الخُلُق الباطن وتعديل السلوك الظاهر  

الخُلق طريقة حياة وسلوك للمسلم حيثما كان يبتغي رضوان الله بحسن السلوك، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم مؤكدا هذا المقصد الأخلاقي:  “وإنك لعلى خلق عظيم”

فما تعريف الخلق وما دوره في تعديل الممارسات السلوكية للإنسان؟

يقول ابن منظور: الخلق بضم اللام وسكونها هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه و أوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر ما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة. ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع كقوله عليه الصلاة والسلام: “من أكثر ما يُدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق”

التعريف الاصطلاحي:

ونتخير هنا تعريفًا جامعًا للإمام الغزالي رحمه الله يقول فيه: “والخلق عبارتان مستعملتان معًا، يقال: فلان حسن الأخلاق؛ أي: حسن الباطن والظاهر فيراد بالخلق الصورة الظاهرة ويراد بالخلق الصورة الباطنية. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر، ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد، فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر و رَوية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعًا، سميت تلك الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا..”

من خلال ما سبق يمكن رصد الأخلاق وعلم الأخلاق في علم الخير والشر لدى الإنسان، أو بمعنى بيان ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضًا. وهذه الهيئة الراسخة في النفس تسمى خُلقًا، ويترتب عنها في الظاهر الممارسة السلوكية، ولا سبيل إلى تعديل الممارسة السلوكية إلا بتقوية الخلق الباطن.

أنواع السلوك الإرادي لدى الإنسان

عند تأملنا السلوك الإرادي لدى الإنسان يتضح أنه ينقسم إلى أنواع و منها ما يلي:

أ- السلوك الإرادي الناتج عن خُلق النفس (محمود أو مذموم)

و مثاله العطاء عن جود، والإمساك عن بخل، والإقدام عن شجاعة، والفرار عن جبن، والإقبال عن طمع والكف عن عفة والاعتراف عن حب للحق، و الإنكار عن كبر وإفراط في الأنانية، والإغضاء عن حلم، والتحمل عن صبر…

ب- ما هو استجابة لغريزة النفس الفطرية ضمن حدود الحاجات الطبيعية لها.

و مثاله : الأكل المباح عن جوع، والشرب عن ظمأ، والجماع عن طلب لذلك، والنوع عن حاجة إليه، والسعي في اكتساب الرزق تلبية لداعي الفطرة، والاستمتاع المباح بالجمال تلبية لطلب النفس، والترويح عن النفس بشيء من مباحات اللهو واللعب…

وهذا النوع الثاني فطر الله عليه الإنسان وخلقه عليه، ويسمى ” أخلاق جِبلية” كما دل على ذلك حديث أَشَج عبد القيس، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم “إن فيك خَلّتين يحبهما الله ،الحلم والأناة” قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بل الله جبلك عليهما” قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله.

ج- سلوك إرادي ناتج عن ترجيح فكر الإنسان

و مثاله أن يظهر للفكر مصلحة أو منفعة في سلوك معين فتتوجه الإرادة لممارستها سواء كان الفكر على صواب أم على خطأ ويتجلى هذا في أغلب أعمال الإنسان اليومية في وجوه الكسب وغيره.

وقد يرجع هذا في جذوره إلى تلبية دافع من دوافع الغرائز الجسدية أو النفسية أو الأخلاقية أو ما إلى ذلك…

د- سلوك إرادي من قبل الآداب الشخصية أو الاجتماعية

و مثاله آداب الطعام والشراب، و اللباس والمشي والنظافة والآداب المتعلقة بالأناقة وإصلاح مظاهر الجسد؛ كتنظيف الشعر وتقليم الأظافر وإزالة شعر الإبطين والعانة وإبداء كل حسن وجميل احترامًا لأذواق الناس وتكريمًا لهم، و استرضاءً لمشاعرهم.

و ربما يكون التزام بعض هذه الآداب أثرًا من آثار خلق في النفس محمود، وربما يكون إهمالها أثرًا من آثار خلق في النفس مذموم.

هـ – ما هو طاعة للأوامر والتكاليف الربانية وغير الربانية 

وقد تكون هذه الأوامر والتكاليف ملزمة بسلوك أخلاقي، أو ملزمة بأعمال هي من قبيل العبادات المحضة، أو بأعمال هي من قبيل الآداب، أو ملزمة بأعمال تحقق المصالح والمنافع للناس، أو غير ذلك مما يخالف ما سبق أو يناقضه.

