النظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن

إن الباحث والمتتبع الحصيف للمسار التاريخي للتراث الإسلامي العربي يلحظ بجلاء ذلكم الحضور القوي للتداخل والتكامل بين العلوم التي نشأت داخل الحقل المعرفي الإسلامي، وهو حضور جعل التكامل من أبرز سمات علوم التراث ومن خصائصها الجلية، فالتكامل يمثل «الإطار المرجعي للمنهجية الإسلامية، وهو تكامل منهجي شامل في مصادر المعرفة، وفي أدوات المعرفة، وهو أيضًا تكامل بين المصادر والأدوات».

وقد تنبه العديد من العلماء والدارسين للتراث الإسلامي العربي إلى هذا المعطى العلمي البارز، وكشفوا عنه في سياق دراساتهم للعلوم الإسلامية من حيث أهميتها وتصنيفها وترتيبها، ولذلك هيمنت دعوى المنهج التكاملي على دراسات العديد من الباحثين والمفكرين في العقود الأخيرة، ومن أبرزهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الذي قدم إسهامات متميزة ونظرية مبدعة في هذا المجال، وأكد على الحضور البارز للتكامل المعرفي بين جميع العلوم التي نشأت وتطورت ونمت في أحضان التراث الإسلامي العربي، كما أوضح أواصر القرابة المنهجية التي تجمع بينها على اختلاف موضوعاتها.

وتبعا لهذا التقديم سأحاول – في هذه الورقة – بيان رؤية طه عبد الرحمن لنظرية التكامل المعرفي في التراث الإسلامي من خلال ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: نظرية طه عبد الرحمن التكاملية: دوافعها ومبادئها العامة.

المبحث الثاني: أسس وقواعد النظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن.

المبحث الثالث: محددات النظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن

المبحث الأول: نظرية طه عبد الرحمن التكاملية: دوافعها ومبادئها العامة.

دوافع وضع النظرية التكاملية:

اقتنع طه عبد الرحمن بأهمية التراث وبعلاقتنا معه من حيث موضوعه ومنهج قراءته يقول: «نحن في التراث كما نحن في العالم لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه»، فالتراث في نظره ملازم لنا ولا سبيل للانفكاك عنه بدليل تكاثر الأعمال المشتغلة به دراسة وتقويمًا، ولأنه أداة لدعم الإبداع ووسيلة لتثبيت الهوية وتحصينها، «فلا إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتدّ في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل… ففي الماضي وفي إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه»، وهذا ما دفع طه عبد الرحمن إلى الاشتغال بالدرس التراثي والكشف عن البعد التداخلي والتكاملي القائم بين علومه بعد دراسته له، حيث اعتبره أحد المداخل المعرفية الرئيسة لبناء أي مشروع فكري، مؤكدًا على: «أن العلاقة التداخلية والتكاملية، كانت هي الصفة البارزة، والمسيطرة على جميع العلوم التي نشأت وتطورت ونمت في أحضان الثقافة العربية الإسلامية»، كما ذهب إلى أنه لا مفر لنا من التداخل والتكامل في العلوم فهو قدر محتوم، وأن «المعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلاً كاملاً، بحيث يبدو الفقه موصولاً بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولاً بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قوي بين المعارف إلى حد أن بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه…».

وهكذا كانت أغلب كتابات طه عبد الرحمن تنبني على النظرة التكاملية بين العلوم وتؤسس لها محاولة تجاوز الاختلالات التي اتسمت بها الخطابات التفاضلية والتجزيئية التي قال بها غيره، وهي الخطابات التي لا تفي بالطابع التكاملي للعلوم التراثية، حيث يغلب عليها الاشتغال بالمضامين دون الالتفات إلى المناهج والآليات التي أنتجتها، كما تتوسل بآليات منقولة من الفكر الغربي أنزلتها إنزالاً تعسفيًّا – دون تمحيص ولا تبيئة – لتقويم وعقلنة التراث الإسلامي العربي، هذه العقلنة التي كان مآلها القطع مع تراثنا والانغماس في تراث غيرنا الذي يتصادم مع قيمنا ومبادئنا، وهو ما أدى بهذه الخطابات إلى السقوط في مأزق الاختزالية والتفاضلية والتقليد.

