الإنسان والحيوان.. رفقاء درب طويل. لعل اقتناء بعض الحيوانات قد يضفي نوعًا من المتعة والبهجة والجمال والإثارة، لكن تثبت الأبحاث الطبية الحديثة أن رعايتها والاهتمام بها وببيئتها يُلبي احتياجات ضرورية، كما أنه في ظل شيوع “أمراض العصر” يُحسن من الصحة البدنية والنفسية، فكيف يكون ذلك؟
منذ فجر التاريخ ارتبط الإنسان بعلاقة وثيقة بالبيئة الحيوانية، علاقة أحاطتها هالات من الرهبة والرغبة.. رهبة من الحيوانات وصلت لحد تقديسها خشية بأسها، ورغبة في استئناسها ومصاحبتها بغية الانتفاع بها، فالخيل -والتي يفترض العلماء أنها قد وُجدت مع القطط في نفس الوقت تقريبًا- دخلت مصر مع الهكسوس (القرن الثامن عشر ق.م) بيد أنها لم تصبح حيوانات مقدسة لأي من الأرباب، لكن ظهرت في الرسوم الدينية مع الربات المحاربات القادمات من كنعان. واهتم العرب -قديمًا وحديثًا- بالخيل وبيئتها اهتمامًا كبيرًا، فأول من اعتنى بها وروضها هو “إسماعيل بن إبراهيم” عليهما السلام. ثم أفردها العرب برعاية غامرة، ومحبة وافرة، ومنزلة عالية، فتغنوا بها في أشعارهم، وحفظوا أنسابها بقدر ما حفظوا أنسابهم، واحترموها وصانوها من الهجنة ما استطاعوا، ووفروا مستلزماتها وما تعيش عليه، وكان أشراف العرب لا يجدون غضاضة في القيام بخدمة الخيل ورعايتها بأنفسهم: “ثلاثة لا يأنف الشريف من خدمتهم: الوالد والضيف والفرس”. كما يذكر الجاحظ:”لم تكن أمة قط أشد عجبًا بالخيل، ولا أعلم بها من العرب”، وفي شانها يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:”الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (صحيح البخاري برقم:2637).
كذلك نجد نبي الله سليمان عليه السلام يعلن عن حبه للخيل وحدبه عليها ورعايته لها: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ* فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ* رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ (ص:30ـ31). تشير الدراسات ذات الصلة إلى أن ما فعله سيدنا سليمان هو من طرق فحص الخيل والحدب الواجب عليها:”فللحيوانات الأهلية أمزجة متباينة، وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يتطلب الاقتراب منها حرصًا وانتباهًا كبيرين، خصوصًا للغريب، ففي الخيل يجب أن يظهر فاحص الحصان كثيرًا من العطف فيربت على رأسه ورقبته وظهره فيطمئن إليه، ولما سيفعله من رفع قوائمه أو قياس نبضه أو دفعه للعدو من ثم مراقبته أثناء ذلك”.
للخيل والفروسية فوائد وأخلاقيات وجماليات واقتصاديات عديدة، والحديث عنها في الثقافة العربية والإسلامية القديمة والحديثة أكبر من أن يحصى في هذه العجالة. فالفروسية وسباقات الخيول من أرقى ضروب الرياضة التي نالت التشجيع: “علموا أولادكم السباحة والرماية ومروهم فليثِبوا على الخيل وثبًا”. وحديثًا.. تؤكد الدراسات الطبية أن ممارسة المرء لنشاط عضلي بصفة منتظمة يساعد على إنقاص وزنه، مما يحميه صحيًّا من أمراض السمنة، وارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب. من النادر أن نجد فارسًا مترهل العضلات، بدين الجسم، معتل البدن، مضطرب النفس. إن الرياضة تساعد الإنسان على الوقاية من الإصابة بالقلق والتوتر والاكتئاب، كذلك تحميه من الإصابة ببعض أنواع السرطان، كسرطان القولون وسرطان الثدي. من الناحية النفسية نجد الفروسية تصبغ الفرسان بآداب وطباع: الشجاعة والفتوة والنخوة والشهامة والشرف والصلاح والكرامة والحمية والرحمة ورقة الشمائل والنصرة للضعيف. كما تُكسبه: القوة والمهارة والمقدرة على التحكم في الخيل عبر قفز السدود والحواجز والعدو، ومن أشهر ألعاب الفروسية لعبة الكرة والصولجان والتي تطورت إلى “البولو” الحالية.
