اتصل بي أحد أصدقائي ذات يوم يسألني عن طائر غريب رآه في مزرعته، ووصفه بأنه طائر كثير التلفّت، جسمه مرقّط، وأعجب ما فيه لسانه الطويل الدبوسي. طلبت منه تصوير الطائر وإرسال صوره إليّ للتأكد من تصنيفه، فوجدته طائر “اللوّاء”، الذي يُعَدّ من أبناء العمومة لنقار الخشب، فكلاهما ينتمي لفصيلة نقارات الخشب. وحينما أبدى تعجبه للاسم، أجبته أن سبب التسمية يعود إلى قدرته على “الليّ”؛ أي تدوير رأسه يمينًا وشمالاً بنسبة 180 درجة، لذا يسمى محليًّا في بعض المناطق “القليلبة”.
لهذا الطائر مظهر غريب؛ فمن بعيد قد تظنه سحلية كبيرة قابعة بسكون على جذع شجرة، وحين تقترب تفاجأ بطيرانه، وزاد من غرابته صوته الشبيه بفحيح الأفاعي والذي يصدره أحيانًا.
جسمه بنّي منقّط من الناحية الظهرية ورمادي مموّج بالأسود على الناحية البطنية، يوجد خط أسود يشكل امتدادًا للمنقار ويمر بالعين وحتى نهاية الرأس. ينفرد بخصائص عدة تجعله مميزًا؛ فهو متسلق بارع لجذوع الأشجار، حيث يتسلقها بشكل رأسي، وغالبًا ما يُرى جاثمًا على جذوع وفروع الأشجار، ويساعده في ذلك وجود الأصابع المزودة بمخالب قوية في رجليه، حيث يتمتع بأصبعين اثنين في الأمام واثنين في الخلف، مما يذكرنا بأحذية متسلقي الجبال المزودة بمسامير في أسفلها.
يملك لسانًا طويلاً محمرًا يتميز بنهايته الدبوسيّة القاسية، وهذا التركيب يجعل من طريقة تغذيته غاية في الغرابة؛ حيث يجثم منتظرًا فريسته والتي غالبًا ما تكون حشرات أو خنافس، وفي لحظة غفلة منها يطلق عليها لسانه الطويل بطريقة تشبه صيد الحرابي فيقتنص الحشرات، وبنفس الطريقة يتغذى على التمر وثمار النبق.. ومن هنا ندرك أن بيئاته المفضلة هي المزارع والأودية التي يتوفر فيها الكثير من الحشرات والثمار.
الصُّرَد الطائر الجزّار
قد يبدو هذا الطائر حين مشاهدته عصفورًا جميلاً يملأ الأجواء بجمال تغريداته، لكن علينا أن لا نغتر بالجمال على الدوام، فربما خبّأ الجمال شراسة وموتًا زُعافًا.
فهو كجندي مغوار (كوماندوز) يجثم على غصن شجرة مستكشفًا المنطقة المحيطة به، وباحثًا عن فريسة غافلة سواء كانت طائرًا في الهواء أو زاحفة متخفية أو قارضًا يتراكض بسرعة بين الأحراش.
يرصد من علٍ ويتحين الفرصة للانقضاض، وفي أحيان عديدة ورغم الرصد الدقيق لا تظهر الفريسة؛ فعندها يعمد لحيلة جاذبة؛ حيث يبدأ في إصدار أصوات شبيهة بالتغريد، فتخرج الفريسة ظنًّا منها بعدم وجود أيّ خطر، إذ ما دام التغريد يملأ المنطقة فبالتأكيد لا توجد طيور جارحة متربصة.. فتبدأ المطاردة بطيران يشبه طيران الصقور، وحين يُنهِك فريسته ينقض عليها بشراسة، فيناوشها ويصارعها، وينقرها بمنقاره الحاد القوي المعقوف، ويخمشها بمخالبه الحادة، ويستمر بالنقر على رأس الفريسة حتى يرديها قتيلة.
وهنا يبدأ الأمر الأفظع؛ حيث يعمد إلى نتف ريش رأس الفريسة، ويكسر جمجمتها ليقتات على مخّها، وبعدها يصرخ صرخة الانتصار.
ثم يحمل بعد ذلك فريسته ويغرزها بشوكة أو سلك شائك، ويعلقها كما يفعل الجزار بذبيحته.. يبقر بطنها ويبدأ في تناول وجبته بكل هدوء وتلذذ ونهم حتى ينهيها. أما فائدة تعليق الفريسة في الشوك، أنها تبقى كمخزون للغذاء، ليقتات عليها حال عدم وجود فرائس طازجة حية، فيعود إليها لاحقًا.. لذا سمي أيضًا بـ”الطائر الجزار”. ولكن رغم شراسته وضراوته، فهو يملك قلبًا حانيًا على فراخه، إذ يطعمها الأجزاء الرخوة اللينة من الفريسة، ويعتني بها أيّما اعتناء.
(*) أستاذ علم البيئة في جامعة تبوك/ المملكة العربية السعودية.