وتبقى نظرية طه عبد الرحمن التكاملية للتراث أكثر تفصيلاً ووضوحًا عنده في كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث” الذي ألفه من باب انشغالاته بالمنطق وفلسفة اللغة أولاً، وفي سياق طغيان الأحكام القيمية على التراث المقيَّدة بقناعات إيديولوجية أو بمنطلقات منهجية غربية ثانيًا، وهي الأحكام التي تجعل منه تراثًا تقليديًّا ماضويًا ليس في مستوى الحداثة وتطورات العصر، وقد اجتهد طه عبد الرحمن في إبطال هذه الأحكام والتأكيد على أنها لا تنبني على أسس علمية قوية ولا على أرصدة معرفية متينة، كما أن دوافعها غير علمية، فقد طغت عليها “الفكرانيةوالتقليد” وإن ادعت الموضوعية والسببية والإجرائية، وهي تجزيئية وإن ادعت الشمولية، إنها تستعمل من الآليات المنهجية ما لا يتلاءم مع خصائص الموضوع الذي تدرسه وتقومه (أي التراث)، ومن ثم وجب “تجديد المنهج في تقويم التراث”، حيث: «إن الآليات المنتجة للنص التراثي مازالت غير مدروسة وغير معروفة، إذ ظلت إلى وقتنا هذا خارجة عن مجال اهتمام واشتغال الباحثين في التراث»، وهكذا دعا إلى قراءة تكاملية للتراث تقوم على اكتشاف المناهج والآليات التي أنتجته وتراعي المجال التداولي الذي نشأت فيه، على أساس أن بعض مضامين التراث مرتبطة ببيئتها وبسقف المعرفة في زمانها، فبالنظر إلى الآليات والمناهج التراثية يمكن إعادة تفعيل الكثير منها لإنتاج معرفة تنسجم مع زماننا، فأزمة الأمة – في نظره – هي أزمة منهج بالأساس.

المبادئ العامة للنظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن

سعيًا منه إلى الخروج من أسر التقليد المنهجي، وتجديد المنهج الذي تم التعامل وفقه مع التراث من لدن بعض مفكري العالم الإسلامي أقام طه عبد الرحمن منهجه التكاملي المعرفي على مبادئ نظرية وعملية قيد نفسه بها واتبعها في قراءته للتراث الإسلامي والرد على خصومه.

المبادئ النظرية وهي ثلاثة:

أولها: التخلص والتحرر من الأحكام المسبقة أو الجاهزة على التراث التي اعتاد بعض الباحثين المتساهلين إرساءها بصدد التراث ونشرها بين جمهور المشتغلين به، وهي في غالبها تبتعد عن المعرفة الموضوعية وتنحرف عن سلامة النظر وعن متطلبات المقتضيات العلمية.

ثانيها: تحصيل معرفة شاملة بمناهج المتقدمين من علماء الإسلام ومفكريهم في مختلف العلوم، ومزاوجتها مع معرفة كافية بالمناهج الحديثة تمكن من القدرة على تجاوز طور تقليد المناهج واقتباس النظريات إلى طور الاجتهاد والإبداع في اصطناع المناهج ووضع النظريات.

ثالثها: استخدام أنسب الوسائل في وصف كل قسم من أقسام التراث والإلمام الشامل بها، سواء تواتر لعظيم قدره عند الباحثين أم لم يتواتر، حتى تكون الأحكام التي نصدرها في حق التراث حاصلة بتصفح أقصى ما يمكن من جزئياته المختلفة والانتباه لأدقها.

المبادئ العملية وهي أيضًا ثلاثة:

أولها: عدم الفصل في الحكم على التراث بين الجانب المعرفي والجانب السلوكي وهو الفصل الذي وقع فيه العديد من المشتغلين بالتراث، ذلك لأن التراث الإسلامي هو ثمرة التسديد بواسطة الشرع، فلا يهتدي إلى إدراك حقائقه وتحصيل أصح السبل في تقويمه من قطع الصلة بالشرع وترك العمل بما جاء به.

ثانيها: وجوب تحصيل المعرفة بأصول العمل في التراث؛ وهي “المنفعة في العلم” و”الصلاح في العمل”، و”الاشتراك في طلب الصواب”، لأن عقل التراث عقل واسع وعلمه علم نافع يجمع بين النظر في الأسباب ومقاصد العمل بها.

ثالثها: الاجتهاد في تجديد تكويننا العقلي بالتزام المقتضيات العملية للتراث، بترك العلم المنفك عن العمل، والعمل المنفك عن النفع في الآجل، والصواب المنفك عن الاشتراك، ونستعيد وحدة العلم والعمل والصواب.