ولا يغيب عن البال أن في النفس البشرية حواس وحاجات ماسة لتذوق الجمال والشغف به. حاجات تغلغل فيها لتحمي سلامتها، الباطنة والظاهرة من طغيان مظاهر القبح. لذا نجد الجمال ومظاهره في الكون، جماداته وأحياءه، عنصر أصيل مبثوث لإشباع تلك الحواس، وتلبية تلك الحاجات على حد سواء. عند التأمل في تكوين ومظهر الحيوانات -كل الحيوانات بلا استثناء- حتى ولو بدا للبعض قبحها أو وطأة منظرها، نجد أمرها ليس موقوفًا على تلبية وظيفتها، بل ليضفي عليها خالقها، جل شانه جوانب جمال وروعة: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل8:5). كذلك لا يجد القرآن غضاضة من إطلاق أسماء بعض الحيوانات والحشرات على بعض سوره: البقرة والأنعام والنمل والنحل والعنكبوت والفيل، كما نراه يضرب ببعضها الأمثال للاعتبار، وهو بذلك يرفع من شأنها ومكانتها، ويوجه النظر لتأمل خصائصها وفوائدها، ومن ثم العناية بها وببيئتها.
وما زال للخيل فوائدها المتعددة في السلم والحرب وحراسة الحدود وحفظ الأمن العام الداخلي والخارجي في آن معًا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60).
رعاية الإبل.. وصحة الإنسان البدنية والنفسية
عرفها الإنسان منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام ق. م،ولفتت الأنظار لتأملها، والتدبر في خلقها: ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَت﴾(الغاشية:17). هي وسيلة للسفر وحمل الأثقال عبر الصحارى والجبال والزراعات، ومصدر غذائي للألبان واللحوم والجلود والأوبار. تم إجراء العديد من البحوث على أنواعها وسلوكياتها، واقتصادياتها، وكيفية تأقلمها مع بيئتها وظروف معيشتها، ومقاومتها للأمراض، وخصائص ونوعية لحومها، وكمية ومكونات ألبانها وأبوالها. وخلصت الدراسات إلى أن الإبل تقاوم معظم الأمراض المعدية التي قد تصيب نظرائها من الأبقار والغنم، لذا فلحومها وألبانها أكثر سلامة وهما يساعدان في تحسين صحة الإنسان وغذاءه، كمًّا ونوعًا. استفاد العرب قديمًا من لبن الإبل في علاج كثير من أمراضهم كالجدري والجروح وأمراض الأسنان وأمراض الجهاز الهضمي ومقاومة السموم: “فلبن الإبل محمود يولد دمًا جيدًا ويرطب البدن اليابس وينفع من الوسواس والغم والأمراض السوداوية، وإذا شُرب مع العسل نقى القروح الباطنية من الأخلاط العفنة، وشرب اللبن مع السكر يحسن اللون جدًّا ويصفي البشرة وهو جيد لأمراض الصدر وبالأخص الرئة وجيد للمصابين بمرض السل، ولبن اللقاح جلاءً وتليينًا وإدرارًا وتفتيحًا للسدد وجيد أيضًا للاستسقاء”. يقول الرازي: “لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد وفساد المزاج”، ولابن سينا في القانون: ”إن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق وما فيه من خاصية، وإن هذا اللبن شديد المنفعة فلو أن إنسانًا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به، وقد جرب ذلك قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعفوا”. فاللبن ليس مانحًا للقوة فقط ولكن للصحة أيضًا.
