إن الشباب هم عماد المجتمع، والحفاظ على مقوماته الذاتية، من واجبات المجتمع. فالشباب هم الطاقة الكامنة التي توجه المجتمع نحو التطور والتقدم والحضارة والرقي، لأنهم هم الفئة أكثر استعدادًا للتغيير، والأكثر تقبُّلًا للإبداع، والتكيف مع تطورات العصر والتفاعل معه، ولديهم حماس فكري خلاق ومنتج. فالله تعالى أودع فيهم طاقات جبارة يجب أن تُستغل في العطاء والخير للمجتمع وللأمة. لهذه الأسباب فهم الفئة المستهدفة من قبل الآخر، الذي يريد أن يعطل مراكز القوة الفاعلة فيهم. وبالفعل هناك مشاريع تدميرية وتفكيكية لمواطن القوة فيهم، فهم الآن في موقف صعب، تتجاذبهم التيارات من كل الاتجاهات، يعانون من تحديات ومشاكل جلبتها لهم العولمة والحداثة السائدة اليوم. هذا بالإضافة إلى المشاكل التي يعانون منها في بلدانهم من عدم الاهتمام بهم ومراعاة مطالبهم المشروعة، مما قد يصيبهم بحالة من الإحباط، والقنوط واليأس في تحقيق طموحاتهم في التطور ومسايرة العصر. وهو الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء إلى الآخر الذي يريد أن يستغل قواهم ويحقق لهم الآمال.
فمن الضروري النظر في معالجة مشكلات الشباب، من خلال الفكر الإسلامي وما له من دور في تحصين عقولهم؛ لأن ما يتعرض له الشباب اليوم، أمر يستوجب التوقف عنده، ووضع إستراتيجية دفاعية تحصن العقول من التشويش الفكري. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو المنهج الصحيح القابل للتطبيق العاجل، من أجل اكتساب الشباب المناعة الفكرية والحصانة العقلية لمواجهة هذه التيارات الجارفة؟ وللإجابة على هذا السؤال، وجب أن نصف المشكلة ونحللها ونفككها لنعرف مواطن الخطر فيها، ثم نحاول تنقيتها وغربلتها من الأفكار الضارة. في البداية يجب أن يعلم الشباب أن الضمير الحي يبنى بالأفكار الحية ولا يستورد أو يقلد، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52). فلا يمكن الاعتماد على الأفكار التي جاءت بها المدرسة الوجودية والتحليل النفسي أو غيرها من الأفكار التي تأتينا من الشرق أو الغرب، والتي هي أفكار وُضعت لأهداف ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب للشباب، وليس معنى ذلك أننا ضد العلم والفكر الإنساني الحر البنّاء، وإنما أردنا أن نقول إن التغيير يكون ذاتيًّا، لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، وقوله تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة:120)؛ فقد أشارت الآية بوضوح إلى أن الحلول المستوردة لا تعطي نتيجة، ولن تغير في الأمر شيء.
ومن أجل معالجة إشكالية الشباب من خلال دور الفكر الإسلامي، يجب أن نوضح بعض المفاهيم اللغوية والاصطلاحية للفكر الإسلامي. فالفكر في اللغة كما جاء في المعجم الوسيط: الفِكرُ مقلوبٌ عن الفرك، وهو فركُ الأمور وبحثُها للوصول إلى حقيقتها.
وفي مختار الصحاح: فرك الثوب والسنبل بيده فيصير فريكًا حيث يصلح للآكل. وعند ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر، إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ كثير التفكر. ويقول ابن منظور، الفكر هو إعمال الخاطر في الشيء، وفي القاموس المحيط: الفكر إعمال النظر في الشيء.
وعن الخاطر يقول الجرجاني: الخاطر ما يرد على القلب من الخطاب، وهو أربعة أقسام:
رباني: مصدره إلهي وهو معصوم من الخطأ، وهو الخاطر الذي يأتي الأنبياء، وورثتهم من العلماء والمصلحين، بحيث يتأمل الشيء فيعرف حقيقته.
وملـــكي: ويسمى إلهاما، ويأتي أيضًا للأنبياء والمرسلين ومن العلماء الربانيين.
نفساني: وهو حديث النفس، يسمى هاجسًا، وهو مَا يَخْطُر ببال الإنسان من أفكار أو تصورات تستقر في النفس.
شيطاني: وهو الذي حذرنا منه القرآن: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:168)، لأنه يدعو إلى مخالفة الحق، فالشيطان يزين للنفس العمل لتستحسنه فتعتقده نصيحة. والفرق بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني، يتعلق بالمقصد من المعصية، فإن كان يقصد بها القيام بالمعصية بعينها فهو خاطر نفساني، وإن كان يقصد بها التحول إلى معصية أخرى فهو خاطر شيطاني.
