استثمار البيئة الحيوانية لتحسين الصحة البشرية 2

ترجع أول إشارة للقطط الأليفة في أدبيات قدماء المصريين إلى حوالي 2100 ق. م، وقد عدّوها ـ إضافة إلى الكلاب التي تم استئناسها منذ ما يقرب من 8 ـ 12 ألف عام ـ ضمن “الحيوانات المقدسة Sacred animals”، وفى هذا يقول المصري القديم:” أعطيت خبزًا للجائع، وماءً للظمآن، وثيابًا لمن ليس لديه ثياب، واعتنيت بأبي قردان والصقور والقطط والكلاب المقدسة، ودفنتها تبعًا لما تقضي به الطقوس الدينية، فدهنتها بالزيت ولففتها في أكفان من الكتان المنسوج”. ولقد مثلت القطة “الربة باستت Bastet.. رمزًا للخصوبة والجمال والشفاء”، ونُـظر للقط الذكر كمرادف لقداسة وقوة إله الشمس “رع”، وفي معجم الحضارة المصرية القديمة (ط 2، 1996م)، يقول هيرودوت: “إن المصري ليترك أمتعته تحترق ويخاطر بحياته لينقذ قطًّا من الحريق، بينما قتل العامة مواطنًا رومانيًّا لأنه قتل قطًّا”. في حين مثـّل ابن آوى” انوبيس”:الإله الجنائزي المتجسد في صورة حيوان إسود من الفصيلة الكلبية.

لم يتم إغفال رفقة الكلب للفتية “أصحاب الكهف” بل عدّه القرآن الكريم ضمن عددهم و”كواحد” منهم، ولذا نجد السيرة العطرة تؤكد أن رعاية الحيوانات المنزلية ـومن خلفها قيم الرحمة والتراحم واحترام الحياة والأحياءـ تصبح سببًا لدخول الجنة جراء سقيا كلب يلهث من العطش، أو الخلود في النار لحبس هرة دون طعام أو سقاء. وقد تكون القسوة نحو تلك المخلوقات سببًا في عواقب وخيمة كالتي في أوروبا في القرون الوسطى، من مأساة “الطاعون الأسود” الشهير الذي اجتاحها وتسبب في هلاك نحو ثلثي سكانها، وكان من أسبابه ـ كما ذكر المؤرخون ـ  تلك الإبادة والمجازر التي ارتكبت بحق القطط (رمز الهرطقة والشعوذة والسحر)، فانتشرت بكثافة الفئران الناقلة للبراغيث المسببة لعدوى الطاعون.

الحيوانات المنزلية الأليفة كائنات حية، يراقبها ويهتم بها ويسعد بها الكبار والصغار على حد سواء، فهي تعد من مباهج حياة شبابنا التي تعطي أقرب الوسائل وأيسرها للتعود على أخلاق ومعاملات وعادات قد تُـفتقد في غيرها من الوسائل، فعندما يتولون المسؤولية عن رعايتها وإطعامها ونظافتها ومتابعة نموها، يتم تقدير معنى الحياة، والوعي بقيمتها وقيمها وفى اللب منها قيم تحمل المسؤولية والعطاء. كما أن وجودها يحفز دوافع التعلم والاستكشاف والإبداع لدى أبنائنا، فهم يشاهدون عمليًّا كيف يستخدم الحيوان الأليف حواسه المختلفة في التعرف على البيئة المحيطة واستكشافها ومعرفة مخارجها وأماكن الهروب منها، وبخاصة عندما يدخلها للمرة الأولى. وما زالت الحيوانات الأليفة مُعلِم ماهرٌ في فنون الصيد والقنص فلديها مهاراته وإمكانات التحكم في الجسد الرشيق (كالقطط) أو المساعدة والمشاركة فيه وإحضار الفرائس (كالكلاب) فيتعلم الأبناء تلك المهارات الهامة.

وللكلاب فوائد عدة تساعد الإنسان بدنيًّا وصحيًّا: كحراسة الماشية والمنازل والحدود والأفراد، وإنقاذ المفقودين والمسافرين، وقيادة فاقدي البصر، وفي إغلاق مصابيح الإنارة والغسالات والأبواب وخدمة توصيل بعض الأغراض للمقعدين وذوي الاحتياجات الخاصة، ووسيلة للجر والنقل، ووسيلة للاتصال أيام الحروب والأزمات، ومهمة استكشاف المخدرات والمواد المحظورة، واستكشاف المناجم كأبرع جيولوجي، وفوائد جليلة  للبحث العلمي والطبي والجراحي والدوائي كحيوانات للتجارب (وإن كان ذلك يلقى معارضة كبيرة من جمعيات الرفق بالحيوان). وأضف إلى ذلك أحدث وظيفة تم تدريب الكلاب عليها وهي عملها “كجرس إنذار” يتنبأ بقدوم نوبات الصرع epilepsy من خلال نبرات وتعبيرات وجوه مخدوميها، ومن ثم تقفز وتنبح وترقد عند أقدامهم مما يعمل على إيقاظهم وتنبيههم. كمحاولة إفاقة من فقد وعيه عبر الضغط بقدميه الأماميتين على صدره.

