كتب البروفيسور “جان بيار شانجو” الفرنسي في خلاصة كتابه الأخير “رجل الحقيقة” أن: “بعد فك ألغاز الأطلس الوراثي، بات البحث العلمي يتيح لنا اليوم فهم الدماغ ووظائفه بشكل أفضل، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، وكل ما كان يعزى إلى المجال الروحي والمادي، في طريقه إلى التحول كمادة ملموسة ومحسوسة وطبيعية (…) كيف نفكر إذن؟ ما الذي يجعل منا كائنات موهوبة عقلاً، قادرة على التذكر، وفهم كنه العالم المحيط بنا، وحجم الانفعالات؟ لطالما تصدى الفلاسفة في الأساس لهذه الأسئلة، أما اليوم، فإن العلماء هم الذين يعطون الأجوبة الحقيقية.. فبيولوجيا الدماغ ودراسة تطوره، يضعنا على الطريق الذي سيفضي إلى الحصول على مفتاح العقل أو الوعي أو الفكر البشري”.

أما “جيرالد أدلمان”، الحائز على جائزة نوبل في الطب، الذي تحول من أخصائي في علم المناعة إلى باحث في أعماق الدماغ، يقول: “إن ثورة العلوم العصبية -التي تساوي اليوم ما حققه سابقًا كلٌّ من كوبرنيك وآينشتاين وداروين- تحمل في طياتها نظرية جديدة تتعلق بالنفس والجسد”.

ويؤكد “جيرالد” و”جيوليوتونوني” مطولاً في كتابهما “كيف تتحول المادة إلى فكر؟” أن: “الباب بات من الآن فصاعدًا مفتوحًا إلى حد ما بحيث يتيح الإمساك بمجمل الآليات العصبية التي تولد الفكر البشري، هذا الفكر الذي كان أحد الأهداف الرئيسية للتساؤل الفلسفي، ولكنه لم يصبح مقبولاً بين الأمور العملية التي تبرر الاستقصاءات الاختبارية إلا منذ بعض الوقت، حيث توافرت بضع الوسائل للقيام بالبحث العلمي على الفكر نفسه”.

ويقول الدكتور “جان دولا كور” الفرنسي، المتخصص في البيولوجيا العصبية السلوكية: “إن تحول الفكر إلى أحد الموضوعات الرئيسية للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ناتج عن ثورة مزدوجة، الأولى فرضت ابتداء من الستينات التعرف إلى الحالات العقلية، سواء ما كان يتعلق بالإدراك، أو الفكر المجرد، أو الذاكرة، أو التخيل”، ويقول أيضًا: “إن هذه الثورة المعرفية ليست عودة إلى الروحانية أو الطوباوية التقليدية، لأن تحركها الأساسي هو تطور أحد العلوم وامتداداته الصناعية، أي معلوماتية الفكر والدماغ الحدود الجديدة للعلوم العصبية”.

في هذا المجال، نلاحظ اليوم تكاثر الأعمال التي تستهدف اكتشاف وتحديد القواعد المادية للمخ، وبشكل أدق، للفكر البشري. وفي مؤتمر “بيولوجيا وفكر” الذي عقد منذ فترة وجيزة في باريس، أكد المشاركون أنْ ليس هناك مجال للشك في أن ثورة العلوم المعرفية المستوحاة من المعلوماتية، مضافة إلى الفوائد المتعددة للتصوير الدماغي وعلم بيولوجيا الأعصاب -الذي يتناول الأعصاب الوسيطة، والأعصاب المتداخلة، والأعصاب المحدودة أو الخلايا العصبية- ستسمح عاجلاً أو آجلاً بفك ألغاز الأسس المادية، والجزيئية للتفكير البشري. وقال شونجر: “إن الأبحاث التي دارت في المؤتمر حول الدماغ، والافتراضات النظرية التي تدعمها، تسمح على الأقل بصياغة جديدة لمسألة فسيولجيا التفكير والحقيقة”.