وأثبتت الدراسات الحديثة أن حليب الناقة يحتوي على كمية قليلة من الدهن المشبع واللاكتوز، وشربه يخفض من مستوى الجلوكوز في جسم الإنسان وله دور في علاج السكري (سكري البالغين)، عبر احتوائه على مستويات عالية من بروتينات شبيه بالأنسولين، وهذه المركبات تنفذ إلى الدم من غير أن تتحطم. إضافة إلى احتوائه على كمية كبيرة من الأحماض الأمينية مثل: ميثونين والأرجنين والليسين، وكذلك فيتامين ج، والكالسيوم والحديد، مما يجعله ملائمًا للأطفال الذين لا يرضعون، كما هو ملائم لمن لا يتمكن جهازه الهضمي من هضم سكر الحليب، ومن يعانون من الجروح، وأمراض التهاب الأمعاء، ومرضى الربو، ولمن يتلقون علاجًا كيماويًّا لتخفيف حدة العوارض الجانبية مثل التقيؤ.
ونشرت مجلة العلوم الأمريكية في عدد أغسطس 2005م: أن عائلة الجمال وخصوصًا الجمال العربية ذات السنام الواحد تتميز بامتلاكها -في دمائها وأنسجتها- أجســـامًا مضادة صغيرة تتركب من سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية على صورة حرف V تسمى الأجسام المضادة الناقصة أو النانوية Nano Antibodiesأو اختصارًا Nanobodies، فضلاً على وجود الأجسام المضادة الأخرى، والتي على شكل حرف Y، وأن حجم هذه الأجسام المضادة هو عشر حجم المضادات العادية، وتمر بسهولة عبر الأغشية الخلوية وتصل لكل خلايا الجسم، وأكثر قدرة على أن تلتحم بأهدافها وتدمرها. وتمتاز هذه الأجسام النانوية بأنها أكثر ثباتًا في مقاومة درجة الحرارة ولتغير الأس الأيدروجيني، وتحتفظ بفاعليتها أثناء مرورها بالمعدة والأمعاء، مما يعزز من آفاق ظهور حبات دواء تحتوي أجسامًا نانوية لعلاج مرض الأمعاء الالتهابي وسرطان القولون والروماتويد وربما مرضى الزهايمر أيضًا. نالت هذه الأجسام المضادة اهتمامًا بحثيًّا لعلاج الأورام منذ حوالي 2001م، وأثبتت فاعليتها حيث تلتصق بكفاءة عالية بجدار الخلية السرطانية وتدمرها، وقد نجحت بعض الشركات في إنتاج دواء مكون من مضادات شبيهة بالموجودة في الإبل لعلاج السرطان والأمراض المزمنة. وطـُورت هذه الأجسام النانوية لتحقق أهدافًا علاجية تغطي بعض الأمراض المهمة التي يعاني منها الإنسان كالسرطان، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والالتهابات. وفي دول الخليج يكثر الاهتمام برعاية الإبل، وهي تشارك بكثرة في بعض الرياضات كسباقات الهجن، (وإن كان سيستبدل الراكب بـ “روبوت” مدرب على هذه السباقات). من الناحية النفسية نجد بإمكان المرء أن يتعلم الكثير من الصفات والطباع التي تتحلى بها الإبل مثل: التحمل والصبر والعمل الدؤوب والقناعة والاقتصاد في المأكل والمؤونة، والادخار لما هو قادم، والعطاء حتى في أقسى الظروف.
رعي الغنم.. مهنة الأنبياء
لقد كان رعي الغنم مهنة كل الأنبياء، فما من نبي إلا ورعى الغنم، فنبي الله موسى عليه السلام يشير لعصاه قائلاً: ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي..﴾ (طه:18)، ففي رعاية الغنم فترات طويلة الرياضة والمشي، وكذلك التأمل والصفاء الذهني والتوحد من الكون، مما أثمر عن كبير الأثر في بناء شخصية الأنبياء الكاملة القائدة.