أهي طقوس حركية إنشادية، أم فلسفة رمزية روحية تربط الحاضر بالماضي؟ وهل من شأنها أن تجلب عبق التاريخ فتتماهي مع نفوس كثير من مُريديها المُحدثين؟ أولئك الذين يُحلقون باحثين عن “ملاذ آمن” من “قلق، ومادية” القرن الحادي والعشرين.
رقصة الدراويش الرمزية
ترتبط “المولوية”/ رقصة “الدراويش” والتي يعود تاريخها إلى القرن السابع الهجري، بأجواء مفعمة بالصفاء. وما تحمله من آداء حركي يستصحبه عزف فني غني بالكثير من الرموز والدلالات الوجدانية، وتبدأ الحلقة بتلاوة قرآنية، ثم يؤدي رئيس الزاوية بعض الأدعية والابتهالات، ويردد أحد المنشدين، بصوت عذب، أبيات من “المثنوي” للرومي، ويبدأ العزف بالنايات الشجية، مقدمة للسماع، والدراويش في خشوع يرتدون الجُبة السوداء (ترمز إلى القبر)، وفوق رؤوسهم قلنسوة اللباد الطويلة، (ترمز إلى شاهدة القبر) بينما تتدفق أبيات الشعر متضافرة من الألحان.
بينما الدارويش الآخرون يفترشون الأرض، مستمعين في أنصات وتأثر. وعلي مسافة منهم، يجلس كبيرهم، مميزاً عنهم بشريط أخضر حول طربوشه، فيما يشبه العمامة، وتند عنهم أشارات الإجلال والإحترام كلما ذكرت مقامات رفيعة، حتي إذا بلغوا حداً معيناُ طرقوا بأيدهم علي الأرض، حيث تقف الأرض في الجسد فينهضوا واقفين، تتقاطع أيديهم علي صدورهم، وكأنها مُقيدة بقيد يشير (لقيد المرء ببشريته، وقيده بالمراقبة علي فعاله وأقواله). وتأتي حركة اليدين باتجاهها إلى أعلي (دعاء). أما عندما تكون اليسرى إلى أسفل فتشير إلي (الزهد في الدنيا) وتخرج من (طي أكمام الحقيقة شعاع نور واصل إلى سرادق الروح).
ويستأذن أكبر الأتباع الشيخ الكبير في بدء الطقوس، في إشارات للدورات التي يمر بها الإنسان، وصولاً لأسمي درجات صفائه النفسي، وفي دورانهم حول أنفسهم وحول مركز المسرح (مراحل للقرب). ودائرة الراقصين تقسم على نصفي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في الجسد، ويمثل الآخر قوس الصعود، أي ارتقاء الروح. وليصنعوا في النهاية ما يشبه “الوردة”.. وجداً وحباً. وأما ما يصدر عن “المولوي/ الدرويش/ الزاهد الفقير” من حركات أخرى فهي تعبير عن تأثره وطربه وتفاعله مع الأنشودة المغناة.
وللهروب من مادية الجسد والتطهر والتحرر والخلاص من “وطأة طينيته” تلقي العباءات السوداء علي أرض المسرح. ويتم مواصلة الدوران بقمصان وتنورات بيضاء واسعة، ولعلها تشير إلي الكفن والإستعداد للموت وطلب الاخرة، والتخفف أو التحرر من شهوات الجسد رغبة فيما هو أسمي وأشف؛ لأن الروح تمتلك الجسد والأرض، وبينما تكون الأرض مرتكزاً لدوران الجسد والهروب به إلى أقاصي الروح.
وتُعزف النايات وتغني الطبيعة، أما الحزام الملتف حول الخصر فلعله دال على “الصبر، والزهد”. في حين أن البساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة، وتتزايد سرعة الراقصين في الدوران بشكل مذهل حتى تصل إلى قمتها مع ترديد المنشدين عبارات معينة، ويشترط أثناء الدوران ألا تتلامس أرديتهم.
المولوية والحفاظ على التراث الموسيقي العربي
والموسيقي المولوية، وإيقاعاتها ومقاماتها المصاحبة لها تنطلق من قاعدة الموسيقي العربية الأصيلة، حفظتها وحافظت عليها المولوية، ووصل ما استخدموه من مقامات إلي نحو 360 مقاماً موسيقياً، وفي أثناء السماع يتنقل العازفون عبر عدد كبير منها بهدف تجلية النفس، وترقيق المشاعر، ولعل الصوفية المولوية هم أول من أدخل الآلات الموسيقية في الإنشاد. واعتمدوا في سماعهم علي الدف والطنبور والناي، الذي يشكل بالنسبة إليهم مكانة خاصة، ودورًا أساسيًا، لما يندّ عنه من نغم”شجي، مُبكي” فيفعل في النفوس ما يفعل بغية تأثرها وصفائها، وتذكرها أنها تبكي حزنا لفراق مقامات سعادتها.
“جلال الدين الرومي”، والمولوية
إذا كان “عمر الخيام” هو زعيم فن الرباعايت الصوفية. فإن ثنائيات “جلال الدين الرومي” تتبوأ أوج النضج، وتضع صاحبها علي رأس الشعراء الصوفيين، إنها ثنائيات جيدة العبارات، لطيفة المعاني، رقيقة الأفكار، صافية الدلالات، ناضجة الإشارات. ولقد أولتها الدوائر الشعرية والأدبية في شتي انحاء العالم أهتمامًا كبيرًا، وتم نقلها إلي كثير من اللغات الحية. وإذا كان تأثر شعر وفلسفة “الرومي” في أتباعه ومريديه ومقلديه بلا حدود، فلقد أثرت أيضًا في رجل من رجالات عصرنا وعمالقته الأفذاذ الشاعر الباكستاني الكبير “محمد اقبال”، الذي قال عن نفسه:”أنا اثر من آثار جلال الدين الرومي”.