وهكذا ألزم طه عبد الرحمن نفسه بهذه المبادئ النظرية والعملية التي أفضت به إلى الاعتماد على المسلك الحواري الموصول بما يعرف في التراث الإسلامي بطريقة أهل المناظرة، التي شملت جميع دوائر المعرفة الإسلامية، وقام بتطعيمها وتجديدها بوظائف من المنطق الحجاجي المعاصر، ويتضح ذلك في قوله: «إذا كان أهل المناظرة قد أخذوا بآليات منطقية ولغوية محددة توافق معارف عصرهم في علوم الآلة، فإننا أخذنا من جانبنا، بطرق منطقية ولغوية تناسب النظريات المنطقية والحجاجية واللسانية المعاصرة؛ كما ألزمنا أنفسنا بأن تكون الآليات التي نستعملها ملائمة في خصائصها للموضوعات التراثية التي ننزلها عليها، فالموضوع التراثي، عمومًا، مبني بناءً لغويًّا ومنطقيًّا مخصوصًا، ولا يمكن وصفه وصفًا كافيًا، ولا تعليله تعليلاً شافيًا، إلا إذا كانت الوسائل التي تستخدم في وصفه ونقده ذات صبغة لغوية ومنطقية»، وفي نص آخر وصف منهجيته بقوله إنها: «منهجية تحتية، وهي منهجية المناظرة باعتبارها الممارسة الحوارية التي اختص بها المسلمون، والتي جعلنا منها موضعنا المتميز الذي ننظر فيه ونحلله ونقومه؛ ثم منهجية فوقية، وهي المنهجية التي توسلنا بها في تحقيق هذا النظر والتحليل والتقويم»، ومما يميز البناء المعرفي داخل مجالس الحوار والمناظرة هو أن النظر يكون من جانبين، «وليس النظر من جانب واحد كالنظر من جانبين»، وقد استعمل منهجيته الحوارية هذه في إبطال دعوى “بيانية العقل العربي” عند محمد عابد الجابري، ودعوى “شرعانية العقل الإسلامي” عند محمد أركون.

المبحث الثاني: أسس وقواعد النظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن

بواعث التكاملية بين العلوم

إن الحديث عن استقلالية العلوم الإسلامية عن بعضها البعض لا يعني البتة القطيعة فيما بينها، فهي متفرعة عن أصل واحد خادمة له ومتعلقة به، فكل العلوم التي نشأت في أحضان التراث الإسلامي تتداخل وتتكامل فيما بينها، وهو تداخل له صلة بظروف نشأتها وتطورها والباعث على تحصيلها، وقد طرأ نوع من الاختلال على هذا التداخل والتكامل في مسيرة الاشتغال بها، وذلك راجع  بالأساس إلى الغزو الفكري الغربي وما سببه من اضطراب في نظرية المعرفة الإسلامية، وترجع أسباب التداخل والتكامل المعرفي في العلوم الإسلامية أساسًا إلى مرجعية ومركزية النص الشرعي المؤسِّس الذي يعتبر أس هذا التكامل والتداخل، باعتبار أن الوحي هو الناظم المرجعي والمنهجي الذي يوحد وجهة كل العلوم الإسلامية وكل المعارف التي نمت في أحضان الثقافة الإسلامية، فهي جميعها تنتظم داخل وحدة المرجع ووحدة الغاية العظمى للوجود، وبذلك يمكن القول: أن هذه الوحدة المرجعية التي تجمع كل العلوم هي السبب الرئيس في بناء أواصر القرابة المنهجية والباعث الأساس لهذا التكامل والتداخل المعرفي الحاصل في الثقافة الإسلامية، فبفضلها نشأت هذه الشبكة المتكاملة والمتداخلة من العلوم من فقه وحديث وأصول وتفسير وعلوم الآلة وغيرها.

النظرة التكاملية للتراث

يقوم المنهج التكاملي عند طه عبد الرحمن على نظرة تتجه إلى «البحث في التراث-آليات ومحتويات- من أجل معرفته من حيث هو كذلك، على اعتبار أنه كامل متكامل لا يقبل التفرقة بين أجزائه، وأنه وحدة مستقلة لا يقبل التبعية لغيره»، وهو ما يقتضي أن الاشتغال بالتراث وبتقويمه يجب أن يكون تكامليًّا، بالنظر في المحتويات العلمية والمعرفية التي يتضمنها وربطها بالآليات التي أنتجتها، والتي تعتبر أسس مولدة للمعرفة الإسلامية ومناهج للبحث والقراءة، وذلك حتى يكون التقويم متجانسًا، فالتراث وحدة متناسقة لا تقبل التجزئة ولا التفاضل، فلا تفاضل بين النظر والعمل وإنما ثمة تكامل وتداخل بينهما قائم على تكاملية النظر الملكوتي المؤسس للنظر الملكي، ولتحقيق هذا النظر التكاملي وجب استخراج هذه الآليات المنتجة للمعارف التراثية وبذل الجهد في التوسل بها في النظر إلى المضامين بدل التوسل بغيرها.

