وعي الأمة بين استلاب الأصول واستنبات البذور

وعي الأمة الحضاري والتاريخي برهان على صحوتها ويقظتها، و مؤشر على رجحان كفتها في موازين القوى المجاورة لها؛ سواء أكانت تلك القوى مناوئة لها أو متحالفة معها، و لا يغلب على الظن أن يكون لأمة خصومها الباسلين مثل أمة الإسلام العزيزة لأنها خير أمة أخرجت للناس، والتاريخ سجل لما تجرعته هذه الأمة من ويلات؛ فقد عرف الوعي الإسلامي منذ نشأته استهدافًا مستميتًا ومحاولات لاستلابه واجتثاثه، ويشاء الخالق عز وجل أن يستمر هذا الدين ويستمر الوعي به، ولو بعد فترات النكوص والاستكانة، وحري الآن بأرباب الفكر أن يساءلوا بإلحاح عن مدى جدية الوعي الحضاري للمسلمين وصحوته وبروزه في مواجهة القوى، وموقعه في التدافع الحضاري. ولا يخطئ المتبصر لواقع أمتنا والمتفهم لتاريخها وأمجادها أن عملية الاستلاب للوعي الحضاري ما تفتأ تعمل ليل نهار، وما يحاك لهذه الأمة من مؤامرات فكرية وسياسية على منابر إعلامية مباشرة أو في مقرات خفية لصناعة القرار العالمي لأقوى دليل على ذلك.

فأي وعي نريد وما عوامل تشكله؟ وكيف يُستَلب ويقهر؟ وهل يمكن أن تكون له دورة حياتية يستنبت من خلالها بذور الإحياء والاصطفاء؟ هذا ما سنحاول تقريبه من خلال هذه الأسطر المزجاة.

مفهوم الوعي وأي وعي نريد؟

من معاني الوعي: الإدراك واليقظة، والفطنة، والتأهب، وهو حالة شعورية عقلية وروحية يكون فيها الإنسان مدركًا لذاته ومحيطه وأحواله وكل العوامل والقوى المؤثرة في فكره وسلوكه ومستقبله الوجودي وجذوة الوعي وثورته أن يكون لدى الإنسان تصور ورؤية لاستبقاء وجوده في ظل تأثير تلك العوامل كلها. ولمزيد من البيان إن الوعي الذي نريد؛ هو أن يدرك الإنسان موقعه في المعترك الحضاري وأن يكون متأهبًا للقيام بأدواره الرسالية التي تمليها عليه ثقافته وقيمه التي توجهه، وأن يتخذ لنفسه مسافة فاصلة للتصنيف والتحليل والنقد والمراجعة لكل مشارب الفكر التي تحوم حوله، و يعصم نفسه من الانسياق المنفلت والانجراف غير المتريث للرؤى والتصورات التي تفرض نفسها بالقوة لا بالفعل، وبالاستقواء والهيمنة على كل الخصوصيات في الثقافة والأعراف، لا بالتنوير والتثقيف المسالم.

ومقتضى الوعي بالذات واستشعار وجودها المغاير؛ أن تستقل بهمومها وآمالها فلا تجاري من تُغايره في المعتقد والقيم؛ لا تجاريه فكرًا ولا سلوكًا ولا شعورًا إلا ما كان من ذلك مشتركًا إنسانيًّا لا محيد عنه في التدافع الحضاري؛ فلا تحزن لحزنه أو تفرح لفرحه، ولكن توطّن عزائمها، إن أحسن غيرها تحسن وإن أساء لا تظلم، لا أن تكون إمّعة، عملاً بتوجيه نبي هذه الأمة التي هي خير الأمم.

 إن المسافة الفاصلة بين أي وجود ووجود مغاير هي الحيز الذي تصرّف الذات فيه كل إنجازاتها وإبداعاتها الأصيلة التي تبقيها ذخرًا وتراثًا لأخلافها، وبها تكتسب اعتزازها وعليائها و” مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا “، وحين ينصهر أي كيان في كيان من يغايره ولا يترك المسافات التي فيها يستقل بآماله، لا يقوى حينها أن يتجرع كل ما يستقيه من الآخر؛ من فكر وقيم وأعراف بله أن يهضمه ويتفاعل به حضاريًّا.

