لماذا يختنق القلم؟ مثل هذا السؤال قد يتعجب له المرء ويدهش، هل تختلف طبيعة مهنة القلم من حيث القيمة والتأثير عن غيرها في المهن الأخرى؟
على أية حال إن إجابة هذا السؤال هي أن مهنة القلم لا يقول عنها أصحابها بأنها أفضل من غيرها، ولكن غيرهم هو الذي يجيب، والإجابة بالطبع تعتمد على استقراء التاريخ، وواقع الحال.
القلم هذه الأداة ـ الصغيرة ـ العجيبة الغريبة التي تصنع المعرفة والثقافة وبها الملايين من الكتب والدواوين الشعرية والروايات والمجلدات الضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية.. فالقلم هو ما يكتب به، وقلم الحبر: قلم مداده مخزون لا يسيل على سنه إلا وقت الكتابة، وقلم الرصاص قلم سنه من الجرافيت لا مداد له، ولأن إنجازات القلم كبيرة ورائعة فذلك يدفعنا لمعرفة المزيد عنه.
ورد ذكر القلم في القرآن الكريم أربع مرات حيث جاء مرتين بصيغة المفرد، ومرتين بصيغة الجمع، فورد بصيغة المفرد في قوله تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ (القلم:1)، وقوله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق:3/4).
كما ورد بصيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران:44)، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان:27)
ومن شواهد التاريخ كلمات عظيمة وجليلة، واضحة وسديدة في القرآن الكريم، حين خص ما يسطره القلم بالتعظيم والتكريم، بقوله عز وجل “ن والقلم وما يسطرون”، فهي إشارة كافية على ما لهذا القلم، وما يخطه من قيمة جليلة يقسم بها رب السماوات والأرض.
إن الكلمة التي تخطها الأقلام حمل على أجنحتها الكثير من المعاني والدلالات، يكفي أن يقال عنها أنها “فرقان بين نبي وبغي”، وإذا كانت كذلك فهي تستتبع الإيمان الذي يتحتم أن يملأ قلب صاحبها حتى تصل إلى قلوب الناس وهل هناك من يستطيع أن يمنح هذا الإيمان مثلما يستطيع كاتب صدق وأخلص؟
- رسول القرن الأول
وقد زخر التراث العربي بوصف القلم وذكر فضائله لأهميته العظيمة فهو رسول القرن الأول، وخادم الدول وحافظ الملل والنحل.. وبه يكتب العلم وينتشر، وكل العرب الأقدمين أدركوا ما للقلم من قيمة وما لصاحبه من قيمة و ما لهذا الذي يكتبه من أثر، فهذا الزبير بن بكار يقول: “الكتاب ملوك وسائر الناس سوقة”، وقال ابن المؤيد: “هم عيون الملوك المبصرة، و آذانهم الصاغية وألسنتهم الناطقة”، ويقول الفضل بن أحمد: “للكتاب أقرت الملوك بالفاقة و الحاجة، وبهم اعتصموا في النازلة والنكبة، وعليهم اتكلوا في الأهل والولد”، وعلي بن خلف: “ما من أحد يتوسل إلى الملوك والسلاطين بالأدب، و يمت إليهم من العلم بنسب إلا و هو نافله لا ينال ما يناله إلا على سبيل الإشفاق.. وأما الكاتب فإنه ينال ما يناله من الرغائب والميزات عن طريق الاستحقاق بسبب الحاجة إليه”.
في الشعر العربي صدحت قصائد كثيرة تغني بالقلم ومديحه فهذا ابن الرفاء يصفه بالأخرس الناطق، وكالعاشق الذي يخفي هواه وتتم عنه دمعة من عينه، ولعل من أجمل ما مدح به الكاتب وما يكتب قول ابن المعتز شعرًا:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نورًا أو تنظم جوهرًا
وغير العرب الأقدمين نجد الأجانب يحتفلون بالكاتب وما يكتب، فيرددون في أقوالهم كلمات كاتب روسيا الخالد تولستوي حين يتغنى بفضل الكتابة، “إن الله خلقني كي أصف عالمه عن طريق الكتابة.. ألا ما أروع فن الكتابة وما أشد طهارة إبداعها”، أو كلمات “توم بن” الذي يغرد للحرية التي يطلبها الكاتب أينما تكون فيقول: “حيث لا حرية فثمة وطن” إشارة إلى أنه حيث تضار الحرية وتضطهد فسيكون وطنه ليدافع عنها، أو أفكار “إمرسون” المستقبلية: “الكاتب الجديد حادث عظيم في تاريخ الأمم”، أو أقوال “سارتر” التي تعبر عن دور الكاتب في مجتمعه: “الكاتب وسط المعركة ملحوظ وشريك حتى في أقصى حالات عزلته”.