والحيوانات الأليفة تمثل رفقة جيدة للجميع (صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبة)، فهي “خير صديق” يتم التواصل والتناغم معه والاحتكاك به واللعب والتريض معه، فلعبٌ وادعٌ من صغيرك مع أرنب، أو لمسة دافئة لشعر قط ” شيرازي”، أو ربطة حانية على رأس ورقبة كلب الحراسة أو الصيد أو “راعي الغنم الألماني”، أو نظرة لعصافير الزينة الجميلة المغردة.. كفيل بتخفيض مستوى الضغوط اليومية الواقعة على أفراد الأسرة بعد قضاء ساعات طوال في المدرسة والدرس والجامعة والعمل والمنزل والمطبخ والمقهى والشارع، ونشرات الأخبار و”إدمان” الكومبيوتر. ومن ثم تتحول إلى أوقات من الراحة والهدوء، وما عليك ألا أن تجرب. ومن الصعب تفسير الحياة النفسية للحيوانات الأليفة أو التعبير عنها بلغة إنسانية، فإذا كانت الكلاب مضرب المثل في الوفاء والإخلاص والحب لصاحبها، فتضرب عن الطعام إذا ما مرض، وقد تضحي بحياتها في سبيل إنقاذه من أزماته، تُـظهر القطط ملامح”الاعتداد بالنفس والاستقلالية” بصوره أكبر، فالقطط من الحيوانات المعدودة التي نادرًا ما يسودها “النظام الأبوي” أو نظام القطيع فهي لا تعيش إلا منفردة، مستقلة، مغرورة، أبية، هانئة بتأملاتها الذاتية، محتفظة ببعض صفاتها البرية، لا تبدي مشاعرها كثيرًا، وقد لا نحتاج ـ عادة ـ لوظيفتها الأساسية (صيد الفئران)، ومع ذلك تبقى مدللة محبوبة‍‍‍‍‍‍‍‍، فهي تمثل نموذجًا يحتذى به في النظافة العامة وفي التجمل، فهي تقضي ساعات طوال في تنظيف نفسها، والعناية بشعرها.

وأشارت دراسة للمجلة الأمريكية لعلم القلب، والمجلة الطبية الأسترالية إلى أن: من يمتلكون حيوانًا أليفًا يبتعدون كثيرًا عن الإصابة بنوبات قلبية، لأنهم مضطرون للمشي اليومي مع كلابهم ورعايتها، فيمارسون بذلك الرياضة المنتظمة مما يخفف من ضغوطهم، ويقلل من مستوى الكوليسترول وضغط الدم لديهم. تضيف الدراسة: أن مجرد مشاهدة أسماك الزينة في حوضها الزجاجي كفيل بتهدئة يومك الحافل بضغوط العمل والبيت والأولاد إلخ. مما يخف من تعرضك لأمراض العصر ومنها مرض القلب. أوضحت دراسة في جامعة إيرلانجن بألمانيا: أن المسنين الذين يحتفظون بأعشاش للحمام والطيور المنزلية يتمتعون بحياة أفضل: سعداء ودودون ولديهم الرغبة في التحدث، والشعور بأنهم لا يزالون مرغبين.

وفي دراسة ميدانية تناولت:”بعض جوانب ظاهرة اقتناء الكلاب والقطط” (ضمن أعمال مؤتمر الطب البيطري العربي 25، في القاهرة 2001م) تبين أن العلاقة بالحيوانات الأليفة أصبح لها دورًا هامًّا في الوقاية والعلاج من بعض المشاكل النفسية والاجتماعية حسب الشريحة العمرية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. فالشباب والشابات بين 15ـ 25 عامًا (في مرحلة المراهقة المتميزة بالتغيير والتقلب العاطفي والنفسي)، كانوا وكن الأكثر اقتناءً واهتمامًا بالحيوانات الأليفة، مما يشكل لها مادة للحب والعطف والعطاء وإشباع الهوايات وللتسلية، فيتم بذلك الشعور بالأمان والتوازن النفسي ، كما تسهم في استثاره التواصل/ العطاء فيمن فقدوا القدرة عليه، ممن تعرض لضغوط وتوترات نفسية واجتماعية في هذه الفترة من العمر.