وبالمختصر المفيد إن وعينا الأممي هو الذي يبقي فينا النبضات والأنفاس، وبه نحفظ مقومات الذات وخصائصها من أي استهداف، سواء أكان تحريفًا، أو تشويهًا، أو تآمرًا، أو غزوًا، أو إبادة. وحين نسلم فكرنا لكل وافد حضاري دون أن ننخل منه؛ فنستبقي ما فيه من مقدرات تقوي شوكتنا، ونطرح ما فيه من مجاسرة على ثوابتنا، حين ننبطح أمام الآخر دون أي مراجعة ولا ممانعة ولا تصويب نكون آنئذ نلفظ آخر الأنفاس.

من عوامل تشكل وعي المسلم

الوحي: هو المعين الذي لا ينضب، وهو خطاب الزمان والمكان والإنسان، منه نستقي قواعد التفكير السليم، ونظام الإدراك للحياة والكون والمصير. وإليه نؤوب حين تغزونا العشوائيات الفكرية، بل إن غاية الوحي إحياء وظيفة العقل وإيقاظ طاقة الإدراك فيه، بعد أن كان عقلاً خرافيًّا ساذجًا، يعيش عالة على موائد الفكر الوافد، ودار الأرقم بن أبي الأرقم كانت المؤسسة الأولى لتدارس الوحي المنزل ليكون الشرارة التي أيقظت وعي المسلم الحضاري.

التاريخ: منفذ لفك طلاسم الحاضر فيه يبحث المسلم عن ذاته ومنه يستقي مقومات شخصيته، وهو سجل جامع لكل التجارب، منه نتعلم سنن التدافع، وعوامل الإخفاقات، ووجود كل أمة بفخامة تاريخها، ومن لا تاريخ لها به تحتفي، لا قيام لها في حاضرها، إلا أن يكون بناء على شفا جرف هار، يترقب لحظة أن ينهار.

التراث: هو” خلاصة تفاعل الأمة المسلمة مع التاريخ، وهو ممثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات. إنه مَجلى الذات وخزان الممتلكات، ولا يمكن أن نعرف الذات إذا لم نفقه التراث”.

أما اللغة: فهي آلة تصريف المعتقد والفكر والفن، وخزان القيم والأعراف وكل الجهد البشري الذي يعطي لأي وجود معناه وخصوصيته، بل إنها القاعدة التي عليها يثبت ذاك الوجود، و إن كان هذا شأن أي لغة فكيف باللغة العربية التي اختارها الله لغة القرآن وخلدها بخلوده، هي لغة العلم بأصنافه وصنوفه و لسان الآدمي بأطيافه وثقافته ولغة العقول والمنطق ولغة الحضارة والريادة وهي أم اللغات استوعبت كل مخارج الأصوات وترجمت كل معاني الآهات.

من رحم هذه العوامل يتشكل الوعي الوجودي الحر والمستقل للأمة، وتكتسب بهم الخصوصية الحضارية التي لا مثيل لها في الحضارات، وحين يُسْتهدف عنصرًا واحدًا من تلك العوامل يُجتث الوعي من جذوره، وما ذكر من عوامل هي على الإجمال لا الحصر والتفصيل، وإلا فثمة تداخل عوامل أخرى أو انشقاقها من الأولى، وعلى رأسها منظومة القيمة الجامعة الحامية للوعي، المشتقة من تعاليم الوحي، وعلى سبيل المثال؛ قيمة الحرية.

الحرية ودورها في تكوين الوعي بالذات.

الحرية هبة ربانية للإنسان وتشريف له عن سائر الكائنات التي يجري عليها قانون الجبر لا الاختيار، بها تميز وتفرد، وفي نفس الحين هي أمانة وتكليف جسيم عليها يسأل يوم العرض، ولا اعتبار لأدوار الإنسان في هذه الحياة دونها، وحين نحاصرها بأي شكل من أشكال الاستعباد والإكراه فنحن بذلك نجفف منابع الإغناء والإضافة والتجديد. إذ الإبداع ثمرة الحرية، فمعنى أن تكون حرًّا هو عين أن تكون مبدعًا، وغياب مؤشرات الإبداع دال على فقدان طعم الحرية الحقيقي، ولما نسلم أفعالنا لنوازع أنفسنا المنفلتة من كل قيد ونجتهد في محاكاة التجارب المغايرة لكياننا فنحن عندها مسلوبي الحرية والإرادة وأن تكون مسلوب الوعي معناه أن تكون مسلوب الحرية؛ فلا مجال إذن للحديث عن وعي وجودي مستقل دون شرط الحرية التي تستلزم ألا يخضع الوعي لأي قيد أو محاصرة مبرمجة.

