التواصل النبوي وأثره في البناء الحضاري

إذا كان الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واجبًا مكملاً لشروط الإيمان في جوانب العبادة والتزكية والسلوك، فإن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ترسيخ قيم التعايش والتفاعل الحضاري واجب شرعي أيضًا، لأن طاعة الله ورسوله تكون في الأمور كلها، مما يلفت النظر، ويدفع الباحث إلى الوقوف على أساليبه المنهجية في تعاملاته كلها، وآدابه في خطاباته وتواصله مع الناس.

والناظر في السيرة المحمدية العطرة سيقف على جملة من القضايا التي يظهر فيها التسامح النبوي والتواصل الحضاري الذي كان منهجًا للرسول الكريم، وما أحوج الإنسانية اليوم جمعاء اقتباس هذه المعالم الكبرى التي تعزز ترسيخ القيم والتعايش خاصة مع الآخر، (غير المسلم)، ومن هنا فإن الرسالة المحمدية جاءت بدعوة إنسانية عالمية خاتمة بالحكمة والموعظة الحسنة.

وبعد أن اتضح الأمر بوجوب تحقيق عالمية هذا الدين، جاءت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وزعماء عصره في البلدان والحضارات المجاورة، يحملها رسل عظام ثقات من الصحابة، للدعوة إلى الإسلام، وقد اتسم تعامله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء بإنزالهم منازلهم، ففي كل كتبه يصف الملك أو الأمير أو الزعيم بالعظمة، ولم يتحرج صلى الله عليه وسلم من وصف رجل غير مسلم بهذا الوصف، فيصف هذا وهذا (بعظيم الروم) و(عظيم الحبشة)، ويصف ذاك (بعظيم الفرس)، وذاك (بعظيم القبط) … وغير ذلك.

وفي هذا السياق، سيتناول المقال جملة من الرسائل المحمدية التي يستفاد منها التواصل النبوي الحكيم وتفعيل روح التسامح مع الآخر وهي على النحو التالي:

1– رسالته صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس (590م-627م) ، وهذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك” (فقه السيرة النبوية)

2- رسالته صلى الله عليه وسلم لهرقل قيصر الروم (610م-641م) الإمبراطور البيزنطي، وهذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)

3– رسالته صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي حاكم بلاد الحبشة، وهذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: سلام عليك إني أحمد الله إليك، الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المومن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى”.

4– رسالته صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر، وهذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)

وقد اختلف تلقي الملوك لهذه الرسائل، فأما هرقل والنجاشي والمقوقس، فتأدبوا وتلطفوا في جوابهم، وأكرم النجاشي والمقوقس رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل المقوقس هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما كسرى لما قرئ عليه الكتاب مزقه، فدعا رسول الله عليه أن يمزق ملكه، وكذلك كان.

وهذه الرسائل النبوية يستفاد منها ما يلي:

من حيث الشكل، نجد:

– الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل في رسائله عبارات الشكر والاحترام والرأفة، بعيدًا عن أنماط السخرية والاستخفاف، كما نبه إلى بعض نقاط التقاطع بين المسلمين وأهل الكتاب، ليتم التقارب بين الفريقين، فيصدروا جميعًا عن إيمان واحد وكلمة سواء.

– خطابه صلى الله عليه وسلم قد تميز بالحكمة والكياسة والابتعاد عن لغة التهديد، أو ما يوحي بطمعه في ملكهم، إذ ما كان صلى الله عليه وسلم يهمه متاع الدنيا، ولو كان غرضه ذلك لاستجاب لقريش يوم عرضت عليه الملك والسيادة والمال، مقابل أن يتخلى عن دعوته، لكنه أجاب: ” يا عم (يعني أبا طالب)، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته “.

أما إذا تأملنا مضمون تلك الرسائل والكتب، فإننا سنقف على دلالات عميقة، منها:

– أن هذه الكتب والرسائل النبوية كانت دعوة إلى تحقيق التعايش السلمي بين الأمم والأديان، وتجليًا عمليًّا تطبيقيًّا لسنة الله في التعارف الحضاري، ومنهاجًا نبويًّا لترسيخ القيم النبيلة، قيم التعايش والسلام والخير والتواصل الحضاري، والأمن الاجتماعي، والسلام العالمي بين الأمم والشعوب، وذلك من خلال تكرار عبارات: (أسلم)، (تسلم)، و(آمن)، و(الإسلام)، و(السلام)، و(أدعوك بدعاية الإسلام)، و(السلام على من اتبع الهدى)، و(يؤتك الله أجرك مرتين)، ذات الدلالات العميقة في كل كتبه صلى الله عليه وسلم.

