آفاق المعرفة مظلة التعايش والحوار

لعلنا لا نجانب الصواب ولا نتخطى الحقيقة في القول إن المعرفة -كبناء عقلي متراكم من الخبرات والتجارب البشرية- تلعب دورًا محوريًّا في إرساء قيم الحوار والتعايش بين الأفراد والجماعات، بل بين الحضارات الإنسانية. فهي تسهم في فتح آفاق مشتركة من الحوار والتعايش، وتمهد السبل لتحقيق وإنجاز هذا التعايش والحوار. فأصحاب المعرفة هم أصحاب الرسالات والنظريات والمبادئ التي تكشف جهالات الآخرين، وتميط اللثام عما غمض من القضايا. وفي هذا السياق نشير إلى أن المعرفة في رسالتها ليست مجرد أقاويل نظرية براقة، إنما هي واقع عملي تعمل على حماية كل بناء أوشك على الخراب أو كاد يتداعى.

من هنا، المعرفة تمثل دأبًا وسعيًا مستمرًّا بلا انقطاع نحو تفكير سليم يفضي إلى فعل سليم. لذا، الأفق المعرفي أوسع في انفتاحه على الآخر، وعلى كل فكرة جديدة من الأيدولوجيا التي تمثل النظرة الضيقة المتقوقعة داخل جمل وعبارات فارغة من كل معنى أو مضمون، أو تعابير جوفاء رنانة، لا تمت بصلة للواقع العملي.

وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة قد يغفل عنها الكثيرون؛ وهي أن النهج المعرفي الحقيقي كامن في بنية الانفتاح على الشعوب وإنعاشها بالخيرات والموارد، حيث تعتمد المعرفة على التساؤل العملي الفلسفي، والبحث عن القيم المعاشة التي تتجاوز الأنانية والاحتكار السلطوي بصورة دائمة. فالإنسان الذي يسلك النهج المعرفي، هو إنسان يسمو ويرتقي بنظرته عن الشخصانية المفرطة والذاتية المقيتة، والمفاهيم الضيقة المنحصرة في جزئيات القضايا، ومبادؤه تنبثق عن وحدة الوجود وضرورة حمايتها من خلال نشر الحب والتغيير، وتحويل البشر إلى رموز معرفية من خلال مكافحة تجهيل الناس وتخديرهم بالآمال والمفاهيم العنصرية والعدائية والشوفينية والطائفية البغيضة.. ومن هنا تعمل المعرفة على إزالة الحواجز بين الشعوب بغية الوصول لتجمعات مدنية تشكل من خلالها نواة حية فعالة لمنظومة المعرفة الإنسانية.

فالمعرفة كأفق وبناء عقلاني تمتد نظرتها ورؤيتها إلى أوسع البقاع في العالم، لتتجاوز الإقليم والدولة وتغدو خلاصة ينهل منها الكثير في مختلف الدول. أيضًا المعرفة تسعى إلى تفعيل العمل الجماعي الذي يخلق الوعي والنهضة في نفوس الجماهير، من خلال تفعيل دور المنظمات المدنية التي تقلص درجات الهوة بين الناس من كل الشرائح والفئات. لذا يجب أن نؤكد هنا، أن المعرفة تستمد شرعيتها ووجودها من التعايش المشترك والمزيج الإنساني، وهي تمثل هنا الركيزة الحقيقية نحو بلوغ المجتمع المعرفي القائم على التشاركية في صنع الحياة.. فلا فضل لإنسان على إنسان إلا بما يحمل من وعي بالحب والوجود والمعرفة من خلال الفهم والإيمان، والتطلع لإدراك الحياة كحقيقة تامة. وهذا يمثل الزوال النهائي لحقب الصراعات القهرية.

ولا بد في هذا الصدد التأكيد على أن الصراع، ضد الجهالة ومفرداتها، من حقد وتعصب وعنصرية. والمؤسسات التي تبني التشاركية في صنع القرار، فإنها في المقابل تحتاج إلى وعي معرفي وجمالي لقيادة الحياة. من هنا فالغطاء المعرفي هو الغطاء الأسمى لإعادة الثروات الوجودية لقاطنيها بالقضاء على ذهنية الاحتكار والتقويض والإقصاء. فالفكر المعرفي بوجه عام، يسهم في زوال المفاهيم المكبلة لحيوية الفكر الناشط المبدع. والمنهج المعرفي منهج أخلاقي قائم بذاته ويختزل القيم التي نادت بها كافة العقائد والنظريات والمذاهب، التي كان لها الأثر في الميراث الحضاري، والتي تحتكم إلى عودة الإنسان إلى التشبث بروح الحضارة المعرفية.