الفكر الإسلامي في الاصطلاح هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول، وهو مركَّب إضافي من كلمتي الفكر والإسلام. فالفكر الإسلامي هو ما ينتجه العقلُ المسلم من خلال تعامله مع الآيات القرآنية والكونية وفْقَ منهج علمي، له منطلقات وأهداف. وقد وردت لفظة “فكر” في القرآن الكريم في نحو ٢٠ موضعًا بصيغة الفعل، قال تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (المدثر:18)، وقال تعالى: (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام:50)، وقال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:176).
ويجب أن نفرق بين فكر الإسلام والفكر الإسلامي؛ ففكر الإسلام هو ما جاء في الإسلام من فكر وأفكار يتلقاها الإنسان من النصوص الإسلامية (القرآن والسنة) وهذا الفكر معصوم من الخطأ، فهو فكر يتطابق مع الحقيقة المطلقة. أما الفكر الإسلامي فهو نتاج العقل المسلم في فهم الواقع النصي أو الواقع الكوني، والواقع النصي نعني به النصوص من القرآن والسنة الصحيحة، والواقع الكوني نعني به ما يشمل السماوات والأرض وما بينهما كما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) (فصلت:53). كما يوجد فرق أيضًا بين التذكر والتفكر، فنحن نتفكر لكي نتذكر.. فالتذكر هو ثمرة التفكر، لأن الفكر بمثابة الأداة أو الآليَّة في عملية التفكير، وعندما يضاف إلى الإسلام يوصف الفكر بأنه إسلامي، وهذا يعني تقييد مجاله في ضوء الإسلام، ولذلك عرَّفه بعضهم بأنه: “المنهج الذي يفكِّر به المسلمون” قال تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر:27)؛ فالآية تبين أن الهدف من ضرب الأمثال في القرآن الكريم، القصد من الدعوة إلى التفكير، ثم التذكير لأخذ العبر والدروس التي تفيدنا في الحياة.
في القرآن القدوة والحكمة للشباب
نحن نتساءل عن الحكمة من دعوة القرآن إلى التفكر؟ ذلك لأن التفكر هو أداة التحضر والتقدم، فبدونه لا ترقى الأمم ولا تتطور، فهو يعلم أن الشباب لهم مجال واسع من الخيال، وعقولهم جاهزة للعمل من أجل التفكير والإبداع، فبدل أن يسخروها في أوقات الفراغ الضائع من غير فائدة، فقد دعاهم القرآن إلى التفكر في الكون. وكان إبراهيم عليه السلام مثالًا للشاب الواعي الفاهم صاحب الحجة والمؤمن المستسلم لأمر الله، المفوض أمره إليه والمتوكل عليه بالرغم من التحديات والابتلاءات التي تحيط به، وهو وحده الثابت على الحق، قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120). إذن، الشباب أقدر على التفكر والتدبر في الآيات القرآنية أو الآيات الكونية؛ من أجل إنتاج العلوم والفنون لتسخيرها في عمارة الأرض، وعبادة الله تعالى والإيمان به والإصلاح في الأرض. بالتفكير يعالج الشباب مشاكلهم ويجدون الحلول، هذا بالإضافة إلى تحقيق غايتهم في الاطمئنان النفسي.
ومجالات التفكير كثيرة وعديدة، ولها ثمرات وفوائد لا تحصى ولا تُعدُّ، فالتفكير يثمر الاجتهاد في العمل، قال ابنُ عباس رضي اللع عنه: “التفكُّر في الخير يدعو إلى العمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه”. وقال وَهْب بن مُنبِّه: “ما طالت فكرةُ امرئ قط إلا فَهِم، وما فَهِم امرؤٌ قط إلا عَلِم، وما عَلِم امرؤٌ قط إلا عَمِل”. كما يثمر لنا العلم والمعرفة، فكلما كان الإنسان يتفكر في الأشياء المعنوية والحسية، كلما ازداد علمًا ومعرفة بحقيقتها وأسرارها، وقيل عن لقمان الحكيم، إنه كان طويل التفكر عميق النظر.
ومن ثمار التفكر الخوفُ من الله تعالى واستشعار عظمته، قال بِشْر بن الحارث: “لو تفكَّر الناس في عظمة الله لما عصوا الله”. وقال حاتم الأصم: “من العبرة يزيد العلمُ، ومن التفكر يزيد الخوفُ”. وقيل: “الفكرة تُذهِب الغفلةَ، وتُحدِث للقلب الخشيةَ”، وقال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف:13)، فهؤلاء الفتية كانوا في مرحلة الشباب، وقد تمسكوا بدينهم، ولم تغرهم كل وسائل الإغراء من الإمارة أو المال أو الجاه أو القيادة أو غيرها.. وكانوا رمزًا للشباب الواعي المفكر المؤمن الثابت على الحق والمبدأ. وهنا تتبين لنا أهمية اللجوء إلى الله تعالى عند الحاجة. قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:٢-3).