 الحرية هي أسمى مقصد لرسالة الإسلام، وإليها تصبو كل الأحكام، وأول من فهم ذلك وتشرب معناه الجيل الأول الفريد، فصدحت أفواههم بها متصدية لكل استعباد. ولا مطمع لبناء وعي حر دون عقيدة التوحيد التي أصلها ومبانها على تحرير العقل والنفس، وهي دعوة إلى محاربة كل أصناف الاستعباد، و تحرر شامل للروح الإنسانية من براثن الطغيان، وانقلاب كامل على أصناف الرق والعبودية التي انغمست فيها الإنسانية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام حين يجعل التوحيد لله وحده فهو يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان؛ إذ عقل الموحد لا يمكنه أن يحتمل أي لون من أنواع الطغيان والاسترقاق.

لقد صدعت العديد من الأصوات اليوم بالحرية، وغنى بها من غنى بما يملك من فنون، وقد تجد أكثر الناس مناشدة لها أكثرهم حرمانًا لتجلياتها، مادامت بنية المصطلح غير مفككة، ومدلولاتها مرتبكة، والحرية قبل أن تكون شعارات طنانة فهي مشاعر عميقة دفينة لا تربوا في قلب خال من الإيمان، ولا يستشعر وجودها من ليس في رحاب الله ورحمته. إن السبيل الوحيد لاستلذاذ طعم الحرية هو أن يتوجه القلب للواحد الأحد، ويملؤه اليقين بصمديته، وإن عقيدة التوحيد هي العقد الناظم لمدلولات الحرية وممقتضياتها، منها نستقي الفهم الصحيح لمعنى أن يكون الإنسان حرًّا، ولا أحسب هناك سبيل آخر لتفهم هذا المعنى إلا أن يضطرب مفهوم الحرية، أو يضطرب الوعي الذي يسعى إلى تفهمها.

هذه عوامل نراها لازمة في تشكيل الوعي الإسلامي واستبقاء وجوده ومنافسته لأي وجود، منها ينطلق الفكر وإليها يؤوب، وحين تتآزر وتتطابق في الفكر والشعور تنبئ بإشارات على يقظة الوعي وصحوته وتثمر تصورات تهيؤ الإنسان أن يكون قادرًا على تحليل ونقد ومراجعة الأفكار والأحداث، فينخل منها مستبقيًا ما يطابق آماله، ومتصديًا لكل المؤامرات التي تسعى إلى اجتثاثه.

إن المسلم اليوم مطالب بأن يسعى بأي وجه إلى أن يستبقي وجوده التاريخي، ويستنبت بذور الوعي بذلك الوجود؛ فهو اليوم بين خيارين لا ثالث: بين عقلين؛ عقل ترابي محدود الحدود، وعقل معادي منزوع القيود. وبين قلبين؛ قلب متقد متعقل لأدوار الإنسان، وآخر منطفئ مغفل لا يتبصر ما خلف الأستار، وبين روحين؛ روح متأهبة تواقة، وروح مكلومة معذبة، وجذوة الوعي وثورته أن يكون عقل المسلم آفاقيًّا وقلبه نبراسيًّا وروحه وقادة.

