كن عونًا ومعينًا رشيدًا (موعظة وعبرة)

التقى إنسان بشجرة وارفة. فتفتحت بينهما كلمات دافئة. فأقبلت الشجرة بمواعظ ثاقبة. فقالت للإنسان: أيها الإنسان، الحياة لا تعني مجرد الأخذ والبطش، بل تعني الدفع والمدد. ومهما تأخذ فلا ترمِ إلا الإفادة. فلعلك لنموك إلى الماء فقيرًا، ولسموك على السماد حريصًا. ولكن بعد تلقيها لا تكن متمتعًا، وإثر تسلّمها متلذذًا. ولا تنس أن في احتياجك من الناس عددًا، ويعود على عاتقك أن تكون لهم ظلًّا مديدًا. وليتك إلى الأجرة والرواتب مغتبطًا، فلا تكن لهذه النية المحضة منحصرًا. فلتكن حركاتك لآخرين متعة، وأعمالك للعالمين خدمة. وأخطر ببالك على الإعطاء أولاً، واقنع بقلبك على ما ينفعك تاليًا.

ثم قالت: ومن الناس من هم لذاتك مفتقرون، ولظلك تائقون، ولعطائك جائعون، ولجمالك راغبون. فتتحول للبعض ظلًّا، وللبعض ملاذًا، وللبعض دواءً، وللبعض سندًا، وللبعض جهازًا. فاعتبر لكل ذي حق حقه منك، وقدر له ما احتاج منك. فمتى تأب العطاء وأنت حاصل التمكين والوفاء، تصِرْ حياتك هباءً منثورًا، ولا ترَ فيها ثناءً محمودًا، لأنك لو تمكنت وتسهلت على العطاء وأنت متوفر الشرائط، ومكتمل الوسائط، ثم امتنعت العطاء فما أنت وثروتك إلا من سقط المتاع، ومما لا تعتريه فائدة ولا جدوى.

ولا تنجح بمجرد أن تسد ما تقتضيه النفوس، بل النجاح في إقناع القلوب وإثراء الفؤاد. تخيل أنك قمت بتوفير ما تشتهيه الأولاد، وحققت ما من نفوسهم تَرِدُ، ونبذت حبهم وودهم في النسيان والخمول، تجمعت ألسنهم على أنك أبوهم: “ما أديت بواجبك، وحطمت دورك”. ربما يقطعون روحك وقتًا ما، ويجزئون حياتك يومًا ما. فافهم -أيها الإنسان- الظل والعطاء مقترنان، فلا تهملهما في حياتك على أنك إنسان.

ومضَت تقول: ومهما أحسنت مهماتك، وأديت مسؤولياتك، لم تخل من الأعداء والأنداد، فيتهمونك بالفحشاء من الشحناء، ثم يجعلونك في الخرافة، ويقتلعونك من الأصالة. فمهما تفاقمت مساعيهم، وتراكمت مكائدهم، فأعرض عن الأوهام، وألجم على الأعمال، واعتكف على النشاطات، فتحيَا على الجسارة، في هيئة السذاجة. واجههم على حسن خلقك، بدلاً من مصاحبتهم، وسوء معاشرتهم إليك. أمد الظل للقاطع أيضًا. فلولم تمنحه ظلًّا ظليلاً، مع ظنك إياه ندًّا لديدًا، فلا تفوقه أصلاً، بل تساويه قطعًا. واستحوذ عليهم بالمعروف، فكرّسوك بتيجان العز والمنعة. فاعلم أن الأحجار لا ترد بالأحجار بل ترد بالفواكه.

فأهل المساوي يتقلبون في السيئات، حيث إن أهل المحاسن يترقصون في الحسنات. فليقم كل ذي عقل بعقله، وكل ذي بال بباله، وكل ذي عمل بعمله. وليؤدِّ الكل واجبَه، وليساهم الجل دورَه. لا تفرط في عملك، عند رؤية إنجاز الآخرين ناسيًا دورَك. فلا تكن ظالمًا لكونه ظالما، وغضبانًا لكونه غضبان، بل كن ناصرًا ومعينًا ومغيثًا رشيدًا.

