نحو العروج إلى علياء التخلق

إن التعلق بالقيم الأخلاقية يرجع إلى الأمانة التي حملها الإنسان في عالم الملكوت بموجب التفضيل الإلهي له على سائر الكائنات، وهذا يجعله مأمورًا بالمحافظة على هذه الأمانة، إذ لا يتصور وجود أمانة بدون وجود مؤتَمِن ومؤتَمَن. ويترتب على هذا، أن الأخلاق ذات طبيعة ائتمانية غير امتلاكية، فوجب حفظها إلى حين استردادها من قِبل الذات المؤتَمِنة، ومن ثم فطلبها يكون عن طريق التوسط بهذه الذات الشاهدة العلية، التي خَلقت في الإنسان القدرة على التحلي بمكارم الأخلاق؛ ذلك أن الحق سبحانه علمَ النبي الأول صلى الله عليه وسلم الأسماء كلَّها وجعله وذريته خليفة في الأرض، وأمر الملائكةَ بالسجود له، وقد دل هذا الحدث الغيبي الأول على تمام الخَلق وإكماله. ومن هنا فمفهوم الخليفة، يحمل أمانة توحيد الحق سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله، وعلّم النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم الأخلاق كلها، فكان خُلقه القرآن، ليُذكِّر الخَلق بالميثاق الأول الذي أقروا فيه بربوبية الحق ، ويزيل الغشاوة عن فطرتهم التي تحفظ لهم مشاهد وشواهد تذكرهم بأحداث هذا اللقاء الغيبي. ولا شك أن ذاكرتهم الروحية هي مستودع الأخلاق، وقد دل هذا الحدث الغيبي الثاني على كمال الخُلق وإتمامه.

ومن هنا، فمفهوم الخليقة يجمع بين الخَلق والخُلق، لأن أصل الإنسان خليقة، وحدُّ الخليقة أن تجمع في آن واحد بين الخَلق والخُلق، فكما أن الخَلق صورة الظاهر، فإن الخُلق صورة الباطن. وهذا ما يجعل الخُلق يتقلب في أحوال، كما يتقلب الخَلق في أطوار، وكما أن الإنسان يخرج من غيب الأرحام قويم الخَلق إلى عالم الوجود، فكذلك يصير قويم الخُلق بعد أن يدخل في التحقق بالأخلاق في عالم الشهود.. وبما أن الفطرة هي مستودع الأخلاق، فإن تحققه بالخُلق يكون على قدر نقاء الفطرة ومجاهدة النفس، وكلما تراكمت طبقات النسيان على ذاكرته الأصلية، فإن تخلّقه ينقص درجة درجة حتى يُفقَد بالكلية، وحينئذ يصبح خَلقًا بدون خُلق، فيكون متساويًا مع البهيمة في المرتبة، إن لم يكن أضل منها، لأن حد الخليقة لم يعد منطبقًا عليه بسبب فقدانه لشق مهم من إنسانيته، وفي هذه الحالة فإنه يحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس يغلب فيها الذكر على النسيان. فبقدر الذكر يكون التذكر، والتذكر يحقق العودة إلى الأخلاق الفطرية المودعة في ذاكرته الروحية، خصوصًا إن كان الذكر بأسماء حسنى وصفات عليا؛ إذ بتضافر الفعل الخُلقي مع الفعل الخَلقي يكون الإنسان إنسانًا، فالإنسان ما خُلق إلا ليتخلَّق.

وبما أن الأخلاق تُعتبر أفعالاً بدأت مع الخَلق نفسه، كما أن الفطرة هي بالذات هذه الأخلاق، والفطرة من الفطور، أي الخَلق، وهو ما يوضِّح اقتران الفعل الخَلقي مع الفعل الخُلقي، لكون الفطرة هي نفسها هذه الأخلاق التي أودعها الخالق عز وجل في خلقه قبل أن يخرجوا إلى عالم الوجود، فمنهم من تخلَّق بأخلاق الفطرة، ومنهم من تخلَّق بأخلاق مكتسبة، إلا أن هذه الأخلاق المكتسبة على ضربين اثنين: أخلاق موافقة للفطرة، وأخلاق مخالفة للفطرة، ولا شك أن الأخلاق الموافقة للفطرة تلحق بالأخلاق الفطرية، فلا يمكن أن يكون الإنسان خليفة إلا إذا كان قبل ذلك خليقة، وهذا يتوقف على أن يكون خُلقه أسمى، وطَلَبُ السمو لا يكون بالنظر في النسبي المتناهي، وإنما بالتفكر في المطلق غير المتناهي، وبما أن الوسيلة لمعرفة المطلق الذي ليس كمثله شيء تكون من خلال صفاته وأسمائه، فإن هذه القيم الأخلاقية التي تسعى لتحقيق السمو والكمال عند المتخلق بها، يلزم أن يكون مصدرها هو تلك المعاني والكمالات المنطوية تحت الأسماء الإلهية. إذن كيف يمكن أن تكون الأسماء الإلهية مصدرًا للقيم الأخلاقية؟