كيف يغتال الوعي ويستلب؟

من معاني الاستلاب: الاختلاس والغصب والأخذ بالقوة، والمستلَب أو المسلوب؛ الخاضع لمن استلَبه واستعبده، ولا بد في أي عملية استلاب من الاستهواء والإغواء، ونعني باستلاب الوعي: إفراغه وتجريده وإبعاده عن مصادره ومقوماته وقيمه حتى يصير تابعًا خاضعًا لنظم فكرية عقدية مغايرة، وبرامج سياسية واجتماعية بديلة تخالف بنيته، وتصادم كينونته وهويته. ووعي المسلم الحر نسيج لمعتقدات وأفكار ونظم ربانية المصدر والغاية، فهل في إمكانه اليوم أن يحبك من ذاك النسيج عباءة تحفظ كينونته، أم أنه قد جرد وجوده من كل كساء؟

هذا تساؤل وليد من قلق على مصير وعينا وصموده أمام أمواج الغزو الفكري والثقافي، وليس من مفكر تهمه قضايا أمته إلا راوده وإن جاءت توصيفاتهم مختلفة، لقد شكا الشيخ محمد الغزالي من غياب الوعي عند الأمة، فقال رحمه الله: ” الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء. وقد انتمت إلى الإسلام اليوم أمم فاقدة الوعي، عوجاء الخطى، قد يحسبها البعض أممًا حية ولكنها مغمى عليها. والحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر؛ إذ الغباء في ديننا معصية “. وليس في مقدورنا الإفادة الشافية في الإجابة على هذا التساؤل، إنما هي محاولة لاستثارة القضية في النفوس، وإماء إلى خطر مستعص وعويص لا بد أن يحسب حسابه المربون وأرباب الفكر ممن لديهم الإيمان بأفضلية هذه الأمة ويغارون على قضاياها المصيرية.

نجزم أن استلاب الوعي عملية مدروسة وممنهجة لها خطط وبرامج قد يتفطن لمكائدها حين تعمل، وقد لا يتفطن لها إلا بعد ردح من الزمان، و الدارس ــ مثلا ــ لانشغالات فتية الإسلام قلب الأمة النابض بالحياة ورهان نضجها وأفولها، المطلع على رصيدهم الفكري ومدخرهم الثقافي وتمظهرهم السلوكي، لا يخطئ في توصيف الوضع؛ بسريان عملية الاستلاب الممنهج للوعي الحضاري تسابق الزمان و تجري على خطى ثابتة مدروسة لتصل إلى بغيتها المرسومة في؛ فصل المسلم عن كل مقوماته وثوابته الدينية والحضارية، وإحلال معتقدات وقيم بديلة تطابق توجه الغرب بأطيافه، ويجند لذلك جنودًا تعمل في الخفاء قلما يتنبه لحيلها الماكرة في طمس المعالم وتجفيف منابع اليقظة و تجريف القيم وتزييف التراث والتاريخ. والعقول المسلمة المكلومة ترزح اليوم تحت وطأة هذا الإقصاء الممنهج، وتكابد من أجل البقاء في عالم متغول لا يكترث لأي خصوصية حضارية إلا ما يمليه برنامجه الاستعماري للعقول قبل الأوطان، ومنظومة قيمه العرجاء التي صيرت الآدمي مجرد حيوان اقتصادي مفصول عن أي تاريخ مجيد.

يمكن إجمال عوامل استلاب الوعي التي راهنة عليها قوى الاستلاب سواء أكانوا أجانب أو عملاء، فيما يلي:

1– تدنيس المقدس: بالضرب في المقدسات والتجاسر على كل موروث إسلامي، بالتمكين لعولمة الفكر والفن والذوق، حتى صار شبابنا يستحسنون كل وافد مهما يكن فيه من جسارة، ولم يعد يرقى لانشغالاتهم وصل بميراث أعلامنا الأولين، كيف يرقى لهم ذلك وقد وجدوا من الإثارة والتشويق والتسويق لمنتوج الغرب عبر وسائل التواصل ما يخطف الألباب، وإن تكلف المرء ألا يتقصدها، فهي تغزونا ونحن في مراقدنا.

2- احتقار اللغة الأم: باستهداف اللغة العربية، وذلك من خلال التمكين للغة المستعمر، وواقع اللغة في الأمة يعرف بواقعها في التعليم من باب أولى، وإن أعظم جريمة في حق ناشئتنا المعاصرة هو استهداف لغتهم الأم والتمكين للغات أجنبية، وحين نسترخص لغتنا نسترخص كينونتنا ونستحمر نباهتنا من حيث نتوهم الاستئساد وننافح الأسياد، ومن مجالات تصريف المكر اللغوي، حرب المصطلحات الضروس، وتسمية المسميات بغير أسمائها، من أجل التلبيس والتدليس على الفكر والوجدان.

