشارة خطأ ما تعاد عملية التحليل من جديد.

لكن، هل هذه المنظومة البالغة التطور بمنزلة ميزة حصرية للمخ البشري؟! وتعتقد د. إنجيلا أن ما يميز لغة الإنسان هو بناء الجملة والنحو، فلو أن أي جزء من عملية اللغة متأصل في الخلايا العصبية إذا جاز التعبير، فإنه سيكون من المحتمل حينئذٍ أنه الجزء الذي يدرس في بناء الجملة والنحو، وتأكيدًا لذلك نجد حتى القرود والببغاوات يمكنها تعلم الكلمات من دون إدراك لبناء الجملة.

وتتساءل د. إنجيلا: هل النحو لدى الإنسان يعتبر فطريًّا كما يدعى بعض العلماء؟! وتؤكد أن النحو بذاته من المحتمل أن يكون كذلك، ولكن المؤكد هو القدرة على تعلم مثل هذه القواعد.

تعاود التساؤل عن: كيف يتعلم المخ الكلمات والنحو؟! وتخضع تساؤلاتها إلى التجارب لتقرر أنها لم تتمكن من كشف رد الفعل السريع للمخ بعد 160 مللي ثانية لدى الأطفال، على سبيل المثال: إن الإشارات تصل بعد 260 مللي ثانية، حيث يبدو أنها تشير إلى أننا نتعلم النحو بنفس الطريقة التي نتعلم بها ركوب الدراجة: في مرحلة ما نختلف عن التفكير في تركيب اللغة حيث نقوم فقط باستخدامها.

تضيف د. إنجيلا مؤكدة أن العمل مع الأطفال يتطلب صبرًا وتخيلاً خاصًّا، غير أنه أحيانًا يكون مليئًا بالمفاجآت، إذ نجد في إحدى جمل الاختبار “الأم تخبز الكعكة” يقول عنها الطفل “إنها جملة خاطئة”، ولكن ما هو الخطأ في هذه الجملة؟ فيجيب الطفل بأن الأم لا تخبز الكعكة بل تشتريها من الدكان أو السوق.

تؤكد الدكتورة إنجيلا حقيقة مهمة وهي أن الصورة اللغوية بمنزلة مرآة تعكس صورة العالم الخارجي، وأن هذه الحقيقة لا تزال تشغل بال الباحثين في معهد ليبزج، وأنه ليس من المدهش كثيرًا أن تعتبر اللغة هي الميزة الحاسمة التي تميز ما بين الإنسان والحيوانات حيث تعطيه إمكانية تبوؤ أعلى مستوى من الوعي والإدراك، بينما يرى العديد من الباحثين أن اللغة والوعي مرتبطان كل منهما بالآخر.

تعاود د. إنجيلا تساؤلاتها: هل اللغة المجردة ــ في أي شكل كانت ــ وما يصاحبها من مفاهيم عن الماضي والحاضر والمستقبل، تعتبر مطلبًا ضروريًّا وأساسيًّا للوعي؟ وهل هي الشرط الأساسي للتميز بين ما هو حقيقي، وما هو محتمل؟!

تخلص إلى إجابة على ما طرحت بأن تركيب الجملة هو ما يميز لغة الإنسان عن أنظمة الاتصال الأخرى، أن الحديث عن المخ ومحاولته البحث عن حقيقة ذو شجون!!

مراحل عمل المخ في فهم اللغة
الزمن المرحلة الأولى المرحلة الثانية المرحلة الثالثة
160 مللي ثانية من 200-600 مللي ثانية بعد 70 مللي ثانية
عمل المخ يحلل التركيبات اللغوية والنحوية للكلمات يكشف المخ معاني الكلمات يناغم المخ المعنى وتركيب الجملة
ملاحظات يبدو هنا مقدمة النصف الأيسر للمخ بصورة خاصة في حالة نشطة استخدام القاموس الداخلي عند اكتشاف الخطأ تبدأ عملية تحليل جديدة

المراجع:

Campbell, Neil A. and Jane B. Reece. (2022). Biology. Benjamin Cummings. College، Nicki RWalker، Brian RRalston، Stuart HRalston، (2010). Davidson’s Principles and Practice of Medicine

            Larsen، William J. (2021). Human Embryology. Philadelphia, PA: Churchill Livingstone.

                        Bogart، Bruce Ian؛ Ort، Victoria (2022). Elsevier’s Integrated Anatomy

            Purves، Dale (2022). Neuroscience. Sunderland, MA: Sinauer asci ages.