– أنها جاءت لتجسد جوهرًا في الإسلام هو الإقرار بسنة الاختلاف في الآراء والمعتقدات والأصول، الذي يعترف بالآخر، ويدعو إلى التعايش معه ولا يقصي أحدًا، ويدعو البشرية جمعاء إلى الوحدة والتوحيد لتعود إلى الإسلام دين الإنسانية والسلم والسلام العالمي، من خلال سنده المتين الذي تقوم عليه رسائله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله جل وعلا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)

– أنها شكلت للأمراء والملوك الذين وجهت إليهم حافزًا إلى البحث في الإسلام الذي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، والتعرف على حقيقته، مع العلم أن الإسلام لم تكن قد رسخت أقدامه بعد في أرض الجزيرة، ولم تتوطد له زعماء العالم يومئذ أهل القوة والبطش والسلطان.

وقد كان موقنًا صلى الله عليه وسلم كل اليقين أن الله مظهر دينه، ومتمم كلمته، ومنجز ما وعده من النصر والفتح، وأن كل ما عليه لكي ينجز الله له وعده أن يبلغ دعوته إلى الناس كافة، وألا يألو في ذلك جهدًا، ولا يدخر وسعًا ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ (الشورى:48)

–  أنها أثبتت لهم أن مصير هذه الدعوة سيكون إلى ظهور، فما إن وصل الخبر حتى انتشر وذاع في كل الأطراف، وأخبر بها الداني القاصي، ويبدو أن ذلك كان تمهيدًا لقبول الدعوة الجديدة فيما بعد، فحينما قدم الصحابة الكرام إلى تلك البلاد بعد سنوات قليلة كان تقبل الدين الجديد سهلاً جدًّا، والدخول فيه قريبًا كالثمر الداني. (السيرة النبوية)

وإذا اتضحت بعض من معالم التواصل النبوي الحضاري، فسيرته صلى الله عليه وسلم حافلة بمعطيات أخرى تترجم للقيم السالفة منها:

– ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه (أي ما بالك؟) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترزموه (أي لا تقطعوا عليه بوله) دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن-أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. (صحيح مسلم)

وأخرجه الإمام البخاري مختصرًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه “فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين” (صحيح البخاري)

فهذا مثل من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم التربوي الرحيم وتواصله البناء، فعلى الرغم من شناعة المخالفة التي ارتكبها ذلك الأعرابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن معاملته بالقسوة ويأخذه باللين والهدوء، ويبين له أن تلك المخالفة التي ارتكبها تتنافى مع قدسية المساجد والأهداف التي بنيت من أجلها برفق وأسلوب حسن.

ففي هذا الحديث بيان لرفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي وحسن تعليمه له، وذلك لأن الأعرابي كان يجهل ذلك الحكم بطبيعة الحال ولهذا السبب لم يعنفه النبي ولم يوبخه، بل دعاه وعلمه برفق الأمر الذي يجهله.

ولا شك أن هذه المعاملة الرحيمة ستترك أثرًا طيبًا في نفس ذلك الأعرابي، وهذا الأثر الطيب سيقوده إلى الإسلام إن كان لم يسلم بعد، كما سيقود الآخرين ممن يسمعون بهذا الخبر، إضافة إلى أنه يعد تربية بالقدوة الحسنة للمسلمين كي يعاملوا الكفار باللطف والرحمة ليألفوهم إلى الإسلام، كما يشير إلى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: “فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.

ومن الأمور المهمة التي يجب استحضارها في هذا المقام شهادات بعض من المستشرقين المنصفين حول التواصل النبوي، وفيما يلي بعض الأقوال التي تشيد بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وتمدحه:

1- إدوار مونته:

“عرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظًا على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم” (مستشرق فرنسي ولد في بلدته لوكادا (1817 ـ 1894) قوله في آخر كتابه (العرب).

2- المفكر الفرنسي لامارتين:

“قال هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة، بلا أنصاب ولا أزلام. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة. هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟”

3- مايكل هارت:

“إن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي… إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخوله أن يعتبر أعظم شخصية أثرت في تاريخ البشرية.”(دكتوراه في علم الفلك من جامعة برنستون، صاحب كتاب (الخالدون مائة أعظمهم محمد).

4- الدكتور زويمر الكندي

قال: “إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضًا بأنه كان مصلحًا قديرًا وبليغًا فصيحًا وجريئًا مغوارًا، ومفكرًا عظيمًا، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء”. (كتابه “الشرق وعاداته”)

يظهر من خلال هذه الآراء أن المدح له هنا إنما يتجلى في عبقريته كرجل مصلح ذكي، شعاره التواصل الفعال وتعزيز جمالية الدين الإسلامي.

فمن خلال ما سلف، لا بد من ترسيخ هذه القيم النبيلة في الزمن المعاصر وخاصة مع الآخر وقبوله والتواصل معه بلين ورأفة لبناء مسيرة التعاون والتقارب والتفاهم والحوار.