أثّر فيّ هذا المفهوم (ستار الألفة) كثيرًا عندما اطلعت عليه لأول مرة في كتابات الأستاذ النورسي رحمه الله. فقد كان رحمه الله، يشرح ما للإلف والعادة من أثر في الغفلة عن عظيم قدرة الله في آياته التي نراها ونشاهدها كل يوم في كتابه المنظور (الكون)، وكذلك الغفلة عن وجه عظيم من وجوه الإعجاز في آيات الله التي نستمع إليها أو نتلوها في كتابه المسطور (القرآن)؛ فالنظر إلى الآيات الكونية أو القرآنية من خلال ستار الأُلفة، يحجب عنا رؤية مدى الجمال المعجز في كل آية، ويخفي عنا بعضًا من وجوه الإعجاز التي تتجلى في هذه الآيات.
- ستار الألفة بين حكمة القرآن الحكيم ونظر العلوم الفلسفية
وبالمقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، يقرر الأستاذ النورسي أن القرآن الكريم ببياناته القوية النافذة، يمزّق غطاء الألفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر إلاّ على أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة. فالقرآن الكريم بتمزيقه ذلك الغطاء عن هذه الدلائل والآيات، يكشف عن حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بالغة في العظة والاعتبار، ويفتح أمام العقول السوية والفطر النقية بابًا لكنوز من الدلائل المعجزة على قدرة الصانع الحكيم.
وفي تفسير قول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:١٦٤).
يحدثنا بعض المفسرين عن ستار الألفة وأثر البيان القرآني في تمزيق هذا الستار عن المألوفات وإعادة النظر في الكون بطريقة مختلفة قائلاً: “وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون؛ العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفِّز الحس، حي القلب. وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب، وكم فيها من غريب، وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة؛ ثم ألفتها ففقدت هزةَ المفاجأة، ودهشةَ المباغتة، وروعةَ النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب”.
ثم تنتهي الآية ببيان أن هذه الدلائل الثمانية المذكورة في الآيات المألوفة لكل الناس المحيطة بنا من كل جانب.. إنما هي آيات معجزات بينات لقوم يعقلون، قوم ألقوا عن عقولهم “بلادة الألفة والغفلة”، واستقبلوا مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوَّره الإيمان.. فالقرآن يدعونا في مثل هذه الآيات إلى أن نسير في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة، تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر.
ومن ثم فالقلب العامر بالإيمان يتحرك في الكون بهذه الحساسية، ويحمل تقديرًا خاصًّا لما في الكون من جمال وتناسق وكمال، ويرى صاحبُه الكونَ برؤية جديدة، ويدرك مظاهره وما تشتمل عليه من جمال إدراكًا خاصًّا، فيحيا على الأرض شاعرًا أنه يتجول في مهرجان من صنع الله آناء الليل وأطراف النهار.
وبالعودة إلى الأستاذ النورسي في حديثه عن نظرة الفلسفة إلى الكون -وهي النظرة العادية المحجوبة بستار الألفة عن بديع صنع الله لهذه الخوارق- نرى أنه يصفها بأنها تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الألفة والعادة، فتتجاوزها دون اكتراث، بل تتجاهلها دون مبالاة بها.. ثم يبين أن أعظم ما يلفت نظر هؤلاء هو ما شذ عن تناسق الخلقة وتردّى عن كمال الفطرة السليمة. فالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، ويحتاج من ذوي العقول والأفهام إلى إعمال الفكر والعقل في هذا النموذج المبدع، تراهم يُعرضون عنه ويحفلون بأفراد مختلفين في أشكالهم وهيئاتهم ملتمسين في النظر إليه والتأمل في خلقته وجوهًا من التعجب والاستغراب، كرجل له ثلاثة أرجل أو رأسان مثلاً، إلى آخر ذلك من الأمثلة التي ذكرها.
- ستار الألفة خطر على إيمان المؤمن
ولخطورة الإلف والعادة وتغشيتها على القلوب والأبصار، تعرض الأستاذ فتح الله كولن لهذا الموضوع في كتابه “أسئلة العصر المحيِّرة”؛ حيث سئل عن الألفة وتأثيراتها السلبية على إيمان المرء وقدرته على النظر والتفكر في الكون. وبعد تعريف الألفة وتحديد مفهومها ذكر أن “حساسية الإنسان وإعجابه بجمال الوجود وجاذبيته، وإعجابه بالنظام الموجود الذي يعمل أدق من الساعة، وما يثيره هذا النظام في نفسه من مشاعر الفضول والدهشة، ثم زيادة خبرته ومعرفته بعد كل اكتشاف يتوصل إليه، ثم وصوله إلى التفكير المنهجي بعد ربط أجزاء معلوماته بعضها مع بعض.. هذه الأمور تحفز مشاعره وحركة ذهنه وفعالية روحه، وتجعله في يقظة روحية. أما إن بقي دون مشاعر ودون أحاسيس أمام آلاف من لوحات الجمال والنظام ودون أي مبالاة، لا يبحث عن أسباب ما يراه وعن حكمه، بل يمر لاهيًا غافلاً.. فهذه أمارة على موت أحاسيسه وروحه، وعمى بصيرته. فكتاب الكون المليء بالأسرار بالنسبة لهؤلاء لا يعني شيئًا، ولا تتفتح عوالم النفس الإنسانية أمام أنظارهم ورَقة ورقة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون) (يوسف:١٠٥)، لم يستفيدوا مما حدث ومضى، ولم يعتبروا مما يأتي أو يمضي.