ويدخل هنا الأوامر والنواهي الصادرة عن الشرائع أو الصادرة عن السلطات الحاكمة.

و- ما هو من العادات التي تتأصل في السلوك

و قد تكون هذه العادات راجعة إلى مُوجه أخلاقي، أو موجه غريزي، أو موجه تكليفي، أو موجه اجتماعي…  و قد لا تكون أكثر من ممارسات عبثية استحكمت بالعادة.

 ز- سلوك إرادي ناتج عن التقاليد الاجتماعية:

وتكون سارية في سلوكيات الأفراد بعامل التقليد المحض أو بقوة التأثيرات الاجتماعية، وقد تكون هذه التقاليد محمودة وقد تكون مذمومة.

وللتوضيح أكثر فإن كل الصفات الكائنة في النفس ليست من قبيل الأخلاق، فمنها ما هو غرائز فطرية ثابتة ومنها ما هو أخلاق قارة  في النفس، ومعيار التمييز بين هذه الصفات وبين الأخلاق هو كون السلوكيات الأخلاقية قابلة للحمد أو الذم.

والجدير بالذكر أن الكثير من الأحكام الدينية تدخل في ميدان الأخلاق، لأن الدين الحق يدعو إلى مكارم الأخلاق ويرفض رذائلها، كما أن كثيرًا من أحكام العادات والتقاليد هي أحكام أخلاقية أيضًا، ثم إن كثيرًا من السلوك الأخلاقي مشمول أيضًا بقيم ذوقية جمالية فهو من جانب ارتباطه بالأخلاق له حكم أخلاقي.

ومن جانب علاقته بالجمال له حكم جمالي يجعله يندرج ضمن الآداب. وهكذا تتداخل الجوانب وتنصهر في سلوك واحد.

الخُلق طريقة حياة وسلوك، والمسلم حيثما كان يبتغي رضوان الله بحسن السلوك

هل يدل السلوك الأخلاقي على الخُلق الثابت في النفس؟

لا بد أن نعلم أن السلوك الأخلاقي لا يدل دلالة قطعية على الخلق الثابت في قرارة النفس بل دلالة ظنية فقط، لأن السلوك الأخلاقي قد يكون صادرًا عن تكلف أو تصنع أو عن خوف أو طمع، وحينئذ قد يكون من قبيل الرياء وقد يكون من قبيل النفاق، وربما قد يكون صاحب السلوك النفسي مخلصًا يبتغي تطويع نفسه وتدريبها حتى تتمثل الخلق المحمود ولو لم يكن ذلك من أصلها وطبعها.

ومن أجل ضبط السلوك الأخلاقي فقد وضعت الشريعة الإسلامية ضابطًا سلوكيًّا يمكن تسميته بضابط “الأعمال بالنيات”؛ حيث ربطت الشريعة الإسلامية قبول الأفعال السلوكية بمدى صدق باطن صاحب السلوك وإخلاصه في التوجه إلى الله تعالى  “فاعبد الله مخلصًا له الدين” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”

وبهذا تكون الرؤية الإسلامية ناجحة في ضبط السلوكيات الأخلاقية لدى الإنسان؛ فالخلق في حقيقته تكوين خاص ثابت في باطن الإنسان له آثار في السلوك، ولكن لا يشترط أن تكون هذه الظواهر دالة دلالة قطعية على وجود الخلق في باطن النفس، فمثلاً قد يجود البخيل لغرض في نفسه، فيعد عمله وسلوكه هذا عطاء وكرمًا ولكن يظل صاحب هذا الفعل غير متصف بخلق الجود لأن خلقه الأصيل في قرارة نفسه هو خلق البخل والشح ويبقى هذا الخلق أصيلاً في الداخل النفسي حتى يتحول بالترويض والدربة إلى الجود فيكون حينذاك جوادًا في نفسه، ويحل خلق الجود محل خلق البخل.

ويتبين من كل ما سبق أن من مقاصد الإسلام إتمام مكارم الأخلاق “إنه منهج أخلاقي عجيب متكامل، تسطره هذه النصوص القرآنية المباركة لتؤصل تلك المبادئ والقواعد الأصلية”.