مبدأ الاصطفاء في القرآن الكريم

(اتفق آدم وذريته في الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قِبَلِهِ، لا بالنّسب ولا بالسبب).

إضاءة:

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، هذه آية في كتاب الله تعالى أشارت إلى وحدة الإنسانية، وعودتها إلى آدم عليه السلام أبو البشر الأول، وإلى نوح عليه السلام أبو البشر الثاني بعد الطوفان، وإلى وحدة النبوة والرسالة بعودتها إلى آل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام، والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاتم النبوة والرسالات، القائل: (كلكم من آدم وآدم من تراب) والقائل: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) (رواه مالك)، في إشارة إلى وحدة رسالة الأنبياء، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، وقال عز من قائل: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108]، والآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة متواترة على تأكيد مبدأ وحدة الإنسانية والرسالة، ومبدأ الاصطفاء الإلهي لرسله بالاختيار والانتخاب والاستخلاص والتفضيل والرفع والتصفية من الشوائب والكدورات، وهي المعاني التي وردت في الاستعمال القرآني لمادة “اصطفى”، وضميمتها “اجتبى” في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. يقول أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) رحمه الله في تأويل الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين اقتصصتُ عليك أنباءهم في هذه السورة يا محمد، الذين أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء من ذريّة آدم، ومن ذرّية من حملنا مع نوح في الفُلك، ومن ذرّية إبراهيم خليل الرحمن، ومن ذرّية إسرائيل، وممن هدينا للإيمان بالله والعمل بطاعته واجتبينا يقول: وممن اصطفينا واخترنا لرسالتنا ووحينا.

فما أحوج الأمة اليوم -أمة الخيرية والشهادة- إلى التشبع بهذا المبدأ القرآني “الاصطفاء” لأنه يحيل إلى التشبث بدين الإسلام الرسالة الخاتمة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] التي ارتضاها الله لعباده {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] واختار لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واصطفاه من ذرية الأنبياء، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ اصطفى  كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصطفى  مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصطفى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) ( مسند أحمد) وقال عليه السلام: (ثم لم يزل ينقلني في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبوي، ولم يلتقيا على سفاح قط) فرفع الله عز وجل قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، وصانه عن نكاح الجاهلية، ونقله في الأصلاب الطاهرات بالنكاح الصحيح، من لدن آدم، بنقله في أصلاب الأنبياء، وأولاد الأنبياء، حتى أخرجه بالنكاح الصحيح صلى الله عليه وسلم.

إن المتأمل للهندسة الربانية لتهيئ الأنبياء لحمل رسالة الإسلام، من لدن خلق آدم عليه السلام إلى نبينا محمد عليه السلام، في وحدة الموضوع {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ووحدة الوسيلة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ووحدة الغاية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

معنى الاصطفاء في لغة العرب واستعمالاته القرآنية، وأنواعه، وأسبابه.

أولًا: تعريف الاصطفاء في اللغة، واستعمالاته القرآنية:

– الاصطفاء لغة: اصْطفى: اخْتَار وانتخب وَرفع وَفضل، واصطفاه أَي اخْتَارَهُ واستخلصه.

واصْطِفاءُ اللَّهِ عبْدَه قد يكونُ بإيجادِهِ إيَّاه صافِيًا عَن الشَّوْبِ المَوْجودِ فِي غيرِهِ، وَقد يكونُ باخْتِيارِه وحكْمِه ومِن الأوَّل: {إِن اللَّهَ اصطفى آدَمَ ونوحًا}، وقوْله تَعَالَى: {وإنَّهم عندنا لمِنَ المُصْطَفِينَ الأَخْيَار} واصطفاهم أي اختارهم وجعلهم صفوة خلقه، فنحن نعين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة اللَّه من خلقه، وهم من لا دنس فيهم من جهة من الجهات في الدِّين.

– الاصطفاء في الاستعمال القرآني: وورد الاصطفاء في القرآن الكريم بمعنى الاختيار والاجتباء

قال تعالى: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصطفى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132].

قال أبو جعفر الطبري: معنى قوله تعالى: “إن الله اصطفى لكم الدين”، أ]: إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم” ( تفسير الطبري).

وقال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].

قال أبو جعفر: “معنى قوله تعالى: {إن الله اصطفاه عليكم}، أي: قال نبيهم شمويل لهم: “إن الله اصطفاه عليكم”، يعني: اختاره عليكم” (تفسير الطبري).

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]

قال الإمام الرازي (المتوفى: 606هـ) في تفسيره: “اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33، 34] … يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار، والثاني: أنه موافق لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124].

 وقال ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): “وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم”.

