فلسفة الحج الإنسانية والإيمانية

الحديث عن فلسفة الحج تختلف من شخص لآخر طبقًا للمفاهيم والسياق الديني والخلفيات والصورة الذهنية لتلك الفريضة، كما أن الكتابة عن الحج تنفرد بطبيعة خاصة؛ لارتباطه بأمور دينية ودنيوية على رأسها عقد مؤتمر سنوي تشارك فيه جنسيات مختلفة مستخدمة لغة واحدة هي العربية. هناك كثيرون من غير المسلمين عرفوا بعض المعلومات عن الحج، فساروا في خطوات إيمانية للوصول إلى اليقين الحقيقي بعدما عجز العلم الأوروبي عن إشباع عقولهم وقلوبهم المتعطشة للتجليات الروحانية في ملكوت الله الأعظم.

لقد أدرك هؤلاء ماهية الفلسفة بوجه عام، ومن ثم فلسفة الحج بوجه خاص، بعد رحلة فكرية بين الإطار اليوناني القديم والغربي المعاصر والذي يشير إلى أن “الفلسفة حب الحكمة والبحث عنها ومعرفة الإنسان لنفسه في إطار النظام المعرفي الكامل”، وبين الإطار الإسلامي متعدد الجوانب والذي يشير إلى أنها “نشاط عقلي يستهدف في المقام الأول تحقيق إنسانية الإنسان وهو ما أشار إليه الكندي”، وهي أيضًا “النفاذ إلى جوهر الأشياء” مثلما جاء في كتابات الفارابي، وكذلك فهي تجعل الإنسان أفضل مثلما جاء في تعريف ابن سينا.

ومن يتتبع رحلة الإيمان وأداء الحج من جانب بعض الغربيين الذين أسلموا بعد سنوات طويلة من الدرس والتحليل والفهم، يجد أن فلسفة الحج لديهم تعكس إيمانهم الصادق الذي يتطابق تمامًا مع كل ما يقبله العقل المسلم.

لا شك أن القرآن الكريم يعد نقطة تحول حاسمة سواء في تاريخ العرب أو في تاريخ الفكر والعلم من المنظور الديني والفلسفي؛ وذلك لأنه جمع الأسس والضوابط الإلهية لكافة العلوم والمعارف الإنسانية على نحو يجعل الوحي مع الوجود منطلقًا للعقل الإنساني في هذه العلوم والمعارف.

تأسيسًا على ذلك ففلسفة الحج عند هؤلاء تعني أن الطواف حول الكعبة يمثل عودة إلى ينابيع الإيمان الصافية، وأن التحرك عكس دوران عقارب الساعة بمثابة مقاومة انحرافات التاريخ.

ومن جانب آخر فإن هذا الطواف يعد سيلاً بشريًّا لا مثيل له، وإن كان وعيًا فرديًّا، إلا أنه أيضًا يعتبر وعيًا جمعيًّا، يترجم بصدق انتماء هؤلاء الأفراد إلى أمة من أطراف ونواح شتى، تهتف وتردد بحروف عربية “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك”، إنها هجرة سنوية تردد دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام.

والكعبة هنا ليست مجرد بناء حجري مغطى بالأكسية، إنما هي محور المسلمين كافة الثابت، ومدار كل حركاتهم في ترتيب متسق، الكل انصهر في بوتقة مشهد الوقوف أمام الله الأعظم، لا فرق بين غني وفقير، قوي وضعيف، حاكم ومحكوم.

شحنة روحية تشع من الكعبة تبعث الحياة في أنحاء العالم الإسلامي؛ فإليها تتجه جميع المساجد، والصلوات التي لا تنقطع دقيقة واحدة في الكون؛ بفعل اختلاف خطوط الطول للدول، فأصبح أذان الصلوات يتردد على المسامع طوال الليل والنهار.

الحركة واحدة، الكل في واحد، يتجمع الملايين معًا في عرفات ومنَى والمزدلفة، ومع نهاية المطاف، يعود الحجيج إلى الكعبة مثلما كانت البداية.

المراجع

1- ما الفلسفة؟ مرزوق شعبان العتيبي، مجلة الفيصل، العددان 463، 464، محرم/صفر 1426هـ، ص 30.

2- القرآن الكريم والعقل: فاطمة إسماعيل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1413هـ ، 1993م، ص 24.