فلو قابلت الأحجار المسمومة، والاضطهاد المفند، فلتنبع منك ينابيع مشاعر الفرح والجذل، لأن كل ذلك أمارات الفوز والفضل. لأجل ما مكنت من فضائل، وحققت من مناقب، تزأر الحساد، وتنقد النقاد. فلا يقلق الانسان الساكن الغير الفاعل من طعنة الجراحات، كما لا تعرض سفن البر للغارات. فكلما الأحجار تزداد إنجازاتك تزداد.

وفاضت تقول: ولا تستسلم لأي فرد، ولأي طرد. وابلغ العلى حيث السماء. فليكن نموك إلى العلى، مهما من المدد تحيا. فلو أبديت الاستسلام لأسهم الاستفزاز يجف منك ماء الحياة والاستقرار. فتصير إلى الأحطاب، وتودع الأحباب، وتورى في تنور الأحجار. لو قُطعت من مكان، نهضت من مكان آخر. فلو لم تقدر على الصحوة والنهضة والقيامة من المضرب الذي قطعت فيه بالقوة، فأنجب الغصينات والوريقات بالهمة. ومما يخصك أنك تقدر على النهوض من المسقط والمضجع. فلا تجف أصلاً عندما تكمّن فيك خلايا الحياة والوجود. فارتقِ تزدهر، ثم انتشر تستقر.

مجرد النماء الظاهري لا ينفع، بل اقترانها بالنماء الباطني تنجع. لأن النماء الباطني يقوي ويسهل النماء الظاهري. فلولم تظفر بالنماء الباطني تزلّ أقدامك عند مواجهتك اليسير من الأزمات، والعزيز من المشقات. فعلى مقدار ثبات الجنان ومقدار حميته وقوته، تظل باسلاً متينًا وشجاعًا قويًّا.

ثم قالت: بعض الأيام تفترق من بعضها، على تكرار طلوع شموسها. والكل يرد على الطور من الربيع والشتاء والصيف والخريف وتبيت وتصبح خالي الأيدي وخالي المعشرين. فلا تقنط الرجاء في تلك الأحوال الأشواك، وانتظر الفينة التي تعانقها مع ملأ الهدايا والنعمات على أيديك حتى تغطيها وتغمر أحشائها. فالحياة أن تميد بك العتمة والنور.

وقالت: لا تنقلع من جذورك الراسخة، وتنزلق من أصولك الثابتة، لأنه لا بد من خليفة تخلفك، ووراث يرثك. والأحسن الأجدر أن يلد ذلك الوارث من جذورك نفسها، لا من غيرها. فلذلك أشرِق وأنجِب وربِّ وورِّث من يرثك من أهل بيتك. فلو ظفرت بوارث حقيق خريت، فكأنما حسمت الموت، فلا تُسمَّى المنية منية عندك.

واختتمت: لا تهمل التواضع عندما تبلغ العلى واخفض جناح الذل لمن هو أدنى منك. أكثر الحصائد، فأكثر التواضع. وعندما تحس بالعلى لا تحس بأن أقدامك في غير الثرى. ولا تفارق الاهتمام بأنك في الثرى بأقدامك حتى في هذه الأحوال. ومتى تحس بها في غير الثرى قاربت شفا جرف الانتهاء، بل تسقط قطعًا، والهوى منك انمحى.

ومن الناس من يرومون كما نلت وأنجزت وحققت وأديت وساهمت فمن سندك وحميتك وتحفيزك تبذل وتنشر وتعزز. ولا تهملهم كأنهم من سقط المتاع أو بقية الفنجان، بل كن لهم عونًا وقائدًا ولا تطرهم ولا تكسر جناحهم، بل حرك جناحهم وحقق رجاءهم لأنه تعود إليك المنافع من زهائهم وعبقريتهم ولمعان مستقبلهم وإنجازاتهم في تبسم المستقبل.

وهنا أقطع ثرثرة الكلام حيث إنها ليس من بغيتي، رغم أني أود أن أذكرك بكلمة مرموقة؛ نور الشمس نمائك فأوجد من النور سديد سبيلك وليكن على النور مسيرك وعشق العتمة وشغف الظلمة يسرم اضمحلالك ويسيء مصيرك.

وتم الحوار بينهما وفكر الإنسان في نفسه لحظة؛ لأن يمثل شجرة وارفة أحسن من أن يمثل إنسانًا يبغي الكارثة.