- الإجهاد والاختناق
من واقع الحال لو سألت واحدًا من أصحاب مهنة القلم هل يتميز عن غيره من أصحاب المهن الأخرى لأجابك على الفور: ليتني أتساوى مع واحد من هؤلاء الذين تنقطع صلتهم بأعمالهم لحظة الخروج من أبوابها.. حتى يتحقق لي قدر من الحياة الطبيعية التي ينعمون بها”، وهذا حق، فليس هناك من ينفق الأربعة والعشرين ساعة مشغولاً بعمله غير أصحاب مهنة القلم، وليس هناك من يواجه المتاعب النفسية والجسدية أكثر من أصحاب مهنة القلم، وأي متاعب؟ إنها متاعب ممن نعمل لهم ومعهم من أصحاب الطغيان الأدبي، فمنهم من يشبه القطط التي تنتظر منك أن تمر بكفك مرورًا خفيفًا على شعرها، ولكن في اتجاه واحد، فإذا أنت غيرت هذا الاتجاه نالك من مخالبها الشيء الكثير، وميدان الناس ألا يعدم واحد يخطر على باله شيء اسمه التطور الذي يخدم الصالح العام.
ولكن ما العمل.. وكلمة الحق كثيرًا ما تؤلم ويغضب منا الإخوة والأصدقاء؟! ما العمل وخط الحرية الذي يسير عليه صاحب القلم قد يضيق في أمم حتى يصير كالصراط، وقد يتسع في أمم أخرى حتى يعطي الماشي فوقه كثيرًا من السعة.. وحتى هذه الحرية مقرونة دائمًا بالمسئولية والالتزام.. هي أشبه ما تكون بالحسناء الفاتنة التي يكثر عدد محبيها.. إلا أن القليل منهم الذين يحافظون على قدسيتها ولا يعبثون بها، فكيف إذن تكون صيانة هذه الحرية من العبث؟ هذا يتوقف على وعي صاحب القلم ومدى إدراكه للخط الرفيع بين الصالح والطالح، الخير وغيره.
- الويل لو اختنق القلم
واقع الحال يقرر أنه ليست هناك مهنة من المهن تجري في عروق أصحابها مجرى الدم مثلما تجري مهنة القلم لمن يكابدها.. فتراه مهمومًا بها في ليله ونهاره، في صحته وعلته، في شبابه وشيخوخته، في وحدته وبين جماعته، ونرى من بين أهل هذه المهنة زملاء أعزاء هم أقرب من الأهل والولد، يجوب الواحد منهم العالم شرقه وغربه بحثًا عن طِبه وعلاجه، ولكنه مع ذلك يكتب للناس فكره وهو طريح فراش المرض، نرى من يسقط صريعًا في عمله لتحمله أيدي زملائه إلى غرف العناية المركزة بالمستشفيات، ولكنه يكتب وخراطيم المحاليل والدم مغروسة في أوردته متناسيًا تحذيرات أطبائه ورجاء أهله وأصدقائه.. نرى نماذج كثيرة في هذه المهنة قد تمكنت منهم محبتها حتى النخاع، فلا يستطيعون عنها حِوَلاً.. وهو ما لا تجده في أي مهنة أخرى، نرى تضحيات أصحاب هذه المهنة بأرواحهم حتى قال عنهم الشاعر “بيتس” بأنهم: “المغامرون بأرواحهم بشكل يجعلهم لا يقلون عن الذين يغامرون بأجسادهم في سبيل غيرهم”. وصدق الذي قال عن أصحاب مهنة القلم.. بأنهم شموع تحترق لتنير لغيرها طريق الحياة، فرفقًا بحملة الأقلام”.
هكذا نجد أن للقلم سحره وبيانه في تسطير أروع الأبيات وأجمل الروايات وأبدع المسرحيات وسجله سجل خالد عبر العصور والدهور، وفي عصرنا الحالي تطور القلم حتى أنه أصبح يقزم بترجمة اللغات تلقائيًّا، فإذا كنت من هواة قراءة الكتب الأجنبية أو الصحف مثلاً وعدم معرفة معاني الكلمات جميعها أو لفظها يسبب لك الملل عند الرجوع للمعجم في كل مرة، فقد ابتكر العلماء حلاً قد يعجبك وهو: المترجم السريع، فبمجرد وقوفك على الكلمة يقوم بترجمتها.. ليس هذا فقط، بل يترجم العبارات ويمكنه أيضًا قراءة النص المترجم بصوت عالٍ. ولكن الويل كل الويل إن اختنق القلم.
المراجع:
ابن النديم – الفهرست – ج1، ص 15 – دار المعرفة – بيروت – 1978 م.
الجاحظ – البيان والتبيين – ج 1، ص 57 – ط1 – تحقيق فوزي عطوي – دار صعب – بيروت 1968م – أبن منظور المصري – لسان العربي – ج8، ص 413 – ط1 – دار الصياد – بيروت 1990م.
سامح كريم – قضايا معاصرة – الأهرام الأدبي – 1999 م.
د. بسمة سيف – القلم هل ينقرض أم يعيش قرونا أخرى ؟ – مجلة أحوال المعرفة –العدد 41 .