بلاغة القرآن الكريم في دعوة المُرسَلين

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وعلمه البيان “الرحمن. علَّم القرآن. خلق الإنسان. علَّمه البيان” (الرحمن: 1/4)، والبيان له أشكال عدة؛ فقد يكون بالخط وقد يكون بالإشارة، وقد يكون باللفظ، وقد يكون بالعقد، وقد يكون بالحال؛ أي بالهيئة وبفعل باقي الجوارح غير اللسان بما يوحي بمعنى بعينه([1])، يُفهم من هذا أن اللغة تمثل إحدى أدوات اتصال الإنسان بعالمه الخارجي بحكم دورها التواصلي في ربطه بغيره من بني جنسه سواء أكان مُرسِلاً أم مستقبِلاً لكلام غيره.

وفي القرآن الكريم حديث عن الرسل الذين تم اصطفاؤهم لدعوة الناس إلى الإيمان المتصل بتوحيد الله سبحانه وتعالى،في إطار منظومةٍ عناصرها ثلاثة: مرسِل داعٍ (رسول)، ورسالة (دعوة)، ومرسل إليه (القوم المقصودين بدعوة الرسول في بيئة زمانية ومكانية محددة، باستثناء النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي أرسله ربنا إلى الناس كافة من زمانه إلى يوم القيامة؛ بحكم كونه خاتم الأنبياء والرسل؛ إذ لا نبي بعده).

وإذا نظرنا إلى أداة الاتصال التي تجمع كل نبي بقومه وتعينه في أداء مهمته نجدها تتجلى في بعدين رئيسين:

الأول: تماثل الجنس بين الطرفين؛ فالنبي من جنس قومه؛ هم من بني آدم؛ أي (بشر)، وكذلك هو.

الثاني: تماثل اللغة بين الطرفين؛ فكل نبي رسول قام بمهمة دعوة قومه إلى الإيمان بالله وبوحدانيته دون شريك له أو ند باللغة نفسها التي يستخدمها قومه؛ لتحقيق أقصى درجات التقارب والاتصال بين الاثنين.

وفي القرآن الكريم إشارات عاكسة لهذين البعدين من خلال توظيف لفظة (أخ)، ومن خلال التركيب الإضافي الذي يشغل فيه اللفظ (أخ) موقع المضاف والقوم المعنيون برسالة النبي موقع المضاف إليه، سواء بذكرهم صراحة أو من خلال ضمير الغائبين المعبر عنهم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر نتوقف أمام الآيات الآتية:

“وإلى عادٍ أخاهم هُودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره إنْ أنتم إلا مُفتَرون” (هود: 50)

“وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ” (هود: 61)

“وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ” (هود: 84)

” وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ”(الأحقاف: 21).

إن الأخوة هاهنا التي تتجاوز المعنى القريب جدًا لها تأخذنا إلى حال تعتمد على التقارب والاندماج؛ فالنبي المرسل فرد ينتمي إلى مجموع يشكل بالنسبة إليه وطنا بالمفهوم الجغرافي والثقافي الاجتماعي؛ فهو ليس بغريب عنهم قد أتاهم من خارج بيئتهم المكانية أو الاجتماعية؛ لذا فإن الجدل المؤسس على العناد والإنكار ومعه مشاعر سلبية، منطلقه الكبر والغيرة، وقد دفع هذه المنطومة الجمعية إلى اتخاذ رد فعل عكسي يقوم على الرفض الذي سعت هذه المنظومة إلى تبريره بأن هذا الذي يَدَّعي النبوة واحد منا وبشر مثلنا؛ فمقام الرسالة والدعوة كما يزعمون بحاجة إلى مَلَك منزل من السماء وليس إلى مخلوق بشري يشاركهم الحالة نفسها والعيش مثلهم على الأرض؛ وفي القرآن آيات كثيرة توضح رد الفعل السلبي هذا؛ منها على سبيل المثال:

“وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا. قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا”(الإسراء:94/95)

“ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ. فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ” (المؤمنون: 45-47).

“وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ “.(الأنعام: 8/9)

إن الأخ هاهنا يأتي في مقابل الحالة الثانية التي طلبوها إنكارًا وعنادًا؛ ألا وهي الحالة الملائكية التي لم تتحقق؛ فمغايرة الجنس لا تساعد في مسألة الاقتراب بين الطرفين؛ ومن ثم إنجاز مهمة التوصيل بالتبليغ؛ يدلل على ذلك قوله تعالى: “قلْ لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنين لنزَّلنا عليهم ملكًا رسولاً”

إن مطابقة الحال بين الطرفين من حيث ثمائل الجنس مسألة بديهية وحتمية في الإبلاغ وتحقيق النتيجة المرجوة؛ ألا وهي الاقتناع والإيمان.

وتجسيدًا وتأكيدًا لهذه الحالة الملائكية التي نادى بها المنكرون في تواصلهم السلبي مع أنبيائهم نجد استهزاءً وتهكمًا من هذه الحالة البشرية التي عليها الرسل؛ كما في قوله تعالى: “وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا” (الفرقان: 7)

إننا إذًا في وقوفنا أمام أخوة النبي المُرسَل لقومه نتدبرها وندرك مقاصدها بالنظر إلى الحالة النقيض التي دعا إليها قوم النبي في زمانه؛ في إطار ما يمكن تسميته بالدعوة والدعوة المضادة؛ فإذا كانت مهمة الرسول تعتمد على انتمائه لقومه من حيث الجنس ومن حيث المعايشة الزمانية والمكانية فإن الطرف الآخر في محاولته توسيع حالة الرفض والإنكار هذه وترسيخها وعدم الاستجابة وعدم التأييد لتلك المهمة قد سعى إلى الانطلاق من فرضية أن الرسالة تكليف لا يقوم به إلا ملك منزَّل من عند الله، وليس يليق بإنسان مثلهم يشاركهم ما يقومون به؛ كالمشي في الأسواق على سبيل المثال وكأكل الطعام؛ لذا تأتي هذه الآية تأكيدًا وإصرارًا وإظهارًا للفرق الذي بين الرسول وقومه:

“قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (الكهف: 110)

فبمقارنة بين طرفي هذه الثنائية (الرسول وقومه) من حيث مساحات الاتفاق والاختلاف نجد أنهما يتفقان في كونهما بشرا، يعكس تلك الحالة بوضوح التركيب “مثلكم”، أما الفرق الجوهري بين الاثنين فيبدو في المهمة التي اصطُفِيَ لأجلها ذلك الفرد من بين المجموع الذي يشكل واحدًا منهم، وهناك آيات تتجلى فيها هذه الحال، مثل قوله تعالى:

“إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” (آل عمران: 33)

” اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ” (الحج: 73)

إن الدعوة إلى الله حال تقتضي المطابقة إذًا بين طرفيها: الداعي والمدعو، هذه المطابقة تتحقق بتماثل الحالة البشرية بين الاثنين،وبوحدة اللغة المستخدمة من قبل الداعي في عمله؛ نجد ذلك واضحًا بالتدبر في قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (إبراهيم: 4)

وفق هذا الطرح إذًا نقف أمام تصور مفاده أننا في إطار هذه العناصر الثلاثة:

  • الرسول الداعي
  • الدعوة
  • القوم المعنيون بتلك الدعوة

أمام حدث يتجلى في ذلك البناء الخبري الفعلي: دعا النبي قومه، ومع خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام يكون الفعل بصيغة المضارع؛ لأن دعوته متواصلة باقية إلى يوم القيامة؛ فيكون البناء الخبري على هذا النحو: يدعو النبي عليه الصلاة والسلام قومه.

ما ينطوي عليه هذا البناء من بلاغة يكمن في خارج النص نفسه؛ أي في الحالة المرجعية الواقعية الموجودة في العالم؛ إذا ما نظرنا إلى وحدة الحالة؛ فكل من الفرد (النبي المُرسَل) والجماعة المرسل إليها ينتمي إلى هذه الصفة (بشر)، وكلا الاثنين يتحدث لغة واحدة؛ لكي يكون الاتصال بينهما في كماله وتمامه؛ ومن ثم تكون الحجة قد أقيمت على هذا المفعول في ذلك البناء الخبري الفعلي (قوم الرسول).


[1] – انظر: د.مصطفى علي عمر، في النقد الأدبي القديم، ص4، في إشارته إلى حديث الجاحظ في كتابه البيان والتبيين عن أنماط الدلالة على المعاني، الطبعة الثانية، 1987، دار المعارف، القاهرة.