وهكذا صاغ طه عبد الرحمن دعوى هذه النظرة التي سماها “دعوى التقويم التكاملي” بقوله: «إن التقويم الذي يتولى استكشاف الآليات التي تأصلت وتفرعت بها مضامين التراث كما يتولى استعمالها في نقد هذه المضامين يصير لا محالة إلى الأخذ بنظرة تكاملية إلى التراث»، وقد ترتب عن هذه الدعوى ثلاث مقدمات:

الأولى سماها “مقدمة التركيب المزدوج للنص” وهي: «أن كل نص حامل لمضمون مخصوص، وأن كل مضمون مبني بوسائل معينة، ومصوغ على كيفيات محددة، بحيث لا يتأتى استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص إلا إذا أحيط علمًا بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية»، أراد طه عبد الرحمن بهذه المقدمة إبراز الأهمية الكبيرة للوسائل والكيفيات التي تدخل في بناء المعرفة التراثية في استيعاب المضامين، مما يوجب على المشتغل بالدرس التراثي الاهتمام بالكشف عنها والتوسل بها.

الثانية سماها “مقدمة تنقل الآليات الإنتاجية” وهي: «أن الآليات الإنتاجية تختص بكونها تقبل أكثر من غيرها التنقل من حقل فكري إلى آخر والتجول بين مختلف حقول المعرفة وأصناف العلوم، حتى إن الآلية الواحدة قد تشترك في استخدامها علوم متباينة في مقاصدها ووسائلها، ولا يخرجها عن وصف الشمولية ما قد يلحقها من تلونات حقلية»، هذه المقدمة تؤكد على أن الآليات الإنتاجية تتنقل بين الحقول المعرفية وغير مرتبطة بحقل علمي دون غيره.

الثالثة سماها: “تشبع التراث بالآليات الإنتاجية” وهي: «أن آليات إنتاجية دقيقة ومتنوعة استحكمت في مضمون النص التراثي استحكامًا يدل على أن واضع هذا النص مُتمهِّر في هذه الآليات بحيث لا يمكن فهم هذا النص التراثي حق الفهم ولا تفهيمه حق التفهيم بغير معرفة تامة بأصول وفصول هذه الآليات»، وهي مقدمة تؤكد على محورية الاشتغال بالآليات الإنتاجية في الدرس التراثي، نظرًا لاستحكامها في مضمونه، مما يجعل استيعاب المضامين رهين بالمعرفة التامة بالآليات المنتجة لها، فالاشتغال بالآليات «مقصد حقيقي من المقاصد الأصلية لهذا التراث وقيمة جوهرية من قيمه الراسخة».

قواعد النظرية التكاملية عند طه عبد الرحمن

إن قراءة التراث الإسلامي قراءة علمية تستوفي شروط المنهج العلمي الرصين تقتضي عند طه عبد الرحمن الالتزام بأربع قواعد منهجية وهي كما يلي:

  1. الاعتناء بآليات ومناهج النص التراثي، والتوسل بها في فهم مضامينه، وخاصة الآليات اللغوية والمنطقية، فالعلوم التي نشأت في أحضان التراث لا يمكن فهمها وتقويمها إلا من داخله.
  2. استخراج هذه الآليات وتحديث إجرائيتها وفق المستجدات المنهجية لتأهيلها لمواصلة العطاء والإنتاج المعرفي.
  3. التمحيص والنقد لكل آلية مقتبسة من خارج المجال التداولي الإسلامي قبل تنزيلها واعتمادها في تقويم التراث، ومثال ذلك آلية العقلانية الغربية التي تختلف عن عقلانية التراث الإسلامي، حيث إن «عقل التراث عقل واسع يجمع، إلى النظر في الأسباب، النظر في المقاصد، وعلمه علم نافع يجمع، إلى النظر في الأسباب والمقاصد، العمل بها وفق ما يفيد الغير ويفيد الآجل، بينما عقل الآليات المنقولة عقل ضيق يقطع الأسباب عن مقاصدها، وعلمها علم مشبوه، لا يوجب العمل ويحتمل الضرر؛ وشتان بين العقلين وما بين العلمين!».
  4. اعتماد التنقيح –أو التلقيح- المزدوج للآليات، وعدم الاقتصار على تنقيح –أو تلقيح- الآليات الإسلامية العربية بواسطة الآليات الغربية، بل كذلك يجب أن «تنقح –أو تلقح- الآليات الغربية بواسطة الآليات الإسلامية العربية، لأن من شأن هذا التنقيح –أو التلقيح- المزدوج أن يفتح طريق الإبداع للمفكر العربي، إذ يجعله من جهة يخصب الآليات الأصلية ويبعث فيها الحياة، ومن جهة ثانية يفتح في الآليات الحديثة آفاقًا لم تخطر على بال واضعيها».

