اجعل صيامك عبادة لا عادة

حلَّ رمضان، وقد حلّ بنا سنوات، فاستقبلناه وودعناه.. فمنّا من استفاد منه وما يزال يستفيد، ومنا من تحوّل عنده عادة كسائر العادات المرتبطة بالزمن، فصار يحرص على صوم شهر كامل كل عام كما يحرص على الوجبات الثلاثة يوميًّا. ومن هذا المنطلق، لا بد من إعادة النظر في صيامنا حتى يؤتي ثماره، فكل عبادة بعيدة عن روح تشريعها مضْيَعة للجهد والعمر. فما ينطبق على الصوم ينطبق على سائر العبادات، من زكاة وصلاة ودعاء وحج.. فإما أن تؤدى على الوجه الذي يجعلها مفيدة في العاجلة والآجلة، وإما أن تكون مجرد شرائع تستنفد منا الكثير دون جدوى.
بين العادة والعبادة
إذا كانت العادة تتعلق بأمور ألِفها الناس في الملابس والطبخ والمحافل والمعاملات والعلاقات، فإن العبادة عكس ذلك؛ فهي تحتاج إلى إيمان وضمير حي، وعلم بأسرار تشريعها وفرضها.. وكما تحتاج إلى إيمان تحتاج إلى نية وإخلاص يستوجب استحضار فارضها،  مما يجعلها بعيدة عن الرياء والعبث والإلْف. ولن نتذوق حلاوة العبادة بعيدًا عن روحها وصفة أدائها تبعًا للكتاب والسنة بناء على الإخلاص وعدم الرياء.
والغاية من العبادات، تزكية النفس وحملها على الاستقامة التي هي الغاية من التكليف، ومتى كانت العبادات وفق المنهج الرباني الخالص من البدع والبعيد عن العادة التي تجعلها مجرد أشكال بلا جوهر، فإنها تنفع صاحبها وتجعله ينفع غيره.
فقد جاءت رسالة الأنبياء جميعًا لتزكية النفس وتهذيبها، والمراد من تزكية النفس تطهيرها من نزعات الشر والإثم، وإزالة حظ الشيطان منها، وتنمية فطرة الخير فيها، وتهذيب طباعها تهذيبًا مصلحًا ومقوِّمًا وكابحًا وموجّهًا. وبتهذيب طباع النفس يتهيأ المناخ النفسي الصالح لتتفجر منابع الخير من كل جانب، وطبيعي أنه متى تزكت النفس وتهذبت طباعها، استقام سلوكها الداخلي والخارجي. ومن هنا لن تتزكى النفوس ولن ينتفع الصائمون والمصلون، إلا باستحضار كون ما يقومون به من شعائر يستدعي الكثير من الأمور التي تجعلها ذات جدوى في العاجل والآجل. فالعبادة بالأجساد دون الأرواح، تتحول إلى مجرد أفعال عادية لا أثر لها سوى الرياء والنفاق. بل إن الإسلام جعل العبادة تسع الكثير مما نقوم به من أعمال يومية، فكل عمل تقوم به لفائدة غيرك، يجلب لك الجزاء من الله عزوجل، حيث يتحول إلى عمل يستحق عليه صاحبه ثواب العابدين.
الصيام عبادة وليس عادة
إن الصيام هو إمساك مخصوص عن شيء مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص؛ فالشي المخصوص الذي يمسك عنه هو المفطِّر. والزمن المخصوص هو يوم الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والشهر الذي يجب صومه هو شهر رمضان، لقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(البقرة:١٨٥)(١).
وللصيام منزلة عظيمة في الإسلام من حيث علاقته بالإخلاص، وبكونه عبادة تستتبع عبادات أخرى؛ كالذكر، وتلاوة القرآن، وصلاة النوافل، والتراويحح، والصدقة.
والصيام ركن من أركان الإسلام، وقد خصه الله تعالى بما يجعله عبادة وركنًا رفيع الدرجة مقارنة بغيره من الأركان، ويكفي شهره كونه شهر نزول القرآن، في ليلة هي خير من ألف شهر، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(القدر:١-٥).
وفيه تمت فتوحات إسلامية كثيرة
في الحديث القدسي يقول تعالى: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عزوجل عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقى عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة”(٢).
ولكن الكثير من الصائمين صار عندهم الصوم بمثابة شعائر احتفالية موسمية يمارسونها ممارسة اعتيادية بلا روح، وهذا ما يجعل صيامهم بعيدًا عن مقتضيات العبادة بروحها وأبعادها الربانية. فالصيام يقتضي عزيمة الترفع عن الدنايا واستحضار الخضوع والخشوع، يقول الشاعر:
ســأصـــرف همـــتــي بالـكل عمــــا
نــهانـــي الله مــــن أمــــر المـــزاح
إلى شهر الخضوع مع الخشوع
إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازى الصائمون إذا استقاموا
بدار الخلد والحور الملاح
وبـــالــغــفـــران مـن رب عـــــظيم
وبالمــلك الكبير بــلا بــراح
وحتى نخرج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة، ينبغي أن يكون صومنا لشهر رمضان “إيمانًا واحتسابًا، ونحرص على ختم القرآن مرات عديدة، ونحرص على الصلاة مع الجماعة، ونخص الأهل بمزيد من التوسعة من أطايب الدنيا، ونتصدق مساعدة للمحتاجين، وأداء العمرة لفضلها في رمضان، والحرص على اكتساب العمل النافع لأنفسنا، والحرص على الدعاء(٣).
إن الصوم وسائر العبادات، ينبغي أن نجدد النظرة إليها عبر قراءة الفقه الإسلامي، للوقوف على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم أجمعين، فالرسول عليه الصلاة والسلام، هو النموذج الكامل من حيث التطبيق لمقتضيات شريعة الله عزوجل.
لنستقبل رمضان استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم له، ولْنَصمه مقتدين بأفعاله وأعماله وتوجيهاته ليلاً ونهارًا.
الصوم يقتضي منا هجر مجامع اللغو والعبث، وغض البصر، والإكثار من فعل الخيرات رجاء تكثير الحسنات.. وبهذا يكون شهر رمضان مدرسة تُجَدد الإيمان وتُشعر بحلاوة العبادة حين تكون لوجه الله بعيدًا عن الرياء والادعاء.

(*) كاتب وباحث مغربي.
المراجع
(١) فقه الصيام، د. محمد حسن هبيتو، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى ١٤٠٨هـ – ١٩٨٨م، ص:٧-٨.
(٢) صححه الألباني.
(٣) روح الصيام ومعانيه، د. عبد العزيز مصطفى كامل، كتاب البيان، الطبعة الأولى ١٤٢٥هـ – ٢٠٠٤م، ص:١١-١٢، بتصرف.