التسامح والإخاء في بلد التنوع والتعدد

“حتى لو سألني ملك نزل من منارة قطب منار هل تريد حرية مطلقة أم إخاءً دينيًّا مشرقًا لقلت أريد الإخاء والتسامح” (أبو الكلام آزاد).

رغم الجراح التي تكوي الهند منذ سنوات وتحرقها حتى الآن توجد هناك صور جميلة لتلك المشاهد التي تشفي الصدور وتثلج القلوب في بلد التنوع والتعدد، في بلد العجائب والغرائب، مشاهد من التآخي والتسامح، وتجارب رائعة من المودة والتراحم، فتلك قادرة لهدم جدران العنف والكراهية ورسم خارطة الحب والإخاء من جديد، وامتدادًا للماضي الجميل حيث كان الملوك المسلمون يوظفون وزراء هندوسيين ويجلسونهم في مناصب راقية ويفتحون الطريق الأوسع لكل المذاهب والمعتقدات بدون خنق ولا تضييق أظهر الحاضر الهندي كذلك صورًا بديعة للتسامح والتعايش…

فلقدوم الإسلام إلى الهند تاريخ طويل وجميل من التآخي، فلولا تلك الأيادي الهندوسية الناعمة التي مدت إلى التجار المسلمين لما كان للإسلام رمق ولا ألق في الديار الهندية، وفي حكايات التاريخ أن الهندوس صنعوا صنم حب وتقدير شأن أهالي الهند كإشارة إلى حب وشارة احترام للغازي الأموي الشهير محمد بن قاسم حيث فتح السند عام 712م وطبق هناك مظاهر العدالة الاجتماعية المحرومة زمانًا وكسب قلوب ملايين الهندوس حتى اعتنق الكثير منهم الإسلام وتعرفوا على قيم الإسلام الجميلة حتى وإن لم يعتنقوا أصبحوا يحترمون مبادئ الإسلام ومقدساته.

وفي التاريخ أيضًا حكايات الملوك الهندوس التي أقطع أراضي واسعة لبناء المساجد وأمدت لها كل المعونات والتمويلات أمثال السامري ملك كالكوت كيرالا حيث كان راعي المسلمين في القرن الخامس عشر حتى كتب عنه الشاعر المليباري محمد بن عبد العزيز الكاليكوتي قاضي كالكوت قصيدة باسم الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين، والقصيدة عبارة عن خمس مائة وسبعة وثلاثين بيتًا، يبين فيها عن وصول البرتغاليين إلى مليبار واستعمارهم وقلعتهم الشامخة في تشاليم التي تطل على البحر العربي، وكانت هذه القلعة من أقوى القلاع التي بناها الاستعمار البرتغالي على أرض الهند، وكانت علامة فخرهم ووسام شرفهم، فلما نشب الخلاف بين السامري والبرتغاليين شهدت القلعة لملحمة تاريخية عظيمة حتى استردها السامري من أيدي البرتغاليين، فجاءت القصيدة تصف البطولة وإرادة السامري وأخلاقه الطيبة نحو المسلمين، والقصيدة وإن كانت فيها كسور عروضية لم تقل قدرًا وأهمية لما تحمل من معاني جميلة ومبادئ نبيلة كانت معهودة بين السلطان الهندوسي والمسلمين حيث لم تمنع العقائد ولا الأفكار لبناء جو أمني وسلمي بين الأقوام، وعلى العكس كذلك هناك ملوك مسلمون أنفقوا أموالاً طائلة لبناء المعابد الهندوسية وعلى رأسهم الأمير نواب صفدر جنك الذي يعود إليه الفضل في بناء سلسلة من المعابد الهندوسية في منطقة أيوديا، والملك شجاع الدولة الذي أقطع مساحات واسعة لبناء هانومان غارهي المكان المقدس لدى الهندوس إلى الآن، بل إن الملك المغولي السلطان أوركنزيب الذي وجهت إليه اتهامات عديدة بتراء بشأن عصبيته وعداءه تجاه الهندوس كان الراعي الأكبر والرجل السباق لإمداد الهندوس بمساعدات مالية ضخمة…

وتوجد في الهند عائلات هندوسية أهدت للمسلمين أراضي واسعة لبناء المساجد ورحبت بالتجار المسلمين، بل بين الهندوس من اعتنقوا الإسلام فزوجوا بناتهم للتجار العرب وأعطوا لهم مساحة في بيتهم وفي قلبهم، وربما هذه الحكاية التاريخية تذكرنا بما جرى حين قدم المهاجرون إلى المدينة، حيث لم يشعروا بالغربة والضيق لما عاشوا أجواء سلمية ودية مع الأنصار.

فمن المناظر البديعة المعهودة في شوارع كيرالا التي تعبر عن مدى الحب النابض والاحترام الحي بين الهندوس والمسلمين أمهات هندوسية ترافق الصغار المسلمين الذاهبين إلى المدارس الإسلامية، وبنات يتيمات مسلمات نشأن في أحضان العائلات الهندوسية فكانت لهن خير أم وأفضل مكان، وأما في مناسبة الأعياد الدينية ما بين العيدين الذَين يحتفل بهما المسلمون وأونام التي يحتفل بها الهندوس حيث يتنافس كل من المسلمين والهندوس في تبادل الهدايا والأطعمة والعيديات لتنسج تلك المظاهر العيدية الرائعة بنية اجتماعية رصينة، وقبل شهر بالتحديد احتفت المنصات الاجتماعية بمشهد إنساني جميل وذلك لأن الأسرة الهندوسية لجأت إلى سادات فانكاد التي عرفت بتعاملاتهم الإنسانية تشكو إليها ابنها الذي اتهم بتورط في جريمة في السعودية، فكان عليه أن يدفع دية مبلغها 5 مليون روبية هندية، وفي تلك اللحظة التي سدت أمامه كل أبواب الدنيا جاء إلى سادات فانكاد التي لم تخيب آمال المكروبين منذ زمن بعيد، ولها رصيد ثري من الخدمات والأنشطة الاجتماعية التي أسهمت في صناعة جو من الأمن والسلام، ونتيجة لمحاولاتهم ومساعيهم الدؤوبة تم الإفراج عن هذا الفتى الهندوسي، فهذا المشهد الإنساني الرائع الذي ذاب فيه كل ما رسمته صناع العنف وخفافيش الظلام أوضح صورة للبنية الاجتماعية المليبارية التي رفضت رفضًا باتًّا لكل الأعمال التخريبية التي تمارسها بعض الجهات، وفي هذه الفترة حيث تصاعدت معدلات العنف على أنحاء الهند، تتزايد أهمية هذه المناظر الخلابة التي تحيي في البلاد روح المودة والاحترام وتعيدها إلى سيرتها الأولى…