3- تشويه حقائق التاريخ: بإثارة الشبهات المغرضة، حول تاريخ الإسلام ورموزه، وتجريده من العطاءات الإنسانية البناءة في الفكر والعلوم والعمران والفن، واختزاله في الحروب والقتال، بغض الطرف عما لزم تلك الحروب من أخلاق وشمائل لم نجد لها ذكرى في أي تاريخ غير تاريخ الإسلام، وبالمقابل الاحتفال والتباهي بتاريخ أوربا ـ مثلا ـ على ما فيه من ملامح دموية، ومشاهد تعذيبية ووحشية.

4- تبخيس الجهود الإسلامية البناءة: بالتخويف والترهيب من المشاريع الإسلامية الهادفة إلى تجميع شتات الأمة وتصويب وجهتها نحو قضاياها الكبرى، مهما يكن في تلك الجهود ـ وإن كانت زهيدة ـ من عوائد الخير على الإنسانية وفوائد على العمران البشري، ولعل أكثر الأعمال استهدافًا اليوم هي المشاريع الفكرية والحركية التي تنهج منهج الوسطية والاعتدال سواء على مستوى الأفراد (علماء ، مفكرون ، باحثون …)، أو على مستوى المؤسسات (أحزاب سياسية، مراكز للبحوث والدراسات….)، وبالمقابل التمكين للجهود المنفلتة من ضوابط وقواعد الاجتهاد الشرعي، بذريعة مواكبتها للعصر والحياة.

هذه أوراش كبرى راهنت عليها قوى الاستلاب للوعي الإسلامي في تجفيف منابع اليقظة، وسلب النباهة من عقول الشباب مبتغية إفلاسها، ومنتهى الإفلاس الحضاري أن يفرغ الفكر من كل مفهوم أممي، ويخلو الوجدان من كل إرث قيمي، وتنأى الجوارح عن كل فعل تعبدي، ولا تتفتح الأبصار التي أصابها العمش إلا على ما عند الآخر المغاير، ولا تستسيغ الأنفس إلا الوافد البديل كيفما كان متجاسرًا على أركان العقيدة ومنظومة القيم المستوحاة منها. ويتلقى المستلَب المقهور من الآخر نماذج الفكر ونظم الحياة بعد أن فرغ إنائه من كل موروث، وصار يتسع لكل دخيل، ويا ليته يذوب في أحضان الغريب فيتطابق مع كيانه ويتخذ منه مسارًا حضاريًّا بديلاً، ويحظى برضا ومباركة مستَلِبِ وجوده فيستريح، ولكن الطامة كل الطامة أن جهازه لا يقوى على هضم المستورد، لتباعد المعتقد والثقافات، ويصير في نهاية المطاف متأرجحًا مذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وذاك عين الإفلاس وتلك آخر الأنفاس.

لا شك أن وسائل الاستلاب الثقافي والتاريخي أكثر مما ذكر، ومحاولات التطهير العرقي والإبادة للكيانات الإسلامية تعمل على قدم وساق، ولكن يبقى اغتيال الوعي أدهى وأمر من إبادة الجموع الغفيرة، فالمغتال الغاشم يعلم يقينًا أن السلف يعقبه خلف، لذلك وجب أن نجزع لمحاولات تجريف وعيينا أكثر مما نجزع لهلاكنا، فليس في محاولة إبادة الجموع الغفيرة اغتيالاً للوعي الذي به تحيى، فحتمًا سوف تبقي تلك الجموع الأجنة في الأرحام تستجمع قواها للحياة من جديد، ولكن استلاب الوعي استئصال للذات من جذورها.

كيف نستنبت الوعي من جديد؟

أي وجود حضاري متين لا بد له من جمع للشتات ومنجهة للتطلعات وتوجيه للذات نحو الثبات على قضيتها المركزية المفصلية والمصيرية، وهي هنا: قضية التوحيد والإخلاص للمعبود الواحد، ولما كانت الجموع المسلمة تتجه نحو هذا المقصد مكن الله لهذه الأمة في الأرض، ولم يكن لقوى الاستكبار العالمي كيان له نفوذ لولا مراهنتها على إبعاد هذه الأمة عن قضيتها، ولم يكن لهزائمنا ونكباتنا أي أثر لو أننا سائرون على الطريق الذي رسمه القرآن الكريم لنا، وتركنا رسول الله عليه.

