المثقف ومسؤوليته التنويرية

على مدار الحضارات الإنسانية، تجلى دور المثقف في اختياره الإرادي لتحمل مسؤولية التغيير والتنوير وإعادة تشكيل المجتمع. فالمثقف الحقيقي هو من يعي تناقضات واقعه، ويكثف بكلماته الواقع أمام المتلقي، فيفجّر هذه التناقضات من داخلها للوصول إلى الجديد فكريًّا وحضاريًّا.

إن مسئولية المفكرين اليوم أو المثقفين في العالم، يشبه الدور الذي كان يلعبه الأئمة وقادة التغيير والتبديل في المجتمعات القديمة.. إن مسؤولية المفكر المثقف في زمانه، هي القيام بالتنوير في مجتمعه حين لا يكون نبي، ونقل الرسالة إلى الجماهير، ومواصلة النداء (نداء الوعي والإخلاص والإنقاذ) في آذان الجماهير الصماء التي أصيبت بالوقر، وبيان الاتجاه والسبب، وقيادة المجتمع المتوقف.. وهذا عمل لا يقوم به العلماء، لأن هناك مسؤولية على عاتق العلماء محددة تمامًا، وهي فتح الحياة أكبر قدر ممكن من الإمكانيات، ومعرفة الوضع الراهن، وكشف قوى الطبيعة والإنسان واستغلالها.

ولذلك يقول أحد الباحثين عن مسؤولية المفكر في المجتمع: “ليس المفكر هو الإنسان الذي يقول عن نفسه: أنا مفكر لأنني ذهبت إلى أوروبا وقرأت عن مدارس كذا الفكرية، وقرأت كذا من الدروس، ونجحت في الامتحان فيها، ونلت فيها الشهادة.. ليست مسؤولية المفكر بالذي يمكن الحصول عليها من الجامعات.. إن وجود الفقر لا يسبب الحركة، لكن الإحساس بالفقر هو الذي يسببها.. لذلك ينبغي أن ننقل التناقض من باطن المجتمع إلى ضمائر الناس ووعيهم، حتى يتسبب في إحداث الحركة الإيجابية”.

المفكر إنسان على وعي بالتناقضات الاجتماعية، وعلى وعي بالعوامل الصحيحة لهذا التناقض والتضاد، وعلى وعي باحتياجات هذا العصر وهذا الجيل.. ومسؤول عن إبداء طريق الخلاص للمجتمع في هذا الوضع المتناقض المُدان، وتحديد الحلول والمُثل المشتركة للمجتمع، ومنحه نوعًا من العشق والإيمان المشترك الفوار للناس الذين يعيشون في خضم البارد الراكد لمجتمعهم التقليدي المنحط، يحدث فيه حركة وينقل إلى مواطنيه علمه ووعيه، وتكون لغته مناسبة لهذا العصر، وحلوله متناسبة مع هذه التناقضات، وأسسه متناسبة مع هذه الثقافة.

إن معرفة ثقافة مجتمع، ما هي إلا معرفة حقيقية لبواطن ذلك المجتمع ونقاطه الحساسة وعواطفه.. ينبغي للمفكر المثقف أن يكون ذا حضور في عمق ضمير السواد الأعظم من مجتمعه. يقوم المفكر المثقف -وهو المهندس الثقافي في المجتمع- باستخراج الكنوز الثقافية العظيمة لمجتمعنا العربي والإسلامي وتنقيتها، وتبديل هذه المواد التي سببت الانحطاط والجمود إلى طاقة وحركة.. يعقد جسرًا من القرابة والألفة والتفاهم والمشاركة بين “جزيرة” أهل الفكر و”شاطئ الناس” اللذين ابتعدا كل عن الآخر ويزداد ابتعادهما بمرور الوقت، وذلك ليجعل الدين الذي نُزل في الأصل للحياة والحركة، في خدمة الحياة.

ولا يمكننا أن نحمل المثقف العربي مسؤولية تغيير المجتمع بمفرده، لأن التغيير بمعناه العميق تنجزه القوى الاجتماعية الواعية في مختلف تجلياتها، واستنادًا إلى تنظيمات سياسية ديمقراطية تبلور مشروعًا يحقق للمجتمع حياة أفضل، ويكون المثقف أحد عناصر قوى التغيير إذا اقتنع بأهدافها.