إن التنقيح –أو التلقيح- المزدوج والمنصب على الآليات الإسلامية والغربية يجعل النظر إلى التراث أكثر مصداقية وأمانًا، فطه عبد الرحمن لم يتوسل من الحداثة الغربية إلا وسائلها الملائمة لأصول مجالنا التداولي الإسلامي العربي والخادمة لإشكالاتنا، وهكذا يكون قد فتح باب استئناف الإنتاج والإبداع بتجديد الآليات والمناهج وبالتبع تجديد العطاء المتمسك بخصوصيتنا والموصول بتراثنا لإغناء المعرفة الإنسانية جمعاء، «ولما كانت وسائله في تقويم التراث مستنبطة من داخله بواسطة منهجية بالغة الحداثة، فإنها لا تضاهي الوسائل الحديثة المنزلة على التراث من خارجه في قيمتها الإجرائية فحسب، بل إنها تفوقها في هذه القيمة، ذلك أن شرط المجانسة بين الموضوع والوسيلة المطلوب في كل منهجية صحيحة يتحقق في وسائله على وجه التمام».

المبحث الثالث: محددات المنهج التكاملي عند طه عبد الرحمن

صرح طه عبد الرحمن أنه من أبرز الآليات التي توسل بها واستند عليها في مقاربته للتراث الإسلامي هي مبدأ التكامل والتداخل بين العلوم، متجاوزًا بذلك النظر التجزيئي التفاضلي، وأكد ذلك بقوله: «ولقد نحونا في تقويم التراث، منحى غير مسبوق، ولا مألوف، ولا معهود. فهو غير مسبوق، لأننا نقول بالنظرة التكاملية، وحيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف؛ لأننا توسلنا فيه بأدوات مأصولة، وحيث توسل غيرنا بأدوات منقولة»، وبذلك أحدث طه في الدرس التراثي منقلبًا فكريًّا جديدًا وانعطافًا يقطع مع مناهج الحداثيين، كما يتدارك ما أغفله رواد النهضة الإسلامية، وقد انطوى منهجه التكاملي على ثلاث محددات أحصاها كالآتي:

  1. المحدد التداولي: وقد اصطلح عليه “المجال التداولي الإسلامي العربي”، وهو أهم أصل يقوم عليه المنهج التكاملي عنده، والدعامة الأساس التي تستند إليها نظريته في تكامل التراث، حيث إن لكل أمة مجالاً تداوليًّا خاصًّا يؤطر خصوصياتها المعرفية، ويحافظ على تماسكها وعلى أصالتها أمام الأفكار والمعارف المستوردة من مجالات تداولية أخرى، وقد صاغ دعوى لهذا المحدد سماها “دعوى التداول الأصلي” مفادها أنه: «لا سبيل إلى تقويم الممارسة التراثية ما لم يحصل الاستناد إلى مجال تداولي متميز عن غيره من المجالات بأوصاف خاصة، ومنضبط بقواعد محددة يؤدي الإخلال بها إلى آفات تضر بهذه الممارسة»، بمعنى ضرورة الاستناد إلى المجال التداولي الإسلامي العربي لضمان صحة وعلمية تقويم الممارسة التراثية باعتباره محددًا قويًّا يجب استحضاره عند دراسة التراث أو تقويمه ومظهرًا من مظاهر الإنتاجية في التراث، ولذلك اعترض طه على استعارة آليات قراءة التراث وتقويمه من مجال تداولي آخر دون التعمق في أسرارها وما تحمله من قيم قد تضر بأصول المجال التداولي الإسلامي العربي.
  2. المحدد التداخلي: ومفاده عند طه عبد الرحمن أن «المعرفة التراثية تشترك اشتراكًا في وسائل إنشاء مضامينها ونقلها ونقدها، كما تشترك في وسائل العمل بها»، أي أن علوم التراث تتداخل في مسائل إنتاج محتوياته، بل ونقلها ونقدها، وهو تداخل وتفاعل معرفي ميَّزَ فيه طه عبد الرحمن بين قسمين:

الأول: تداخل داخلي يحصل بين المعارف والعلوم التراثية الأصيلة فيما بينها؛ دون تأثر بعلوم ومعارف الحضارات والثقافات الأخرى، اعتبره طه عبد الرحمن مظهرًا من مظاهر الشمول والتكامل في التراث، حيث «لا يصح تقويم إنتاج أحد علماء المسلمين أو أحد حكمائهم، ما لم يقع التسليم بأن تداخل إنتاجه مع أقرب العلوم إلى مجاله التداولي الإسلامي العربي أقوى من تداخله مع ما دونه قربًا من هذا المجال».