ولعلنا في هذا الإطار نشير إلى أن المعرفة ترسخ لقيم مهمة جدًّا، لعل أبرزها قيم التعايش مع الآخر على أساس الفهم، وعلى أساس تقبل الآخر.. فالآفاق المعرفية تفتح الباب على مصراعيه للغة الحوار العقلاني القائم على أساس احترام خصوصية الآخر. كذلك المعرفة تمثل تصالح الإنسان مع حريته؛ فالنهضة المعرفية هي ثورة في عالم الأخلاق، ومن هنا يعمل المعرفي -أيْ من يمتلك معرفة- على جعل الحب فلسفة تعايش تخرج عن كونها عاطفة داخلية إلى العالم، وتعمق في مدلولاتها الحياة ودفع الإنسان من خلالها للبذل والعطاء، من أجل اجتماع المعرفيين في أنحاء الوجود للحوار. والوسائل التي ترتكز عليها المعرفة أو المعرفي في نشر أفكارهم، هي وسائل معرفية ترتقي وتسمو عن أسباب العنف والإكراه والتهميش والإقصاء.. إنها تعتمد على مخزون الإدراك في تفعيل قيم الحوار والتعايش، من أجل ابتكار الرؤى والأفكار الجديدة، لأن المعرفة ما هي إلا أفكار تسمو بالحب والتعايش فوق الأطر الأيديولوجية الهدامة التي يسعى لنشرها والترويج لها دعاة الجهالة والإقصاء. وبناء على ذلك، تعمل الوسائل المعرفية على إثارة وتحفيز الأخلاق والقيم السامية لبيان الأفضل ونبذ الإقصاء، وبناء جسر من التواصل بين المجتمعات والحضارات.. هذا الجسر قائم على أساس راسخ وفعال من الحوار، وجعل هذا الحوار هو الأساس وهو الغاية، وذلك من أجل الوصول إلى الغاية القصوى وهي التعايش بين الحضارات والأفراد والمجتمعات، في ظل علم يموج بالتغيرات السريعة على مستوى الأصعدة.

وإذا نجحت المعرفة في بناء هذا الجسر من التعايش والحوار بين الأفراد والمجتمعات، سوف ينعم المجتمع بالأمن والأمان والاستقرار، وسوف تتحقق كل الأمنيات والغايات في إقامة مجتمعات متحابة تنبذ العنف والكراهية والإرهاب.

فالمعرفة تسعى إلى تفعيل رابطة واحدة من الإخاء والتعايش بين أفراد المجتمع، كما أنها تعمل على إزالة الحواجز بين الدول والأفراد؛ من أجل بناء مجتمع حواري يقوم على التعايش، والاعتراف بالآخر، والبعد عن الإقصاء والعنصرية.. ومن هنا، تتوافق المعرفة مع الأديان في نظرتها على تهذيب الأخلاق والسلوك البشري، والارتقاء به إلى أقصى درجة. كما تعمل الأخلاق وتسعى بقوة، من أجل تحسين القدرة التكيفية للتعايش البشري دون ارتكاب العنف الذي يرتكبه الذين يعانون من نقص فائض في العاطفة والتوازن الداخلي. من ثم، ترسخ المعرفة وتعمل على تأسيس أنظمة تعددية ديمقراطية للحكم، من خلال دمج كافة المؤسسات السياسية والثقافية والاجتماعية، واشتراكهم في تداول الإدارة والانفتاح الاقتصادي.

فالمعرفة دائمًا ما تبرهن على حقيقة القيم والاعتراف بها في توجيه سلوك الفرد والمجتمع، وتعمل على ترسيخ تلك القيم من تسامح وتعايش وحوار يسري ويشيع بين أفراد المجتمع الواحد حتى لو وجدت خلافات أو تعددية في الأديان أو المذاهب الثقافية. إذن، يجب تعزيز المحتوى المعرفي ودعم المثقفين والكتاب، ودُور النشر محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، للاضطلاع بدورهم المنوط بهم في دعم قضايا الحوار والتعايش والتسامح، باعتبارهم قادة الرأي ولديهم من الأفكار والمبادرات والإبداعات ما يمكنهم من تعزيز هذه القيم السامية مجتمعيًّا وإنسانيًّا.