ومن البديهي أن يعرّف المثقف نظريًّا، بموقفه من علاقة الثقافة بالمجتمع، “فهو يرفض الثقافة كملكية خاصة بالمثقفين ويعمل على تحويلها إلى ملكية جماعية، متطلعًا إلى مجتمع مثقف مستنير، لأن فعل المثقف لا يستقيم إلا في مجتمع أوتي من الثقافة حظوظًا معقولة.

ولعل دعوى تثقيف المجتمع، أو الحلم بمجتمع مثقف، هي التي تدفع المثقف دائمًا إلى اقتراح بديل اجتماعي، يستبدل باحتكار المعرفة والسلطة مجتمعًا ديمقراطيًّا، يوزّع حقوق الثقافة والسياسة على المواطنين جميعًا، يوحّد هذا التصور بين النقد ودور المثقف، ويعرّف الأخير بوظيفته الاجتماعية النقدية، ذلك أن “المثقف غير النقدي” استطالة للكاتب السلطوي القديم الذي كان دوره -ولا يزال- تسويغ الحاضر وإعاقة المستقبل المنشود. وإن الحالة هذه، بُعد داخلي ضروري في كل ممارسة ثقافية. رفض المثقف ماضيه هو موقف يفتقد إلى المعنى، ويرهن بعض وجوهه للماضي يضعه في الحاضر والمستقبل في آن.

ومن هنا يرى الباحث “محمد جبريل”، أن الثقافة ليست مجرد المعرفة، وليست مجرد زيادة حصيلة المعرفة، ولا مجرد إضافة أرفف جديدة من المعلومات في داخل الذهن الإنساني، لكنها إسهامات متجددة ومطلوبة في تحقيق التفاعل بين المرء والعالم الذي يحيا فيه، وفي تعميق رؤيته الأكثر اتساعًا للأفراد وللجماعة التي ينتسب إليها، وللعالم.

المعرفة لا قيمة لها ما لم يستتبعها محاولات تطبيقية في الحياة اليومية في إحداث مراجعة للوعي والنظرة، يقول “ابن المقفع”: “فإن صاحب العلم يلزمه القيام بالعمل لينتفع به، وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالمًا، ولو أن رجلاً كان عالمًا بطريق مخوف ثم سلكه على علم به، يسمى جاهلاً”. ومن هنا، فالمرء حصيلة معرفته، وهي تشمل كل ما قرأه واستمع إليه وشاهده واختبره.

إن الثقافة إطارها السلوك والفعل والتصرف.. والمثقف هو الإنسان ذو المعرفة والموقف الحضاري في آن. لا قيمة لقراءة الكتب وسماع الإذاعات ومشاهدة المسرح والسينما والقنوات الفضائية، ما لم يلتحم بذلك كله سلوك يُعنى بالتطبيق الإيجابي والفعّال لكل ما حصّله المرء من معرفة.

ولذلك يخلص الباحث محمد جبريل إلى أن الثقافة ليست مجرد معلومات نظرية، لكنها حصيلة لجميع المعلومات التي يكتسبها المرء خلال حياته، واستخدامها بصورة مفيدة وإيجابية وفعالة. والمثقف هنا ليس هو الذي يملك أكبر قدر من المعرفة، لكنه الذي يمتلك أكبر قدر من الوعي. لقد تحقق له الوعي بالمعرفة، وأفاد من هذا الوعي في تقرير المناسب والأفضل والأجمل.

ولكن اليوم والأمس، أصبح المثقف العربي يوجه إليه كثير من الاتهامات ولا تزال؛ أنه ابتعد عن دوره الرائد، ومهمته التنويرية التي هي بمثابة الضوء الساطع لحركة المجتمع، وتفاعله في قضايا الفكر والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عنها بحيوية، باعتبارها حجر الزاوية في انطلاقة حضارية إنسانية وتعددية ثقافية، بحيث تلامس احتياجات المجتمع وغاياته في توازن وتناغم، بما يسهم في بناء ثقافة واعدة وناجزة لمهام المثقف وتطلعاته، بعيدًا عن اجترار المفاهيم والمصطلحات الرائجة لتحديد دور المثقف ومهامه في هذا العصر.