ثم نراه يصف حال هؤلاء الذين وقعوا أسرى ستار الألفة بأنهم يشكون على الدوام من الضيق والملل والسأم، ومن الوتيرة الواحدة التي تسير عليها الحوادث. فكل شيء بالنسبة لهؤلاء فوضى، وكل شيء ظلام، وكل شيء دون معنى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا) (الأعراف:١٤٦).. ويقرر أن انتظار أي خير أو أي ثمرة من أمثال هؤلاء، عبث لا طائل تحته.
ثم يبين أن الموت المعنوي والاحتراق الداخلي هو المصير المحتوم، لكل من لم يبادر إلى الخلاص من رفع الغشاوة عن عينيه، وإعادة النظر والتأمل في حكم الكون والبحث عن أسراره الكامنة فيه، والإنصات بالسمع والقلب إلى الملأ الأعلى، وإلى الرسائل والإشارات الإلهية الواردة منه ومحاولة فهمها. وهنا تظهر حكمة إرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات من أجل تنبيه الغافلين، وتمزيق ستائر الألفة عمن أحاطوا أنفسهم بها، وتحطيم أسوار العادة أمام من سجنوا أنفسهم بداخلها. وهذا ما عمل عليه القرآن الكريم في مواضع عدة وبأساليب مختلفة، حيث بدد البيان السماوي الألفة بمئات من تنبيهاته وإرشاداته، ودعانا إلى إعادة النظر في كل شيء حولنا، وأرشدنا إلى التفكر فيه، والتأمل في دلالاته على عظمة الصانع المبدع.
- نوع آخر من ستار الألفة
يشير الأستاذ كولن في الموضع ذاته إلى نوع آخر من الألفة، وهو الألفة في الفكر والتفكير والتصور، ويبين أن هذا له انعكاساته السلبية على سلوك الإنسان وعلى عبادته؛ حيث يعني هذا النوع موت الهمة والحماسة، ويحل محلها الفتور وعدم المبالاة. والفرد المبتلى بهذا النوع، يزول عنه شعور الإحساس بالمسؤولية، والنفور من الإثم، فتتجمد عيناه ولا يبكي على خطاياه وآثامه التي يرتكبها. وهذا النوع من ستار الألفة إذا تمكن من العبد، تعذر عليه العودة إلى حالته الأولى من الشفافية ورقة القلب والتأثر بالمواعظ وسرعة الأوبة إلى الله تعالى، والتبرؤ من الذنوب والندم عليها. ومع ذلك فالعودة -وإن كانت متعذرة- فإنها ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى إعادة البناء وتجديد الروح ونفث المعاني النبيلة في هذه النفوس من جديد، وتذكيرها بالله وباليوم الآخر الفينة بعد الأخرى كما عبر القرآن عن ذلك في قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ اْلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:١٦).
- هل من سبيل لتمزيق ستائر الألفة؟
يقرر الأستاذ كولن أن ستار الألفة مصيبة كبيرة، وأن الكثيرين معرَّضون لها، ويبين أن الواقعين فيها غافلون عما يحدث حواليهم، إذ لا يبصرون الجمال الموجود في كتاب الكون كأنهم عُمي، ولا يسمعون صوت الحق من ألسنة الحوادث كأنهم صُمّ. ويصف إيمانهم بأنه سطحي غير كافٍ، وعبادتهم بأنها باردة لا روح فيها ولا وجد، كما يفقدون حس المراقبة الذاتية في تعاملاتهم مع البشر.
لكنه يقدم بعض الإرشادات والنصائح لمن تردى في هذه الهوة، لعله يستطيع الخلاص منها ويستعيد سمعه وبصره المعنوي من جديد، فيقرر أن من سقط في هاوية الألفة يحتاج إلى بعض الإجراءات لكي تمتد يد عناية قوية نحوه فتخلصه. ومن ذلك:
– التأمل العميق وإمعان النظر في آيات الأنفس والآفاق.
– كثرة تذكر الموت والاستدعاء المستمر لمشاهد الآخرة.
– الانشغال بالوظائف الإيمانية والمهمات القلبية من أذكار وأوراد وغيرها.
– مطالعة الصفحات المشرقة من سير الصالحين والأولياء والأصفياء.
– تفريغ الأوقات لزيارة مؤسسات الخدمات الإيمانية والأعمال المجتمعية.
– تكوين صحبة إيمانية من ذوي الاهتمامات القلبية والعقلية والفكرية والثقافية المشغولة والمشغوفة بتجديد القلوب وتزكية الأنفس.
نسأل الله تعالى أن يمزق أستار الألفة عن أعيننا فتبصر، وأن يزيل حجب الغفلة عن قلوبنا فتدرك، وأن يلهمنا الخير والرشد في كل أعمالنا، إنه ولي ذلك وهو القادر عليه.