و”جلال الدين البلخي (الرومي)/ (المولوي)” (604-683هـ) (1207– 1273م) عالم وفقيه وصوفي وشاعر وفيلسوف كبير، ولد في أسرة شريفة عريقة الحسب والنسب ترتبط بوشائج المصاهرة مع سلاطين خوارزم، وكانت مدينة “بلخ” (من أعمال أفغانستان حالياً) إحدى مراكز التصوف، وكان ” محمد بهاء الدين ولد بن حسين بلحي” والد “جلال الدين”، أحد علمائها البارزين (سلطان العلماء)، ومتصوفاً يحظى باحترام وتقدير الحاكم “خوارزم شاه علاء الدين محمد”.
ولما وقع جفاء بين سلطان العلماء “بهاء الدين” وبين خاله “محمد قطب الدين خوارزم شاه” ترك مدينة ‘’بلخ’، وفي صحبته زهاء ثلثمائه من أوفي تلامذته، وأخلص مريديه. ويممت القافلة شط ر”بغداد”. وعند “نيسابور”.خرج حماعة من العلماء لتوديع سلطانهم “بهاء الدين”. وكان علي راس هذه القافلة الشاعر الصوفي الكبير “فريد الدين العطار”. وما ان وقع بصر “العطار” علي الصبي “جلال الدين” حتي مسح علي رأسه، ودعا له، وأهداه نسخة من ديوانه الهام:”الاهي نامه”: ديوان الأسرار. وبشر سلطان العلماء بمستقبل باهر لابنه.
وقضي “بهاء الدين” زمناً في بغداد، ثم سار إلي الحجاز لآداء فريضة الحج. ثم عرج علي دمشق وحلب. كما زار أرمينية، وبلاد الروم (الأناضول)، ولارنده (كرمان)، وقونية التي استقر بها. وكان يصحبه “جلال الدين” في جميع رحلاته واسفاره (التي استمرت زهاء ستة عشر عاماً). وبرع الأبن علي نسق أبيه (توفي عام 628هـ/1231م) وارتفع شأنه العلمي والتعليمي والشعري. وذاع صيت “جلال” واحتل منبر ابيه وتبوأ بجداره مركزه في “قونية” حاضرة بلاد الروم (الأناضول).
وفي عام 642هـ/ 1244م حدثت نقطة تحول في حياة “جلال الدين” العقلية والفكرية لما التقي “شمس الدين تبريزي” أحد أشهر شيوخ الصوفية في عصره. والتقي شمس الدين بجلال الدين، التقي الدرويش الصوفي بالعالم الديني.. ولحظ الدرويش المحنك بعينه الثاقبة بارقة “طلب الحقيقة” علي وجه العالم، فجعل منه”صوفياً”، وكرس نفسه مرشداً وقائدًا روحيًا له. وغار تلامذة جلال الدين” من استحواذ “شمس الدين” بمعلمهم. فاجمعوا أمرهم وأعتقلوا ” شمس الدين” سراً، واجبروه علي مغادرة “قونية” فورًا، لكن “جلال الدين” أوفد ابنه الأكبر “علاء الدين” فلحق بـ”تبريزي” وأعاده معززًا مكرمًا.
وفي سنة 645هـ/ 1247م نشبت ثورة داخلية في قونية فانتهزها بعض طلبة “الرومي” للتخلص من “تبريزي” فقتلوه شر قتلة ومثلوا بجثته وأخفوها. كما قـُتل في هذه المحنة “علاء الدين”، وكانت فاجعة “جلال الدين” مزدوجة في أبنه البكر، وصفيه “شمس الدين”، لكن “جلال الدين” لم يحد عن انقطاعه للرياضة الصوفية، وأبتكر طريقة المولوية “الدارويش الراقصون” وجعل للموسيقي مكان صدراة في محافلها وحضراتها. وتخليدًا لذكري صفيه الفقيد.. قرر “جلال الدين” أن يرتدي مريدوه القلنسوة الطويلة من اللباد البني، والعباءة السوداء الفضفاضة، وهو الزي “المولوي” الذي كان يرتديه “شمس الدين تبريزي”. كما قرر عليهم الرقصات الدائرية التقليدية التي باتت تعرف بها الطريقة المولوية الصوفية.
ولم تمض فترة قصيرة حتي قام بتشييد “تكية المولوية” التي تعد من أعظم ما أخرجه الفن المعماري في القرن الثالث عشر، ولم يدخر “جلال الدين” وسعًا في تأثيثها بكل ثمين ونادر من الأثاث والرياش والتحف والعاديات والسجاد، حتي صارت صورة حية للفخامة، وآية نابضة بالجمال والإبداع. وعاش “جلال الدين”، وبسبب طول إقامته في قونية اطلق عليه “مولانا الرومي”، وتوفي في السابع عشر من ديسمبر عام 1273م. ودفن في قونية قرب والده. ومازال قبره مزارًا للكثيرين. ولا تزال الطريقة المولوية مستمرة حتى يومنا هذا في مركزها الرئيسي في قونية، ويوجد لها مراكز أخرى في إسطنبول وغيرها من بلدان وعواصم العالم. ويحضر جلساتها كل من يريد، في ترحيب وتسامح وإمتاع ملحوظ.