المنقذ

وسط براميل منتصبة تحمل أزبالاً، رأيته للمرة الثالثة.. لكثرة مشاغلي لم أقترب منه لعلي أتعرف على أحواله وظروفه، المارة لا يأبهون به، وكأنه جزء من النفايات التي لا قيمة لها.

بعد أسبوع خرجت في رحلة بعيدًا عن ضجيج الشارع الرئيسي الذي في جانبه يقع منزلي، ركبت سيارتي، وكان عليَّ أن أمر حيث الطفل المشرد، وجدته في ذات المكان، كان متكئَا على برميل، يداه إلى الخلف، مطأطأ الرأس كأنما يحدق في شيء يدب قرب قدميه، اقتربت منه، ولم يغير من وضعيته، ربما ظنني أحد الساكنة الذين يريدون التخلص من أزبالهم، وقد يكون له الحظ في البحث منها على ما يسد به جوعه. اقتربت منه أكثر فحييته مرتين، ورد عليَّ في المرة الثالثة بصوت خافت متقطع يثير الحنان في قلب من لا يزال في قلبه حنان.

ما اسمك يا ولدي؟

اسمي فؤاد.

ما اسم أبيك؟

أبي؟ … نزع الله من قلبه الشفقة، منذ وفاة أمي، وتزوُّجه بعدها بأربعة أشهر بامرأة أخرى، أشبعني الشتم والألقاب القبيحة، والتهديد بالقتل والنفي. كانت امرأته هي سيده الذي يأمره فينفذ، وينهاه فيرتدع. صار عصًا في يدها تفعل به ما تشاء وأنى تشاء وأيان تشاء… في كل يوم أنتظر منه العذاب، ضربني بعصًا غليظة اقتطعها من فرع غصن شجرة يابسة، ركلني بحذائه القديم والجديد، وبقدمه الحافية أيضًا، صفعني، لكمني، نتف من شعري أكثر من مرة، بصق في وجهي، نزع عني الغطاء في أيام الشتاء الباردة، كل يوم أنام جائعًا، وأنام مرعوبًا، وأستيقظ خائفًا.. وجاء اليوم الذي قرر طردي من البيت، آهٍ كم كان قاسيًا أن يطردك أبوك الذي من المفترض أن يحميك من غوائل وخطوب الدهر…

كان يتحدث بكل أعماقه، بينما الدموع تتدحرج على خديه، ويداه تتحركان ببطء، اقتربت منه أكثر، ودسست يدي في جيب بدلتي لأخرج منديلاً مسحت به دموعه، وربتت على رأسه وكتفيه فاقترب مني أكثر، وشعرت بكونه يظنني البديل الممتاز لأبيه الشرير.. كنت أهدئ من اضطرابه وأنا أتساءل عن تصرفات البعض إزاء أبنائه، فتصورت أباه الذي تزوج أمه كي يرزقا بهذا الولد، تصورت فرحته والمرأة تخبره بأنها حامل، تصورته وهو يراقب حالة الحمل طبيًّا ليسعد حين يجد بأنه بخير وفي صحة جيدة، وتصورت فرحة الأب والطفل قد خرج من رحم أمه إلى الدنيا، تصورت احتفاله وهداياه وولائمه بهذه المناسبة الفريدة.. فما الذي جرى ونسي كل هذه الوقائع كي يرمي بهذا البريء ليقتات وينام في المزابل؟

قلت في نفسي لعلها الفطرة الفاسدة بعد صلاحها، أفسدتها شهوة الامتلاك لامرأة صارت هي المُمتلِكة لإرادته، تسوقه كيفما تريد؟

سألت الطفل عن بلدة أبيه، فعلمت أنه يقطن بعيدًا عن المدينة بثلاثين كيلومترًا.

حملته بسيارتي واتجهنا إلى البلدة بعد يوم قضاه في بيتي.

وصلنا منزل الطفل، خرجت امرأة شابة، وهمس لي الطفل بكونها امرأة أبيه التي حدثه عنها.

بعد التحية سألتها عن أب فؤاد، فوضعت كفيها على وجهها، وانتحبت وهي تقول بأنه توفي بعد أسبوعين من مغادرة ابنه البيت، ولم أدرِ ما سبب وفاته. امتزجت خلجات المشاعر المتضادة في قلب الطفل، ثم تمسك بي، وصرخ صرخة مدوية، وحاولت تهدئته لمدة ليست بالقصيرة.

أمرتنا المرأة بالدخول، تحدثنا عن تصرف أبيه، وتصرفها، بكل صراحة، اعترفت وندمت، فبعد مغادرة الطفل المنزل أخبرها الطبيب بأنها عقيم، ولن تستطيع الإنجاب أبدًا، آنذاك فكرت في فظاعة ما قامت به حين جعلت الأب يعتدي على ابنه البريء… كانت تظن أنه سيضايقها في أبنائها القادمين…

دفنت وجهها بين كفيها وهي تبكي، وترجو فؤادًا ليسامحها ويبقى ابنها الوحيد دون خوف ولا انزعاج… فجأة احتضنته وقبلت رأسه ووجنتيه ويديه، فرَقَّ لها قلبُه، وأمام هذا المشهد بكيت فرحًا وتأسفًا في ذات الوقت، وغادرت بعد أن شكرتني وشكرني فؤاد.

كنت أزورهما بين الحين والحين، ساعدتُ فؤادًا على التمدرس، نجح في دراسته، تخرج أستاذًا جامعيًّا، صدرت له مؤلفات في علم التربية وعلم النفس، وكان يلقبني بالمنقذ، ولم أقمْ سوى بواجب تفرضه عليَّ إنسانيتي.