سيدة النافذة

(قصة حقيقية)

أعبر صباحًا مسرعًا كعصافير المساء..

لا وقت لي كي أتأمل غير نفسي المثقلة حد الثمالة بالأسئلة، ذلك الوقت الذي يفصلني مشيًا على الأقدام عن مقر عملي ضيق جدًّا، لذلك أقضيه بين إحدى ثلاث:

قد أتمم فيه ما بقي من أورادي، قد أخطط فيه ذهنيا لبرنامج يومي، أو قد أستمع فيه إلى برنامج أو محاضرة،

لم أكن أنتبه إلى نافذة كبيرة أرضية، لم أكن ألتفت إليها أصلاً، قناعة مني أنه من العيب أن نمعن النظر في خصوصيات الناس، والبيوت أسرار وعورات..

ذات صباح داكن بغيوم أشبه إلى الحزن منها إلى بشارات الرحمة، سيزدحم الممر فجأة،

تفضل سيدي. العفو أيها الشاب، طاب يومك، طاب يومك أيضًا.

كلمات عابرة مع عابر سبيل بابتسامة صادقة جعلتني أستدير كي أجدني وجهًا لوجه معها،

(إنها سيدة النافذة يا سادتي)..

نطق حالي قبل مقالي بلسان روحي مندهشًا: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، رباه..

كيف لم أنتبه كل هذه المدة، حالها يغني عن سؤالها، قديسة في الثمانين من عمرها ربما أو أقل بقليل..

واضح أنها تعيش وحدها في نهاية من العزلة، أعرف هذه الوجوه جيدًا، أي والله أعرف هذه النظرات!

تلك الوجوه التي تكابد الوحدة وهي تنتظر إذن مغادرة الدنيا، في وسط الفوضى، تقف متأملة هذا العالم الذي تنتظر الرحيل عنه..

حصل كل هذا في ثانية أو لمحة ونفس، ولعلها طرفة عين..

صرت كل صباح وكل مساء أقترب من نافذتها، بل أتعمد الاقتراب كثيرًا، ألوح بيدي أو أرفع قبعتي مبتسمًا للحظات، كانت المسكينة تفرح بذلك كثيرًا، تقف كذلك كي ترد التحية بامتنان، إنها تنظر إلى العالم كله من خلال النافذة، لا أعرف اسمها، أو سيرتها، أحاول كل يوم أن أكسر عزلتها مرتين من خلف زجاج النافذة الشفاف..

أنظر إليها بمحبة وعطف وألم، أحيانًا أبكي، وقد ينكسر قلبي، كيف أسعدها وأساعدها؟

تنطلق السيناريوهات..

هل أحضر لها باقة ورد، أم أطلب منها أن تفتح الباب كي أعرض خدماتي وأترك رقم هاتفي، لعلها تحتاج إلى دواء أو بضاعة من السوق، أو لعلها تحن إلى المشي تحت أشعة الشمس في يوم رائق المزاج..

لا أعرف كيف أخدمكِ يا سيدة النافذة!

أنا لا أعرف حتى اسمك، ولا كيف حملتك أمواج الأقدار إلى البيت الذي أنت سجينة فيه الآن..

في بعض الليالي أبقى واقفًا حتى أتأكد أنها لا تزال على قيد الحياة، هي تترك النافذة دومًا مفتوحة،

بالأمس، بعد جلسة ذكر ومذاكرة، جمعنا مجلس سمر وأنس، عزف صاحب لنا لحنا متروحنًا حزينًا جدًّا، رافقته فيه بإيقاع أحزن السامعين، ارتجلنا الأداء ارتجالاً شفافًا..

سأل أحد الحاضرين، ما اسم هذه المعزوفة..

أجبته دون تردد: سيدة النافذة..