نعتقد أن أبسط إجراء عملي لصحوة الوعي الإسلامي وتفعيل روح الإسلام، ومضامين شريعته المباركة على أرض الواقع أن نكون صرحاء ومصالحين مع أنفسنا المطمئنة بالإيمان وقلوبنا المعقودة على اليقين وضمائرنا الحية التي تبقينا إنسانيين، هذا أولاً قبل أن نهتش للخلفيات والمرجعيات والأيديولوجيات التي شوشرت على بنية العقل وإن كانت مطلوبة في فترة من فترات التكوين والتنشئة، كما هو مطلوب أن ننتقي منها ما يتوافق مع الإيمان و اليقين و الضمير الذي وجب أن يحكمنا أكثر، لكنها تستحوذ على العقول في فترات، فليس من الصواب أن نهتم بها أكثر من اهتمامنا بما نجده ينسج لنا توافقًا مرضيًا ومريحًا بين ما جبلنا عليه من قيم ومعارف وتصورات وما فهمناه على سجيتنا من كتاب ربنا الذي يصدع بالحق وسنة نبينا الصحيحة التي منها تعلمنا الفرائض والمناسك والأخلاق.. وبين حياة نعيشها وظروف نمر بها مليئة بالتغيرات والمنعرجات والتقلبات في الفكر والتنظيم، لأن اللحظة التي نحياها وما فيها من فوضى فكرية ومنهجية وسياسية بالأحرى، يكاد ينعدم فيها الحق ولو على لسان أهله ممن ألفنا عنهم الصواب والسداد.

إن الالتفات حول الحق والعدل في التصور والفعل، منهج لا يخطئه المتبصر، والخير مغروز في الفطر لا يتعامى عليه إلا من استحسن الشر وصيره سجيته، وإن أتلف بريق الأفكار المتناسلة الرؤية السديدة، يبقى الضمير الحي محتكمًا، وأنا للجبل الأشم أن يدكه معول التشكيك والتهكم. فلنصغي جيدًا للسان العقل المسدد بنور السماء وهدى الوحي الوضاء ونترك العواطف والمشاعر المجيشة التي تستحود على تقييم القضايا وتوجيه الروئ فتظل الوجهة وتفسد البغية.

إن الانبعاث الحضاري الذي نرمي إليه يبدأ أولاً: باستنبات جذور الوعي بالذات، وإن بذور تلك الجذور لمبثوثة في القرآن الذي جاء أصلاً كي يرفع من قدر العقل، وثانيًا: تصنيف مقومات هذه الأمة بما يحفظ لها الوجود والفعل والامتداد في الزمان والمكان، وثالثًا: تحقيق استقلاليتها عن النماذج الحضارية المغايرة، ومنتهى آماله (يعني الانبعاث الحضاري) أن يمكن للمستضعف في الأرض، بعد أن لم يدخر جهدًا ولم يأل في الأخذ بكافة أسباب التمكين.

وبين البدء والغلبة لا بد من الانخراط الإيجابي في التدافع الحضاري والامتداد بالفكرة والمعتقد المنشِئ لكل التصورات الفرعية بالرغم من الضربات والسهام الموجعة التي لا بد منها، وبقدر الإيمان بهما يمكن لنا في الوجود.