إن علة العقل العربي وما ينتجه من فكر، وكذلك علة من يمثله من مثقف أو مفكر، إنما تكمن في جموده وتقليديته غير القابلة للتغيير؛ فمثقف اليوم ليس إلا امتدادًا لنخبة الأمس الفكرية في تعاملها مع المجتمع وقضاياه، يجب أن يكون وصيًّا على الناس وإلا ضلّوا.

فحين يتحدث المثقف العربي عن أية ظاهرة حديثة -مثل المجتمع المدني، العولمة، الغزو الثقافي- يبقى مفهوم “العامة” وفق الفهم التقليدي هو المسيطر على الذهن وهو المحرر للسلوك. ويبقى المثقف العربي سجين أفكاره التي يعتقد بصحتها المطلقة رغم التفسيرات والأحداث الاجتماعية.. إنه لا يتغير مع المتغيرات ولا يحاول فهم معناها الفعلي، بل يفهمها وفقًا لأفكاره الذاتية -وكثيرًا ما نراه- لا يعيد النظر في مفاهيمه ومسلماته الفكرية. وإذا كان المثقف الغربي مشترك مع المثقف العربي في وهم الوصايا وملكية الحقيقة، إلا أن المثقف الغربي يحني رأسه للأحداث، ويعيد التفكير والنظر في مسلماته وفق الأحداث الجديدة.

ويذكر “تركي الحمد” أن المثقفين العرب يدورون في حلقة نخبوية مغلقة، يتنافسون مع بعضهم بعضًا، ويتخاصمون ويتحالفون، دون أن يصل صدى ما يطرحونه إلى الشارع، والمشكلة الأكبر أنهم يعتقدون بأنهم يتحدثون باسم الشارع والتعبير عنه، في حين أن الشارع في واد وهم في واد آخر. ويشدد على أن هذا الشلل يتبدى في حالتين، الأولى هي الانسحاب الكامل من الحياة، والثانية أن ينخرط في الحياة العامة. وفي كلتا الحالتين يعيش حالة من الغربة.

والمظهر الآخر لأزمة المثقفين العرب هو حالات التعبير عن الفشل والشلل، التي يتحول فيها المثقف من رقيب على العامة إلى الخضوع المطلق للعامة في حالات معينة، وبدلاً من تغيير للعامة وفق موقفه السابق، يتحول إلى مبرر لأي حركة تقوم بها العامة، ثم يتحول المثقف من مثقف إلى محرّض جماهيري، ومن مجال الثقافة إلى مجال الأيدولوجية. وهذا ما ينطبق عليه تساؤل “تركي الحمد”؛ “مثقفون أم مؤدلجون”.

صحيح أنه لا مانع من أن يكون المثقف مؤدلجًا طالما أن ذلك يمنحه التماهي والتوحد المفقود مع العامة وتطلعاتها، ولكن مثل هذا الموقف يتعارض جذريًّا مع جوهر الثقافة والفعل الثقافي، باعتباره موقفًا نقديًّا مفتوحًا مقابل الأيديولوجيا التي تعتبر بمثابة نسق من الأفكار لتصور الواقع وطرح إجابات عنه ثابتة أو مغلقة.

ومن هنا، فالأيديولوجيا ثابتة تفرض نفسها بقوة، فإذا تأدلج المثقف، لم يعد قادرًا على أداء دوره طالما أن الأيديولوجيا ثابتة، أما الثقافة فمتغيرة، وهذا ما يؤدي إلى عزلة المثقف من جديد وغربته عن المجتمع وقضاياه.

(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.

المراجع

(١) المثقفون وأصحاب القرار، أمين هويدي، الكويت، أبريل ١٩٩٢، العربي، العدد:٤٠١.

(٢) تحولات المثقف العربي في القرن العشرين، د. فيصل دراج، بيروت، فبراير ٢٠٠٨، المستقبل العربي، العدد:٣٤٨.

(٣) المقومات الجمالية للتعبير الشعبي، د. نبيلة إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠٠٤، القاهرة.