كيف يفكر المخ؟

وعن حركة الدماغ نشر فريق البروفيسور “برنار دوبوا” في إحدى المجلات الأمريكية المتخصصة، دراسة حول الحركة بين النظام الذي يدفع باتجاه الفعل، والنظام الذي يسمح باتخاذ موقف؛ أظهرت أن هذين النظامين يتعلقان بمنطقة معينة من الدماغ يطلق عليها “قشرة ما قبل الجبين”، وكان الافتراض الأولي يقوم على أساس وجود نظام عصبي خاص يربط بين العمليات التحفيزية والفاعلة من أجل الحصول على الفعاليات القصوى، فقبل الفعل يستنفر الكائن البشري منطقتين مختلفتين من القشرة السابقة للجبين. وقد توصل فريق البروفيسور “دوبوا” إلى استنتاجين مهمين في دراستهم لهذا المجال هما:

أن تنشيط الشبكة العصبية المتداخل في معالجة المعلومة، هو نسبي قياسًا إلى الشحنة الفكرية، وكلما كان الاختبار صعبًا كان مستوى تنشيط الخلايا العصبية مرتفعًا، ونحن نملك احتياطات قابلة للتحريك، غير أن زيادة التنشيط لا تتناول فقط المساحة السطحية المنشطة، وإنما تركز على تكثيف عملية التنشيط. وأما الاستنتاج الثاني فهو التثبيط الموزاي للشبكة العصبية في النظام الانفعالي الطرفي الذي يشكل تسربًا انفعاليًّا خلال المهمة.

إن هذه النتائج تخص التفكير في نشوء توازن بين زيادة النشاط في الشبكة المعرفية القشرية، وخفض النشاط في بنيات الجهاز الحوفي في الدماغ خلال القيام بالمهام العملية أو الفاعلة، وكلما كان الاختبار صعبًا، أو كلما كانت النتيجة مهمة، مال الميزان لمصلحة الجهاز العملي على حساب تنشيط جهاز التحفيز.

ويقول “دوبوا”: “إن هذا لا يعني أن تقوية وتنشيط الجهاز الحوفي ليس لهما تأثير قبل تنفيذ المهمة، ولكن كل ذلك يحصل كما لو أن الفرد يعطي أفضل ما عنده خلال الاختبار”. وخلال الدراسة كشف البروفيسور “دوبوا” للمرة الأولى عن مساحة من القشرة السابقة للجبين يجري تنشيطها بصورة خاصة عندما تحصل عملية التقوية خلال الاختبار أيًّا كانت صعوبته، وتشكل هذه المساحة جسرًا بين الشبكة العصبية لنظام التحفيز وشبكة النظام العملي. ويعتبر “دوبوا” أن هناك قائدًا للاوركسترا في تلك المنطقة، يبدأ العمل وينظم تنشيط الجهاز العاطفي. وقال أحد علماء التشريح في المؤتمر (وهو د. جون جيفري): “إن تلك المنطقة تزيد مساحتها وحجمها في بعض الأشخاص النابعين عن مثيلتها في الأشخاص الأقل نبوغًا، حتى إنه منذ سنوات قليلة كان ينظر إليها أحيانًا على أنها ورم حميد.

هذه الدراسات الحديثة في مجال المخ والتفكير البشري، تجعلنا نعيد التفكير في كيفية التعامل مع أمخاخنا و أمخاخ أطفالنا بالذات؛ لأن كل أم تعتقد دائمًا أن طفلها هو عبقري المستقبل، فترمقه بإعجاب منذ اليوم الأول، وتبدأ في رصد حركاته، وسكناته لتكشف فيه علامات النبوغ المبكر، إلا أن هناك بعض المواقف أو السلوكيات قد لا يكون لها أية علاقة بالنبوغ والذكاء، وإنما تعد مؤشرًا لإصابة الطفل بأخطر الأمراض.

فعندما تتكرر شكوى الطفل من الصداع مثلاً، يجب ألا تعزوه الأم إلى الإجهاد أو اللعب الكثير، ولا أن تقف عند حد إعطائه المسكنات، خاصة إذا تعرض لحالة من القيء المستمر في الصباح الباكر قبل ذهابه إلى مدرسته.. فلا تظن أنها مجرد برد في المعدة وسيذهب بعد قليل.. فالأفضل هنا الإسراع بعرضه على الطبيب المختص، لأن مثل هذه الأعراض قد تكون مؤشرًا لوجود ورم حميد فعلاً في المخ، والاكتشاف المبكر له يقود إلى الشفاء بنسبة ١٠٠٪ بإذن الله.