فمن بدائع التجارب التي نسجت من الحوار والاحترام المتبادل والتواصل المستمر الخبر الجميل الذي يبدو لدى الكثير غريبًا عجيبًا حيث كان يتربع على منصب رئاسة هيئة إدارة مسجد موتل بمديرية فايناد بولاية كيرالا الهندية شخصية هندوسية له نفوذ بين الفئات المختلفة اسمه راداغوبي مينون، وكان رئيسًا لجامع موتل كما كان يترأس هيئة إدارة معبد هندوسي باسم مهاوشنو في نفس البلدة، وربما نتعجب من هذا المنظر، كيف يتربع رجل هندوسي على إدارة جامع، وإلى الآن ما زالت إدارة الجامع تحافظ على تلك التقريرات التي تنص على هذا الانتخاب الجميل، وكان رادغوبي مينون رجل له نفوذ بين الهندوس والمسلمين لخدماته الإنسانية وأخلاقه الراقية وتعاملاته الطيبة، وهذا الأمر ليس بغريب لأهالي مليبار، حيث إن مساجدهم ومعابدهم تتجاور وتتعانق بعضها بعضًا، وكل يحافظ على ديمومة الحب والاحترام حتى لا تتأجج هناك فتنة ولا شغب لتكون مليبار ملتقى الأديان ومجمع الثقافات، وقد وصلت رسالة كل هذه الديانات إلى الهند في القرون الأولى ولم يبخل السكان الهندوس في ترحيب كل الديانات وتسهيل الوسائل لها…

ومما يدل على قبولية قضاة المسلمين وقادتهم أنه في كثير من الحالات الحرجة التي تتعلق بالمساجد والهياكل يلجأ الهندوس أنفسهم إليهم ليحلوا المشاكل ويزيلوا المطبات، وكان عائلات السادات والأشراف همزات الوصل بين الديانات ومختلف شرائح المجتمع، ولسادات فانكاد دور كبير في حل مثل هذه المشاكل، وقد عرف كبار ساداتها بمعاملاتهم الحسنة والحكيمة تجاه هذه القضايا التي لولا دورهم لأشعلت فتنًا وألهبت وطنًا، فمن الحكايات التي تدل على حنكتها ما حكم السيد محمد علي شهاب في قضية رفعت إليه بشأن نارجيلات تسقط من البيت المجاور للمسجد لتنكسر طوباته ويشكو إليه المسلمون، فطلب المسلمون الأسرة الهندوسية لقطع شجرة النارجيل، ونظرًا لخطورة المشكلة أذنت ربة البيت الهندوسي لقطعها لكن ابنها أبى وأصر على أن لا تقطع الشجرة، وقتها جاءت هيئة إدارة المسجد إلى السيد محمد علي شهاب ليحكم في هذه القضية، الحكم التاريخي النادر الذي لا نراه إلا في صحف الكبار، حكم العدالة والتسامح، وذلك حيث أعطى فضيلة السيد بعضًا من الروبيات وأمر هيئة إدارة المسجد بوضع الإسمنت بدلاً من الطوب حتى لا ينكسر، فدهشت السيدة الهندوسية بهذا الحكم المبهر حيث كانت تنتظر أن يحكم عليها لأن الحاكم هنا سيد مسلم والقضية قضية مسجد جامع يصلي فيه مسلمو القرية، وفي نفس الليلة جاءت إلى السيد السيدة لتعلن بأنها جاهزة لقطع شجرة النارجيل لأنها تلمست في القاضي العادل نبض التسامح وروح التواصل، وما زالت هذه الأسرة الشريفة تسعى لنسج خيوط التسامح والتعايش، وحتى رهبان الهندوس وقساوسة المسيحية يحترمون هذه الأسرة الإسلامية الشريفة، ويرون فيها المثل العليا التي يدعو إليها الإسلام والمسلمون ويدعون كبارها وصغارها للمشاركة في حفلاتهم الأسرية والدينية..

ويزداد القول هنا بأن أضرحة الصوفية ومزاراتهم كانت وما زالت تعد من أبرز المتكئات العامة التي توفر السكون والطمأنينة لكل الزائرين بغض النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم، وكانت تمثل المطابخ العامة التي توزع فيها أنواع الوجبات والمأكولات والملاجئ العامة التي ينام فيها المشردون، بل هناك قول مشهور لدى المحللين السياسين: “حتى في زمن الفتن الطائفية التي طالت فيه الحملات الشرسة المساجد والمدارس ظلت أضرحة الصوفية محمية محفوظة لا تمس”، وهذا التحليل لم يكُ وليد لحظة بل هو تحليل جاء من قراءة الواقع واستيعاب الماضي واستشراف المستقبل..