وعلى الرغم من ثورة الاتصالات فالواقع المعيش بات يفرض عزلة كبيرة على الأفراد، وقد تمثل الحيوانات الأليفة شخصًا/ موضوعًا يتم التحدث إليه وعنه والتواصل معه، ممن يعيش وحيدًا، أو لمن فقد رعاية أبنائه، أو لمن فقد الصديق والرفيق وشريك العمر أو قد تشكل ذكرى للأرامل والمطلقات والشيوخ، وفي بعض الأحوال قد يتم رعايتها على أنها (بدائل أطفال) ممن فقدوا القدرة على الإنجاب أو من فاتهم قطار الزواج. ومن ناحية علم النفس الاجتماعي Socio-psychology  قد تشكل الحيوانات الأليفة مرآة تعكس الحالة النفسية العامة أو المشاكل السلوكية المرضية للأسرة التي تتواجد فيها، كما أنها تفيد كثيرًا في الدراسات والعلاجات العصبية والنفسية والسلوكية الإنسانية. فعلى سبيل المثال يشكل تواجد كلب مدخلاً وحافزًا للعب والتحرك لذوي الاحتياجات الخاصة من الأطفال والذين يرفضون التعاون مع معالجيهم في تمارين العلاج الطبيعي physiotherapy.

وتشير الدراسات النفسية الحديثة أن الحيوانات الأليفة تمثل “مذيب الثلوج” في المواقف الاجتماعية لا سيما لهؤلاء المنطوين على ذواتهم، ويعانون “رهاب الأماكن المفتوحة” أو “رهاب الجمهور”،  كذلك غير القادرين على التكيف والتواصل الاجتماعي، وإقامة علاقات اجتماعية سوية وسليمة. تؤكد د.”كارين آلين” من مدرسة الطب في نيويورك:”في المواقف الحرجة يوفر حيوانك الأليف مناخًا مهدئًا أكثر من أي رفيق آخر”، وتضيف “في المواقف التي تطلب مواجهة الجمهور وأداء الاختبارات.. قمنا بقياس ضغط الدم، وعدد نبضات القلب، ومستوى الأدرينالين، ومدى التصبب عرقًا لدى شرائح من الناس، فوجدنا أن ما يخفف من عوارضهم تلك إلى حد معنوي كبير تواجد ـ ليس أقربائهم ومحبيهم معهم ـ بل تواجد حيواناتهم الأليفة”. وحتى حين يموت الحيوان الأليف.. فيتم الحزن عليه، والبكاء لفقده، ولكن في ذلك تمهيد لنفسية الجميع (صغارًا وكبارًا) لطبيعة الحياة والموت، والتقبل ـ بصبر وثبات ـ  فقد الأحبة في يوم من الأيام.

الحيوانات المنزلية.. كيف يمكن الوقاية من مخاطرها؟

قد يثور سؤال إذا ما كانت تلك منافع الحيوانات الصحية (بدنيًّا ونفسيًّا) فماذا عن مخاطرها، وكيفية الوقاية منها؟. قد تكون الخيول والإبل سببًا في نقل بعض الأمراض للإنسان منها: الالتهاب المخي السحائي، والتيتانوس، والبروسيلا، والسل، والليستريوزس، والسالمونيلا، والجمرة الخبيثة، والسعار. وأمراض طفيلية منها الجرب والتكسوبلازموزس التربانوسوميازس، وأمراض فطرية مثل القراع والتهابات الجلد “التنيا” بسبب التريكوفيتون اكوينم، والميكروسبورم جيبسيم. كما توجد أمراض قد تنقلها الكلاب والقطط للإنسان منها: داء السعار، والحمى الصفراء (اللبتوسبيروزس)، وداء المقوسات” التوكسوبلازما”، والدرن البقري/ السل الآدمي، والليشمانيا والسامونيلا والأميبا والدفتيريا، وفطريات الشعر/ الميكروسبورم كانس والجرب والتهابات الجلد والأظافر، والحوصلة القنفدية من الديدان الشريطية، وبعض الديدان الداخلية ” كالتكسوكارا”، وقد تحمل الكلاب والقطط أنواعًا من الجراثيم والحشرات (كالبراغيث والقراد وغيرهما)، فيسبب مشاكل مرضية وأعراض تحسس (لمن لديه استعداد لذلك وبخاصة الأطفال) تستلزم مراجعة الطبيب.

وتتمثل الوقاية والحماية فيما يلي: يُفضل اقتناء الحيوانات من مصدر موثوق به، ومن سلالات جيدة. ومراعاة النظافة العامة للجميع وغسل الأيدي جيدًا بعد التعامل مع الحيوان. إعطاء الحيوانات اللقاحات اللازمة، والعقاقير الموصوفة وفي فتراتها المحددة للوقاية من الأمراض. الرعاية الجيدة والنظافة الدائمة للحيوانات وبيئتها وأماكن إقامتها وتطهيرها المستمر. التغذية السليمة والصحية والآمنة للحيوانات الأليفة، وعدم إعطاء علائق غير معروفة المصدر. ثم استشارة الطبيب البيطري متى ظهرت أعراض غير عادية على الحيوانات المنزلية ومراجعته دوريًّا.