الذكاء يبدأ من الأمعاء

إن الذكاء يبدأ من المعدة أولاً. ولكي تعمل المعدة بكفاءة عالية، تساعد المخ على أداء وظائفه، ولكي يعمل الجسم، فهو يحتاج إلى البروتين للنمو والبناء، ويحتاج إلى الكربوهيدرات لتغطية الطاقة الحرارية والدهنيات للوقود، والفيتامينات والأملاح المعدنية أيضًا ضرورية لأنها أدوات تنظيم في الجسم، وبدونها لا يستطيع الجسم أن يستعمل المواد الأخرى. والماء والألياف والسوائل.. كلها تكمل السبعة أنواع الرئيسية للطعام المتوازن، ونحن ينقصنا الفيتامين والأملاح الكافية بسبب الطرق الحديثة في تجهيز وطهو وحفظ واستعمال الأطعمة.

هذا النقص يؤدي إلى عواقب وخيمة بسبب العلاقة الوطيدة بين الغذاء و الذكاء. وقد دلت الأبحاث على أن الوجبة الرئيسية في غذائنا مهملة ونحن نعاني نتيجة لذلك؛ فقد وجد أن ٥٠٪ من الأطفال في سن المدرسة يتناولون طعام إفطارهم، ولكن تنقصهم المواد التي تحميهم، مثل الحمضيات من الفواكه والعصائر الطازجة، واللبن والبيض.. وأن ٣٢٪ يتناولون غدائهم ناقص الخضراوات والخبز الأسمر واللبن والفاكهة، وأن العشاء مع أنه يعتبر أفضل وجبة في اليوم في نظر الكثيرين، فإن ٢٠٪ تنقصهم في العشاء المواد الضرورية، مثل اللبن والخضراوات والفواكه.

إن إهمال تناول وجبة الإفطار يؤدي إلى نقص مستوى السكر في الدم، مما يؤدي إلى صداع واضطرابات معدية وهزال واضح، كما أن عدم الوفاق بين التلميذ والمدرس بسبب صعوبات التعلم، قد لا يكون سببه التخلف العقلي، أو ضعف الذكاء، أو التمرد، أو صعوبة الفهم، بل لأن التلميذ لم يأكل ما يكفيه ليكون قادرًا ذهنيًّا على السيطرة على تصرفاته.

إن وجبة الإفطار هي أضعف نقطة في التغذية حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، علمًا بأن الإفطار يجب أن يمد الجسم بمقدار ربع أو نصف ما يحتاجه من المواد الغذائية والسعرات الحرارية، وعدم تناوله يسبب التوتر والاضطراب العصبي، وأحيانًا الشراسة لدى الأطفال والكبار على السواء.

وفي دراسة عن تأثير التغذية على النمو العام لتلاميذ المدارس، وجدت أن ٨٠٪ من التلاميذ الذين ينقص وزنهم عن المعدل، كانوا يأكلون وجبة الغذاء الذي يحتوي على الخبز الأبيض في مطعم المدرسة. والفريق الآخر، أي التلاميذ الذين يأكلون الخبز الأسمر زادوا في الوزن والطول، والسبب هو أن الخبز الأسمر يحتوي على فيتامين “ب” الموجود في جنين حبة القمح.

لا شك أن نقص الفيتامين والأملاح، يؤدي إلى الآلام والأوجاع وتوتر الأعصاب.. والأطفال خاصة يعانون من التوتر، وهم معرضون لأمراض العيون، والأذن والحلق والأسنان.. وفكرة تعويض نقص الفيتامين بالأقراص، يأخذ وقتًا طويلاً ليصلح الخطأ، في حين أنه يمكن إصلاحه بتناول الطعام المفيد واللازم.

(*) باحثة وكاتبة مغربية.

المراجع

(١) Education etpersonas agees en France, rapport de la de conference international pour peducation des adultes (Unesco 19-29 Mars 2020) puplie par centre international de gerontologic sociale ,Paris.

(٢) La Sante dans la tiers-monds (No.121) inpervenir, cahiers d’edition de Vie mutualiste, Marseille. 2020.

(٣) Autres medecine, autres moeurs, No 85 (December 2019) de la revue autrement, Paris.