تعتبر “رؤية العالَم” (Worldview)، الموازي الفكري للفلسفة، ويعتبرها البعض تتويجًا للفلسفة النسقية وندًّا لها، وهي نسق من العناصر التي تتيح لنا إمكانية مقاربة الرؤية الفكرية للمجالات غير الفلسفية، مثل ثقافة شعب أو الديانة أو النظريات.. وهي تتكون من ستة عناصر محدّدة بأسئلة دقيقة هي: ما هو؟ (يوازي السؤال عن ماهية الوجود)، ومن أين جاء؟ (مسألة التفسير والتأويل)، وإلى أين نتّجه؟ (سؤال يستشرف المستقبل)، وما هو الخير وما هو الشر؟ (سؤال القيم ويوازي الأكسيولوجيا)، وكيف ينبغي أن نتصرّف؟ (سؤال العمل أو البراكسيولوجيا)، وما هو الحقّ وما هو الباطل؟ (مسألة الحقيقة وتوازي الإبستمولوجيا).

ومن ثم يتبيّن لنا أن نموذج “رؤية العالَم” أو النظرة إلى العالم، يغطّي كل الأسئلة الأساسية التي تحقّق إشباعًا معرفيًّا، وتمنح نظرتنا معنى ودلالة، وتوجّه سلوكنا في الحياة. سنحاول في هذه السطور القليلة، مقاربة الخطاب الصوفي وفق أسئلة نموذج رؤية العالم، ولكن قبل ذلك سنقوم بمقارنة بين الخطاب الصوفي والخطاب الفلسفي.

عندما نتحدث عن التصوف، فإننا نجد أنفسنا في “براديجم” (Paradigme) خاص يختلف عن العلم والفلسفة والفن ويقترب من الدين ويقاربه، بل إنه يُعتبر جوهر الدين. ولكن هذا لا يعني أن التصوف يخلو من الفكر والفن والعلم. فالتصوف باعتباره إطارًا فكريًّا، هو رؤية للعالم واعية بذاتها، تفترض موقفًا خاصًّا من الله والإنسان والعالم، وتدمج في طيّاتها لمسات من الفن والعلم معًا. فالتصوف -في المقام الأول- نمط أو أسلوب حياة، وهو أيضًا منهج لاستبطان البعد الأقصى للواقع، مدفوع بالرغبة في إدماج هذا البعد في الوجود الإنساني أو الاندماج فيه، إنه بحث ونشاط وفعالية وإرادة للتحول الباطني. إن التصوف رؤية للعالم وليس فلسفة، رغم أن الأول يتضمن ميتافيزيقا شبيهة إلى حد بعيد بما قد نجده في الفلسفة، حتى إننا نجد بعض الصوفية في عداد الفلاسفة. وهذا التمازج بين الإطارين الفكريين لا ينبغي أن يُنسينا الفرق الجوهري بينهما.

إن الأصل في الفلسفة هو الدهشة الباعثة على التفكير الذي سعى للانتظام وفق منطق محدد يقي الفكر مزالق التناقض وتمطط الأفكار. فالفيلسوف مهووس بالنظام والاتساق، حتى إن من معاني “اللوغوس”؛ النظام والقاعدة والمنطق والقانون واللغة. ومهمة الفيلسوف هي أن يرفع الحُجب عن الحقيقة، وأن يُعيد بناء الوجود من خلال خطاطات العقل من أجل الفهم والتفسير.

أما التصوف فلا يهمه بالأساس تقديم نظرية معرفية في الوجود، ولا يهمه أن يشكل نظرية متناسقة يُخضعها لمنطق جامد وأن يجادل الخصوم المفترضين.. إن التصوف رؤية للعالم تستقي تبصّرها من ينبوع ثري لا ينضب هو الوجدان الحي. فالمتصوف يعيش أولاً تجربة وجدانية يعاني مخاضها ويتذوق عذوبتها الخمرية، ثم يحاول بعد ذلك أن يسكب تلك الخمرة في كؤوس اللغة، لكن سرعان ما تستحيل التجربة الحية أفكارًا جامدة، ويتحول الخمر إلى ماء لا طعم له. فالمفارقة التي يعيشها المتصوف مع اللغة هي أنها إخفاء للكشف.

وإذا تقدمنا خطوة أخرى نرى أن الفرق الجوهري بين الفلسفة والتصوف، يكمن في منبع التجربة. فالينبوع المتدفق الذي يسقي جذور التجربة الصوفية والذي يروي خطابه، يكمن في القلب النابض بذبذبات الحب. فالتصوف زهرة بذرتها ونواتها الأولى هي الحب الذي يحل محل الدهشة الفلسفية. ففي البدء كان الحب، ثم كان كل شيء بعد ذلك. أما الفكر الفلسفي، فلم ير في الحب الصوفي سوى سقطة مردها إلى النفس النزوعية التي تغرقها في خيالات جامحة.

لم ير الفكر الفلسفي في الحب سوى شائبة من شوائب الوهم الذي يكدّر صفو العقل. أما التصوف فإنه يرى في الحب ذلك النور الذي يتجلى به الوجود، والإشراق الروحاني الذي يملأ القلب سموًّا ورفعة، ويقدح زناد البصيرة، فيغدو الوجود قصيدة وسماعًا، ويطرب الصوفي وجدًا ووجدانًا. فالحب إذن، هو قلب التصوف، والقلب هو جوهر التصوف، والحب هو ماهية القلب.

يقول “هنري برغسون” (H. Bergson): “ليس هذا الحب امتداد غريزة، ولا هو مشتق من فكرة.. ليس هو من الحس ولا هو من العقل، بل هو هما معًا على نحو ضمني، وهو أكثر منهما معًا بالفعل. ذلك أن هذا الحب هو أصل العاطفة، وأصل العقل، وأصل سائر الأشياء، وهو متحد بحب الله لخلقه، هذا الحب الذي خلق كل شيء.. ولذلك فإنه يسلم سر الخلق إلى كل من يستطيع أن يسأله إياه.. إنه من جوهر ميتافيزيقي لا أخلاقي فحسب، إنه يريد -بعون الله- أن يتم خلق النوع الإنساني، ويجعل من الإنسانية ما كان يمكن أن تكونه لو استطاعت أن تتكون نهائيًّا بغير عون الإنسان نفسه”.

فـ”برغسون” هنا، يشيد بالحب الصوفي ضد العقل الآلي والأناني الذي يشكل خطرًا على الإنسانية في أحيان كثيرة لو ترك دون عون من الدين والغريزة والحدس. فالحب هو الأصل، والحب هو النور الذي به تنكشف الأشياء.. لهذا قال “أبو الحسين النوري” حين سئل عن المحبة: “هتك الأستار وكشف الأسرار”. هكذا تسري المحبة في شرايين المعرفة، فتُمدّها بالحياة والنسغ والصفاء. فالمحبة تولدت من نظر العارفين ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة، فكان حبهم بلا علة.

لا نستطيع في هذه العجالة استقصاء كل أبعاد العلاقة بين الخطابين، يكفي أن الإشارة نابت عن تفصيل العبارة. فكلا الخطابين يقارب الوجود بأدواته وممكناته، لكن إذا كان العقل هو مصباح الفيلسوف الذي ينير عتمة دربه، فإن الصوفي ينخرط بكلّيته في تجربة عشقية تتجاوز حدود العقل وتستشرف أفقًا فريدًا وعوالم أخرى.

(*) المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، إنزكان / المغرب.