لا شك أن تعزيز قيم الحوار والتعايش سوف يقضي على العنف، ويبني نهضة مجتمعية كبيرة تساهم في إحداث تقدم مجتمعي وحضاري، كما يحقق التنمية المنشودة في كل مجتمع. ولذلك لن يتحقق الاستقرار في جميع المجالات إلا إذا رسخنا لثقافة الحوار والتعايش والتنوع الفكري في نفوس المجتمع. فإرساء قواعد الحوار والتعايش، تعمل على حل المنازعات داخل المجتمع وإزالة الخلافات ورسم آليات للتفاهم. ولعل من أهم وسائل المعرفة التي تعمل على إرساء قيم الحوار، هو دور المؤسسات التعليمية كمؤسسات معرفية تلعب دورًا محوريًّا في ترسيخ وإرساء قيم الحوار والتعايش والتسامح في أذهان الطلاب. لذا، ينبغي أن يزوَّد الطلاب بفن الحديث والإقناع وقواعد الحوار وثقافة السلام، وأن تعزز حصص الطلاب بساعات للنقاش والمناظرات العلمية والفكرية.. كما ينبغي على المعلِّم أن يحصن نفسه بمهارات الاتصال وعلوم التنمية البشرية، كي يكون قادرًا على العطاء والبذل. هذا في مستوى التعليم ما قبل الجامعي.

أما في التعليم الجامعي الذي فيه يتشكل ذهن الطالب في مرحلة مهمة من حياته، فإنه يجب على الجامعة أن تعزز الحوار كمطلب أساسي في تكوين المهارات وتعزيز القدرات الفردية والجامعية، وتجعله ركيزة أساسية أولى في التفاعل بين مختلف العناصر التعليمية، خصوصًا بين الطلبة والهيئة التدريسية؛ مما يساهم في تعميق ثقافة الحوار والنقاش والتعايش مع الآخر وتقبله.. كما يساهم في تنمية القدرات الحوارية وتفعيل التفكير الناقد الذي يفتح آفاق التعايش والحوار بين أفراد المجتمع.

وفي هذا السياق، نشير إلى أنه لما كان الحوار عملية حيوية لنقل الأفكار بين المجتمعات وتنمية القدرات الشخصية لدى الأفراد نحو قضايا محددة ومعينة، فإن أفضل الميادين خصوبة من أجل تعزيز ثقافة الحوار وتنميتها، هو ميدان التربية والتعليم ومؤسساتها المختلفة، وهي من الوسائل المهمة التي تعنى بنشر الوعي وغرس القيم، وتنمية القدرات وصقل الشخصية بالأفكار.. وبالتالي فإنه من الطبيعي القول بضرورة تحمل المؤسسات الجامعية المسؤوليةَ في تأسيس وترسيخ ونشر ثقافة الحوار والتعايش بين طلبتها، عبر تحويل فكرة احترام رأي الآخر والتحاور سلميًّا، إلى برنامج عملي سلوكي ومعرفي، وأسلوب يرفع الشباب إلى اعتماد المعلومة الموثقة، وتبادل الخبرات مع الأساتذة والزملاء من خلال أسلوب الحوار في الوسط الجامعي ابتداء، إلى الوسط الاجتماعي الأوسع.. مع ملاحظة أن الشريحة الطلابية عامة والجامعية خاصة، يجب أن تسهم بدور كبير وأساسي ومحوري في عملية نشر ثقافة الحوار والتعايش في المجتمع.

ومن هنا نشير إلى أنه للوصول إلى إنسان الحوار ومجتمع الحوار وثقافة الحوار والتعايش، فلا بد من توفير مناخ تسود فيه حرية التعبير عن الآراء وحرية التفكير، وهذا الذي دفع عددًا من المؤسسات التربوية إلى الدعوة إلى تأسيس ثقافة حوارية بين أبناء المجتمع الجامعي، من أجل بلورة مجتمع حواري يعيش فيه الأفراد متساوين في الحقوق والواجبات. ومن هنا برزت دواعي تعزيز الحوار في البيئة الجامعية من أجل ضمان استقرار المجتمع.

أيضًا، من الوسائل المعرفية التي تعمل بفاعلية على ترسيخ قيم الحوار والتعايش؛ الصحافة. فالصحافة -بمختلف أنواعها- تلعب دورًا محوريًّا في توجيه الجماهير، وتدفعهم إلى تبني سياسات محددة تجاه قضايا معينة. ولا يختلف اثنان في عالمنا المعاصر، على أن كبريات الصحف والقنوات العالمية، لها الأثر الكبير في القرارات المحلية والدولية، كما أنها تسهم بشكل كبير في إرساء قيم الحوار والتعايش.