ومن أبرز الأمثلة التي أورد طه عبد الرحمن في التداخل الداخلي الحاصل في علوم التراث، علم الأصول؛ حيث أكد أن علم أصول الفقه تداخلت في بنائه «أبواب نظرية ومنهجية، وأخرى عملية ومضمونية مستمدة من علوم مستقلة بنفسها»، وذكر من الأبواب النظرية والمنهجية التي تدخل في بنائه “علم المناهج” و”الاستدلال الحجاجي” و”الابستيمولوجيا” و”اللغة”، ومن الأبواب العملية لعلم أصول الفقه ذكر ما وقع اقتباسه من العلوم الإسلامية، مثل “علم الحديث” و”علم القراءات” و”علم الكلام” فضلاً عن “علم الفقه” الذي جاء علم الأصول لاستخراج مبادئه وتحديد مناهجه وترتيب قواعده.

وقد وجد طه عبد الرحمن النموذج الأكمل للتداخل الداخلي في علم أصول الفقه عند الإمام الشاطبي الذي اعتبره «خير من قام بمقتضيات هذا التداخل في علم الأصول»، وهكذا صاغ طه عبد الرحمن دعوى التداخل الداخلي الخاصة بعلم الأصول كما يلي: «لا يصح تقويم إنتاج أحد علماء الأصول ما لم يقع التسليم بأن العلم الأصلي المتداخل مع علم الأصول تداخلاً مفيدًا للفقه في جميع فروعه، وغير مانع من قيام نسبة شاملة بينه وبين علم الأصول، هو أقرب العلوم إلى مجال التداول الإسلامي العربي».

والثاني: تداخل خارجي يحصل بتفاعل العلوم الإسلامية مع غيرها من العلوم المنقولة من الحضارات الأخرى، خاصة من المجال التداولي اليوناني أو الفارسي، نحو التداخل الحاصل بين علم المنطق وعلم أصول الفقه، وكذا بين النحو والمنطق. وقد اعتبر طه عبد الرحمن النموذج أن الأكمل للتداخل الخارجي يتمثل في الفلسفة الإلهية عند أبي الوليد ابن رشد، كما اعتبر هذا التداخل الخارجي مظهرًا من مظاهر التتميم، حيث يتم تقريب العلوم المنقولة إلى المجال التداولي الإسلامي العربي، والتقريب عند طه عبد الرحمن هو: «وصل المعرفة المنقولة بباقي المعارف الأصلية، أو قل، بإيجاز، جعل المنقول موصولاً».

وقد ميَّزَ طه عبد الرحمن في المحدد التداخلي بين درجتين هما: التفاعل والتراتب:

أما التفاعل فقد أقر بمشروعيته العلماء المسلمون وأكدوا على التشابك الحاصل بين الحقول المعرفية التراثية، ومن صور التفاعل التي ذكر طه عبد الرحمن تفاعل المباحث الكلامية مع المباحث اللغوية والبلاغية والفلسفية، وكذا تفاعل المباحث المنطقية مع المباحث اللغوية والأصولية، وأكد أن هذا التفاعل أسهم كثيرًا في إثراء العلوم بعضها لبعض وفي توجيه بعضها مسار البعض الآخر، كما أسهم في امتزاج مصطلحات العلم الواحد بمصطلحات غيره من العلوم، وفي «اختلاط التصورات الفلسفية بالمفاهيم الكلامية، واختلاطها بالمعاني الصوفية، ومن امتزاج مصطلحات الجدل بمصطلحات جل العلوم الإسلامية مثل الفقه وعلم الكلام والنحو والبلاغة».