إن الأسماء الحسنى هي مستودع الأخلاق التي بها قوام تخلُّق الإنسان، وهي أسماء متكوثرة لا تُحدُّ بحدٍّ ولا تقف عند عدد، والأخلاق هي أيضًا متكوثرة بقدر الأفعال الإنسانية، فَتحت كل فعل إنساني خلق أو أخلاق.

إن المغزى من بيان كيفية التخلق بالأسماء الحسنى، يتمثل في محاولة إخراج الإنسان المعاصر من الحالة الاختيانية التي يتخبط فيها -باعتبارها سببًا رئيسًا في مروقه من الدين ابتداء وشروده منه انتهاء- إلى الحالة الائتمانية التي تستر سوأته ناظرًا إليها بعين بصره، وإلباسها الحجاب الأخلاقي الذي يدرأ عنها آفات التكشف ناظرًا إليها بعين بصيرته. ومن ثم يمكن القول إن الحالة الائتمانية توجب عليه التخلي عن معهوده مروقًا وشرودًا، ثم التحلي بما أودع في ذاكرته الغيبية من فضائل الأخلاق ائتمارًا ثم شهودًا. وهذا يستلزم البحث عن الطريقة المثلى التي بإمكانها أن تُحدث التغيير الجذري لأخلاقية الإنسان، ناقلة إياها من جلال حال بؤسها إلى جمال حال أنسها. ولا شك أن التخليق الأمثل الذي يمكنه أن يبعث الإنسان على التخلق والخروج من حالة العُري الأخلاقي، يستوجب أن يكون مصدره نابعًا من المطلق اللامتناهي، إذ لا يفيد في هذا الباب، التخلق بالأخلاق الدهرانية التي وضعها الاختياني النسبي المتناهي ولو أضفى عليه صبغتي التعقيل والعلمنة، حيث إن ما بني أصله على ما هو فاسد، يتحتم أن يكون ما يتفرع منه أفسدَ منه، وما بالك إن كان الأس باطلاً!؟ وينبغي أن نولي وجوهنا قبلة الأصل الذي تنكر له الاختياني في تأسيسه الأخلاقي، وبالخصوص الأصل الخاتم باعتباره صورته الفطرية محفوظة، وبالأخص أعظم ما يمكن أن يُخلِّق إنسانية الإنسان، ألا وهو الكمالات الإلهية المبثوثة في الأسماء الحسنى، لنُظهر بذلك الأساس الديني للأخلاق، وبه يكون إبطال دعوى الفصل الاختياني للأخلاق عن الدين، لتأسيس دعوى تضادها وهي الوصل الائتماني بين الأخلاق والدين. ويبقى المقصود الأساس هنا، هو بيان كيف يمكن أن تكون الأسماء الحسنى أدوات ومعاني تخليقية؟

الأسماء الحسنى مصدر القيم الأخلاقية

إن المسعى الذي نود تأصيل مفاهيمه وتأسيس براهينه، هو أن الأسماء الحسنى هي مستودع الأخلاق التي بها قوام تخلُّق الإنسان، وقد ثبت أن الأسماء الحسنى أسماء متكوثرة لا تُحدُّ بحدٍّ ولا تقف عند عدد. وكما أنه لا توجد نهاية لألفاظها فلا توجد أيضًا نهاية لكمالاتها ومعانيها، مع العلم بأن الأخلاق هي أيضًا متكوثرة بقدر الأفعال الإنسانية، فَتحت كل فعل إنساني خلق أو أخلاق. ومن ثمة فإن التخلق بالأسماء، على ثلاث أسس ينبني: أولها التعلق بها باعتبارها دالة على الذات الإلهية، والثاني التحقق بها عن طريق معرفتها وإحصاء معانيها، والثالث التخلق بتلك المعاني في السلوك الإنساني. فالتعلق يتجلى في شعورك بمعنى الاسم، ويعبر عنه أهل السلوك بالافتقار إليها مطلقًا من حيث ما هي دالة على الذات.. والتخلق أن يقوم بك معنى الاسم عن طريق معرفة معانيها بالنسبة إليه سبحانه وبالنسبة إليك.. والتحقق أن تعنى في معنى الاسم فتنسب إليك على ما يليق بك، كما تنسب إليه سبحانه ما يليق به.