واقع التحدي وأساليب النجاة
فما أحوج الشباب اليوم إلى استثمار الوقت في التفكير وإعمال العقل في الأشياء، لمعرفة حقيقتها والاستفادة منها في ترقية مجتمعهم، وجاء في الحديث الشريف: “اغتنمْ خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” (رواه الحاكم)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الشباب إلى ملء الفراغ واستثمار الوقت، ونِعَم الله عليه في مرضاته وفائدة المجتمع. صحيح أن الشباب ميَّال للتغيير والتطلع للجديد، ولكن يجب أن يحافظ على هويته وأصالته التي لا ينبغي المساومة فيها. فمن مصلحة الشباب أن يغتنم صحته قبل سقمه، وشغله قبل فراغه، وشبابه قبل هرمه، ولذلك فإن عليه أن يغتنم ما يتاح له من الفرص، بأن يتحلى بالأخلاق الفاضلة.. فليجعل الشباب دراسة القرآن والبحث فيه، من أجل استنباط مواطن القوة والقدوة، لمواجهة التيارات الشرقية والغربية، ومنه نستمد الثبات في هذه الأمواج المتلاطمة. أيها الشباب اسمعوا لنصيحة البشير الإبراهيمي وهو يقول: “أي شباب الإسلام! إن علَّتكم التي أعيت الأطباء، واستعصت على حكمة الحكماء، هي ضعف أخلاقكم، ووهن عزائمكم، فداووا الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، وآسوا العزائم بالقرآن تقوى وتشتد”. ولا شك أن إصلاح العقيدة هو أساس كل إصلاح، فها هو الشيخ مبارك الميلي (مؤرخ الجزائر واحد رفقاء الإبراهيمي) يقول: “من حاول إصلاح أمة إسلامية بغير دينها، فقد عرض وحدتها للانحلال”.
فالمشكلة التي يعاني منها الشباب اليوم، هي محاصرته بالأفكار الوافدة المميتة والمخربة لمراكز القوة فيه بالوسائل المتعددة الجاذبة التي تبعث على التشكيك في كل شيء، وتترك الشباب في حيرة من أمرهم، لا هو متمسك بالأصالة ولا هو مرتاح للمعاصرة، وفقد بسببها بوصلة الاتجاه. فكل هذه المشاكل لها حلول ناجعة ومؤكدة في الفكر الإسلامي المستمد من القرآن والسنة. ومن أجل التصدي، نقدم هذه الآليات التي تساعد الشباب في تجاوز العقبات والوصول إلى بر الأمان:
- نشر الوعي والعلم في أوساط الشباب بكل الوسائل المتاحة.
- الارتباط بالقرآن الكريم والتفكر في آياته.
- التشجيع والتحفيز على طلب العلم من مصادره الأصلية.
- حب الطاعة لله ولرسوله، والولاء للدين وأحكامه.
- توثيق الصلة بالعلماء الربانيين والأخذ بنصائحهم.
- تحصين النفس والعقل والقلب بالفكر الإسلامي الصحيح، وطلبه من مصادره الموثوقة.
- الترفع عن المبالغة بالإعجاب بالآخر والانبهار به كونه هو من أوجد التكنولوجيا.
- الدعوة إلى تعزيز الثقة بالنفس. وحب الانتماء للدين الإسلامي.
- ملازمة أهل الصلاح من المفكرين والعلماء المتحررين من أي قيود.
- اللجوء إلى الله تعالى لاستمداد العون والتوفيق منه بالصلاة والدعاء.
فإذا استطعنا العمل بهذه الأفكار، سنصل بحول الله وقوته، إلى مقر النجاة، وتكون الغلبة لشبابنا المسلم. لذا وجب علينا التوكل على الله والمبادرة إلى التطبيق والعمل بدون انتظار. يقول “يونج” في كتابه “الدين وعلم النفس”: “الإنسان يصبح مريضًا عصبيًّا عندما يفقد ثقته بنفسه، وتكون الثقة بالنفس غير مستقرة إذا لم تقترن بالإيمان بالله”؛ لأن حماية الثقة بالنفس هي الأساس لبناء العقل والروح.
(*) أستاذ العقيدة والفكر الإسامي، جامعة الأغواط / الجزائر.
المراجع
(1) إحياء علوم الدين (4/425).
(٢) تفسير ابن كثير، مجلد:2، تفسير الآية 190، سورة آل عمران.