وأما التراتب: فقد سعى العلماء المسلمون إلى وضع تراتبية للعلوم ضمن مصنفات عديدة باعتبارها أداة تنظيمية للمعرفة، حيث ظهر علم جليل سمي “علم تصنيف العلوم”، وهو العلم الذي يعنى بترتيب العلوم من حيث الأهمية والوظيفة ومدى خدمتها للعلوم الأخرى، وذلك راجع لتقارب العلوم وتشابهها رغم اختلاف معاييرها العلمية، وهذا مؤشر صريح يكشف عن النزعة التكاملية التي تطبع المعارف التراثية وعلومها، حيث إن اهتمام علماء ومفكري الإسلام بترتيب العلوم ناتج عن قناعة راسخة لديهم بوجود تداخل وتكامل بينها، وقد نقل طه عبد الرحمن نصيحة الغزالي في ميزان العمل، إذ يقول فيها: «على المتعلم ألا يخوض في فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيبًا ضروريًّا وبعضها طريق إلى بعض، والموفق مراعي ذلك الترتيب».

ومن مظاهر هذا التراتب والتفاعل بين العلوم في التراث الإسلامي ذلك التكامل المعرفي المعروف بالموسوعية التي تميز بها واشتهر بعض العلماء المسلمون؛ نحو الإمام فخر الدين الرازي الذي جمع بين الفقه والتفسير والطب والرياضيات وغيرها ثم ابن رشد الذي جمع بين الفلسفة والطب والفقه والفلك وغير ذلك من العلوم، فظاهرة الإبداع في أكثر من علم واحد كانت سمة تميز العديد من علماء الإسلام، أما التخصص في علم واحد فهو ظاهرة العصر الحديث، بل أكثر من ذلك صار التخصص في جزئية فقط من العلم والواحد، وهو ما أحدث فجوة عميقة بين التخصصات العلمية.

هذا التداخل والتكامل المعرفي القوي الذي تعرفه المعرفة التراثية جعل طه عبد الرحمن يقطع بأنه «لا ينفع في تحقيق نصوص التراث وتقويمها إلا مراقبة هذا التوجه التكاملي وتحصيل تكوين شمولي ضروري لإدراك خصائص هذا التوجه، ولحل أسرار التركيب المتشابك لهذه النصوص».

الثالث: المحدد التقريبي: ومفاده أن «المنقول عن الغير، يخضع لتحويلات تصحيحية مختلفة، إما في مضمونه أو في صورته، لكي يصير متلائمًا مع المقتضيات التداولية للتراث وهي اللغة والعقيدة والمعرفة»، بمعنى يمكن أخذ أفكار ومناهج الغرب دون إسقاطها كما هي ولكن إخضاعها لعمليتي التلقيح والتنقيح، وهو ما فعله طه عبد الرحمن في تفاعله مع المعارف والأفكار الغربية، نحو مفهوم الحداثة حين أعاد إبداعه حتى يصير موافقًا لمقتضيات المجال التداولي الإسلامي العربي، وهكذا مع كل ما يُنقل إلى المجال التداولي الإسلامي العربي من مجال تداولي آخر يجب أن يخضع لعملية التقريب ليصير موافقًا لقيم المجال التداولي الإسلامي العربي وأصوله وذلك لتفادي الإخلال بهذا المجال، حيث يعتبر طه عبد الرحمن أن كل نقل –من مجال آخر مخالف- هو «بمنزلة حمل روح إلى المجال التداولي الإسلامي غير روحه التي تحفظ وحدته، فيقع التنازع بين الروحين، لأن المساكنة غير ممكنة، إذ مجال التداول لا يسع إلا لواحدة منهما، وهي التي نشأت وتكونت بها جميع مقوماته؛ فتتضرر الروح الأصلية-ولو تضررًا وقتيًّا- من وجود قبس من روح أخرى يشاركها محلها إلى أن تتمكن –روح المجال التداولي الإسلامي- من دمج المنقول في هذه الوحدة».

وقد خلص طه عبد الرحمن إلى أنه: «لا سبيل إلى معرفة الممارسة التراثية بغير الوقوف على التقريب التداولي الذي يتميز عن غيره من طرق معالجة المنقول باستناده إلى شرائط مخصوصة يفضي عدم استيفائها إلى الإضرار بوظائف المجال التداولي، فضلاً عن استناده إلى آليات صورية محددة».

وقد تواردت العديد من المعارف الأجنبية المنقولة إلى التراث الإسلامي العربي في جميع مراحل تشكله، وخضع بعضها لأشكال من التقريب التداولي أبدع فيها بعض مفكري الحضارة الإسلامية وصانعي تراثها، حيث ذكر طه عبد الرحمن بعض نماذج التقريب التداولي للمنطق الأرسطي نحو: اشتغال ابن حزم على آليات التقريب اللغوي واختصار المنطق، واشتغال الغزالي على آليات التقريب العقدي وتشغيل المنطق، واشتغال ابن تيمية على آليات التقريب المعرفي وتهوين المنطق وهي معالم مشرقة للتقريب التداولي في التراث الإسلامي العربي.