ويستخلص مما تقدم، أن القيم إنما هي المعاني الملكوتية التي يستمدها الإنسان من الأسماء الحسنى، أو بالأحرى التي تُمده بها هذه الأسماء. فعلاقة المتخلق بالأسماء الحسنى هي علاقة ائتمان لا علاقة احتياز، فضلاً عن التخلق بها لا يحصل إلا بمتابعة المتخلق الكامل صلى لله عليه وسلم المبعوث بتمام الأخلاق وكمالها، وإخلاص التوجه والقصد إلى البارئ عزت أسماؤه.. وهكذا فإن التخلق بهذا المعنى، يتجاوز المقاربة الملكية ويتصل بآفاق القرب الملكوتي.

فالقيم المودعة في الأسماء الحسنى إنما هي عبارة عن معان ملكوتية لا يَملك المتخلق أن ينتزعها انتزاعًا، بل هو مُؤتمن عليها باعتبارها أمانات سيسأل عنها يومًا ليس كسائر الأيام، هل حفظها أم ضيعها؟ كما أن بني آدم في تخلقهم يفترقون إلى صنفين، فأما الأول فإنه يتخلق تخلقًا اختياريًّا فيستمد قيمه من الأسماء الحسنى، أو بالأحرى هي التي تُمدّه بهذه القيم، والصنف الثاني يتخلق تخلقًا اضطراريًّا فيزعم أن منبع هذه القيم يرجع إلى عقله، فيكون شأن تخلقهم الاضطراري كشأن تعبدهم الاضطراري الذي توجبه مخلوقيتهم، غير مدركين أن اشتراك الناس في هذه القيم، دليل على أنهم فطروا عليها كما فطروا على حاجاتهم البشرية من أكل وشراب وملبس ومسكن، والتي لا تنضبط إلا بالقيم الفطرية.. فيكون التخلق الاختياري مصحوبًا بالثناء والذكر والشكر، ويكون التخلق الاضطراري مصحوبًا بالصد والنسيان والكفر. ويختص التخلق الاختياري بالمؤمنين دون غيرهم، فيستأثرون به لأنه يتوقف على الإيمان ويتفرع عنه، في حين يختص التخلق الاضطراري بغير المؤمنين، إذ لا يتصور أن يخلو منه إنسان ولو كان ملحدًا بموجب ما أودع الخالق سبحانه في فطرته أولاً في عالم الملكوت، وبما أودع في عالم الملك من قوانين سبقت بها كلمته.

في الختام

لقد ثبت أن الأسماء الحسنى لا نهاية لعددها، كما لا نهاية لوحدتها وكمالاتها، بل إن الاسم الواحد منها لا يمكن الإحاطة به أو عد فضائله أو إحصاء قيمه، لأنها أسماء وكمالات غير متناهية خاصة بالمطلق، ومحال أن يحيط النسبي بالمطلق، وهذا ما يجعلها تتسم بخاصيتين، هما خاصية التكوثر، وخاصية عدم التناهي. لهذا فإن منتهى الكمالات الإنسانية يتمثل في التخلق بالأسماء الحسنى، إذ الأخلاق هي المعيار الذي تتحدد به ماهية الإنسان، فكما أن تناسب الأعضاء الظاهرة يُعبَّر به عن الخلْق القويم باعتباره صورة الظاهر، فإن تناسب المعاني الباطنة يعبر به عن الخُلق الحسن باعتباره صورة الباطن، وبهما معًا يتحدد مفهوم الخليقة. فإذا فقد الإنسان أخلاقه فقد إنسانيته، ومن ثمة فلا يوجد إنسان بلا أخلاق إن اضطرارًا أو اختيارًا، إلا أن طريق الاختيار يتسامى على طريق الاضطرار، لأن المتخلق المختار يحرص على الاتصاف بالقيم الأخلاقية المختزنة في الأسماء الحسنى، فتمده بمعانيها بما لا تمد به غيره.

لهذا فإن التخلق بالأسماء الحسنى تخلق لا أسمى منه، فالمعاني والكمالات الإلهية التي يمكن استكناهها من الأسماء الحسنى عبارة عن تجليات السمو المطلق الذي تتعلق به هذه الأسماء، التي تتمثل في قيم الكمال والجلال والجمال.

(*) كاتب وباحث مغربي.