بين الانطفاء والاصطفاء أن نستشعر حالنا المعطوب، ولا نخدع بمن يلمع الوجوه على قبحها، عسى في تفهم ذاك الوضع يصحو الضمير وعسى في صحوة الضمائر بواعث على ترشيد الوعي نحو الصواب، وحين ندرك موقعنا في المعترك الحضاري نكون آنئذ قد وضعنا اللبنة الأولى في بناء وعينا، والحق أن فئات الناس في معتركها الحضاري أصناف: فئة غائبة مغيبة، وفئة منسلخة مستلبة، وفئة متذبذبة مرتابة، وفئة واثقة متأهبة. وإن من بواعث يقظة الوعي أن تنصرف انشغالاتنا إلى قضيتنا الكبرى التي إليها نقصد، وهمومنا العظمى التي بها نكشف عن معدننا الإسلامي الأصيل، ونتجرد من فردانيتنا المقيتة التي أعمتنا عن الرؤية وشوشرت على الفكر الجمعوي، حينها يمكن أن نجتهد سوية في البحث عن مخرج للأزمات التي تعصف بنا، وإذا أبينا إلا أن نجرد ذواتنا عن قضايا وجودنا ومصيرنا فإننا بذلك حتمًا نعبد الطريق للاستقواء علينا والإقصاء لمنتوجنا الفكري مهما يكن فيه من عوائد الخير للبشرية الضائعة.

وهذه خطوات تلخص المقصود وهي جهد مقل، ولكنها تبدو مركزية في إعادة تشكيل بنية الوعي الحضاري لهذه الأمة العزيزة:

– أن نوجه اهتماماتنا نحو قضيتنا الكبرى التي حولها اجتمعنا، وأن نجمع الجهد والطاقات حولها بعيدًا عن أي شوشرة؛ فالمواقف الحقيقية الصادقة تجليها القضايا الكبرى الجامعة التي ينبغي أن تستحود على الضمير الحي ويتقصدها كل جهد من زاويته، وحين يشتغل الفكر بالفرعيات والجزئيات لا ينتج مواقف وازنة، ولا يثمر حلولاً للمعضلات الغفيرة.

– أن نؤسس لوعينا الوجودي انطلاقًا من القرآن الكريم فهو الجامع لكل شتات في الفكر والتصور، وهو النور الذي إذا سرى في العقل أثمر وعيًا راشدًا، ويتبع ذلك ويلزمه أن نمكن للغتنا العربية لغة القرآن وندرس علومها لناشئتنا الصاعدة، فعز الأمة بعِز لغتها وذلها بذُل لغتها وحين نمكن للغة الأم فنحن نستنبت بذور يقظة الوعي بكياننا كأمة جامعة.

– أن نتدارس تاريخنا وتاريخ الأمم مدراسة موضوعية ومنهجية رصينة فلا قيام لوعي متين رصين دون غربة التاريخ والإفادة منه من أجل إقلاعة فكرية حكيمة خبرت الأخطاء والهفوات وتفهمت سنن التمكين، وحسبك بقراءة التاريخ فهي مفتاح لصحوة الوعي ورشده وديمومته.

– أن ننتقل من اليقظة الفردية إلى يقظة الجموع، ومن الجهد الوحدوي المضني إلى الجهد الجمعوي الذي يجمع كل الطاقات، وأن نحقق الاستقلالية الحقيقية عن مشارب الفكر ونتجرد من كل بواعث التبعية العمياء قاصدين التوطين الحقيقي الذي رام إليه حديث رسول الله .

وختامًا: إن المسلم أنفاس تأبى الانقطاع عن الزفير ما دامت لوعة فطرته غضة بالحياة تأبى السكون والارتهان، وتمج الخذلان والانفصام ومنسوب وعيه التاريخي يبقي لتلك الأنفاس النبضات فتجيش حين يصحوا لديه باعث الجد، وتخفت حين يستحوذ عليه الهزل، وحين يختار أن ينسلخ عن كينونته ويستغني عن ثقافته ويتجرد من قيمه غير آبه لمصيره التاريخي، يكون آنئذ قد شارف حافة الانهيار، بينه وبين الانجراف إلى القاع أن يستحسن حالة الاستلاب لوعيه التي تجري عليه رويدًا رويدًا دون أن يتفطن لمكر الماكرين وكيد السالبين، وبينه وبين الاعتلاء أن يستنبت بذور اليقظة التي تعيد لوجوده الحياة، وإن تلك البذور لمنثورة في كل البقاع منذ أن تفجر سلسبيل الحق يومها كانت الرقع في ظلال، بيد أن تلك البذور في حاجة للتعهد والرعاية، وإن وفرة الحصاد بتعهد المحصول، ولا يباد الوعي الموصول بالسماء وإن رشق بسهام الغدر فترات.