ويعزو طه عبد الرحمن الشبهات التي حامت حول المنطق وبعض المواقف المناقضة له بدعوى عدم ملاءمته لأصول الدين الإسلامي إلى إساءة استعماله، وذلك بعدم إخضاع الممارسات المنطقية لآلية التقريب التداولي، والاحتفاظ بصفته التجريدية التي لا يقبلها المجال التداولي الإسلامي، حيث إن عملية التقريب التداولي تزود المنطق بالأخلاق العملية التي تغطي على صفته التجريدية، فأكد أن المنطق لا يشتغل «بترتيب قوانين العقل إلا بالقدر الذي تشتغل الأخلاق بترتيب قواعد العمل»، فهو ليس أكثر من «جملة من الآليات الاصطناعية التي تفيد في الترتيب والتركيب والتنظير»، والتي يجب استخدامها في بيان مقاصد الشرع وفي معرفة مضامين النصوص الشرعية والوقوف على حقائق قد لا تتأتى بغيرها، يقول في رده على مقولة “من تمنطق فقد تزندق” أن “من تشرع وتمنطق فقد تحقق”، ولذلك يعُد طه عبد الرحمن المنهج الأصولي -باعتباره نسيج متكامل من الآليات المقررة والأدوات الإجرائية التي وقع استمدادها من علوم كثيرة- هو العطاء المنطقي الإسلامي غير الأرسطي البارز في عموم التراث الإسلامي العربي، حيث اعتبر «علم الأصول جزءًا من المنطق على عكس ما قال الغزالي، إذ جعل المنطق جزءًا من علم الأصول».

ختامًا

سعى طه عبد الرحمن في مشروعه المعرفي إلى إحياء التراث الإسلامي باعتباره مكونًا من مكونات حضارتنا وجزءًا من هوية أمتنا؛ يوجه تصوراتها ورؤاها، ويتحكم في حاضرها ويستشرف مستقبلها، بمنهج تكاملي يدعو فيه إلى «تخليق المناهج العلمية بالوصل بين نسقي التفتيش العلمي ومقتضيات طلب المنفعة والصلاح للإنسان»، حيث قام بدراسة التراث على أساس أن حقوله المعرفية متكاملة ومتداخلة في بنائها، وعمل على إعادة الاعتبار للجوانب المشرقة فيه والتي طالها الإقصاء والإهمال، وذلك ببلورة منهج جديد وقراءة تراثية مغايرة للقراءات المعاصرة السائدة التي تنقسم إلى نزعتين: إحداهما تهتم بالمضامين دون الوسائل المنتجة لها، والثانية انتقائية تجزيئية تفاضلية تقسم التراث إلى ما يستحق التوجه إليه وما لا يستحق، فنادى بنظرة تكاملية لا تفصل بين النظري والعملي حيث التداخل بين الآليات والمضامين وبين المضمون المعرفي والمضمون الأخلاقي، وأسس بذلك مشروعًا فكريًّا طموحًا سمته الأساس التكامل المعرفي، دعا فيه إلى تجديد المعرفة الإسلامية وفق منهج تكاملي مبدع يستحضر التراث مادة ومنهجًا ويجمع بين كل مكوناته، مستثمرًا في ذلك خبرته المنهجية في توليد الأفكار ومعتمدًا على ثنائية التفكيك والبناء؛ باستيعاب التصورات السابقة وسبر أغوارها لبيان أعطابها ثم تجاوزها بمنهج يتسم بالتماسك المنطقي والانسجام المنهجي المبدع، فهو لا يقف على بيان وكشف التداخل والتكامل الحاصل بين العلوم فحسب، بل يسعى إلى تفعيله بتجديد العقل نحو نمط أكمل قادر على الربط بين مكونات التراث، وذلك بإعادة مقتضيات الوحي إلى مضمار المعرفة وإعادة ربط الصلة بين عالمي الغيب والشهادة في أفق استعادة الأمة لعدتها المنهجية الإبداعية في الإنتاج المعرفي والفكري لاستئناف العطاء المعرفي الإسلامي والتصدي للنزعات المادية المسيطرة على الفكر المعاصر، استئناف لا يقتصر على إيقاظ روح الإبداع في آفاق علوم التراث، وإنما يتجاوز ذلك إلى محاولة تدشين علوم جديدة تفرضها مقتضيات الزمان وأسئلته، فالتجديد المستوعب لعناصر التراث هو الذي يستطيع أن يبدع لينتج علومًا جديدة.