فذكر الله في هذه الآية رجلين، وأهل بيتين، وفضلهم على العالمين فمحمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم.

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].

قال الطبري رحمه الله: “ومعنى قوله: “اصطفاك”، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته”.

قال الماوردي (المتوفى: 450هـ) في النكت والعيون: “فيه قولان: أحدهما: اصطفاها على عالمِي زمانها، وهذا قول الحسن. والثاني: أنه اصطفاها لولادة المسيح.

{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنه تأكيد للاصطفاء الأول بالتكرار. والثاني: أن الاصطفاء الأول للعبادة، والاصطفاء الثاني لولادة المسيح”

وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفى ءاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، قال الإمام الطبري: “على الذين اصطفاهم، يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدِّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به، الجاحدين نبوّة نبيه” (تفسير الطبري).

وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]

قال الإمام القشيري: “«اصطفينا»: أي اخترنا (تفسير القشيري).

ثانيًا: أنواع الاصطفاء:

قسم النيسابوري القمي (المتوفى: 850هـ) الاصطفاء إلى ثلاثة أنواع:

– اصطفاء على غير الجنس، {إِنَّ اللَّهَ اصطفى آدَمَ} [آل عمران: 33] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته.

– واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس، كاصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم على الكائنات، كقوله: (لولاك لما خلقت الأفلاك). وقال صلى الله عليه وسلم: «آدم فمن دونه تحت لوائي».

– واصطفاء على الجنس كقوله: {يا مُوسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] ولمريم {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ} لاصطفائك إياه، وَطَهَّرَكِ عن الالتفات لغيره، وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء (تفسير النيسابوري).

ثالثًا: أسباب الاصطفاء:

من تصريف الله في ملكه أنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء وقد اقتضت حكمته -سبحانه- أن يصطفي من يشاء من عباده لتلقي هباته وعطاياه. وإن من عباده الذين اصطفاهم لأفضاله ومنحه. وهم: آدم، ونوح، وآل إبراهيم، وآل عمران.

ثم إن اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصًا بهم، بل قد اصطفى منهم ذُرِّيَّةً أخلافًا فضلاء بَعْضُها فوق بعض، أي أعلى رتبة مِنْ بَعْضٍ في الفضيلة، كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]

اعلم أن كل نبي قد اصطفاه الله على الخلق بنوع، أو نوعين، أو أنواع من الكمال عند خلقته، وركب في ذرة طينته استعداده لظهور ذلك النوع من الكمال حين خمر طينة آدم بيده (روح البيان).

قال الإمام الرازي رحمه الله: “وذكر الحليمي في كتاب «المنهاج» أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، (تفسير الرازي). واعلم: أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة والمدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.

قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].

يقول تعالى: الله يختار من الملائكة رسلاً كجبرئيل وميكائيل الذين كانا يرسلهما إلى أنبيائه، ومن شاء من عباده ومن الناس، كأنبيائه الذين أرسلهم إلى عباده من بني آدم. ومعنى الكلام: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس أيضًا رسلاً، وقد قيل: إنما أنزلت هذه الآية لما قال المشركون: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]، فقال الله لهم: “ذلك إلي وبيدي دون خلقي، أختار من شئت منهم للرسالة” (تفسير الطبري).

واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد، وذلك مختص بالأنبياء وببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين”.

فيصطفي الله تعالى من يشاء برسالته وكلامه كما اصطفى موسى عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] قال الإمام الرازي: “واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله: اصطفيتك أي اتخذتك صفوة على الناس، قال ابن عباس: يريد فضلتك على الناس، ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه، ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال: {برسالاتي وبكلامي}” (تفسير الرازي).

واصطفى الله إبراهيم عليه السلام بالإسلام: قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130، 131] قال الإمام الرازي: “اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة”.

ويصطفي الله بالعلم وقوة الجسم، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]

قال الإمام الشوكاني (المتوفى: 1250هـ): “وقوله: اصطفاه عليكم أي: اختاره الله وهو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها، فكان قويًّا في دينه وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب. فإن فضائل النفس مقدمة عليه: والله يؤتي ملكه من يشاء فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم؟ (فتح القدير).

إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه.

فالاصطفاء من آدم ونوح عليهما السلام بيان لوحدة الإنسانية، والاصطفاء من آل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام بيان لوحدة النبوة والرسالة، قال القشيري رحمه الله: “اتفق آدم وذريته في الطينة، وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قبله، لا بالنّسب ولا بالسبب”، وبين سبحانه وتعالى وحدة الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف، إلا إذا كان ضلالا.