أبيات شعرية صارت أمثالا شعبية

يَحبل الشعر العربي القديم بكل معاني الجمال والحكمة، التي أصبحت تشكل تراثًا حِكَميًّا متداولًا على أنه من الأمثال، والتي في الغالب لا تعرف الأجيال المعاصرة أصولها ويتداولونها دون معرفة سياقاتها، على أنها في الأصل تعود إلى شعراء عرب كبار عرفوا بالحكم، كما هو الحال لزهير بن أبي سلمى، أو طرفة بن العبد، أو غيرهم. وذلك ما سنعرف به في هذه الورقة، ونشرح سياق هذه الحكم الشعرية التي تحولت إلى مثَل سائر تتداوله الشعوب وتتوارثه من جيل إلى جيل.

١- “لا حياة لمن تنادي”

من الأمثال السائرة قولهم “لا حياة لمن تنادي”؛ وهو من الأمثال في الواقع التي يتم استعمالها في الخطاب العادي، ويقصد بها أن النصائح التي تقدمها لن تجد من يسمعها، أي لن تجد من يعمل بها على الرغم من معرفة قيمتها، ويدل على أن الشخص الذي يُوجه له النداء، لا يُعير الموضوع أي اهتمام أو لم يصدر منه أي ردة فعل. كما يتم استعمال هذا المثل في النقد السياسي أو الاجتماعي، حين يطالب أحدهم بالإصلاح أو الاستجابة لمطالب شعبية، ولكن يعرف مسبقًا أن المسؤولين لن يستجيبوا لتلك المطالب على معرفة بها وبأهميتها، فيقول: “لا حياة لمن تنادي”.

هذا المثل يعود حسب بعض المصادر إلى الشاعر عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي (525هـ-642هـ)، وقد ورد ضمن قصيدة له يقول فيها:

أَلا غَدَرَت بنــو أعلى قديمًا وأَنـعُـمُ إِنّــها وُدُقُ الـمَــــزَادِ
لقـد أَسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو نارٌ نفخْتَ بها أضاءت ولكن أنتَ تنفُخُ في رَمَادِ

ومنهم من نسب هذا البيتَ إلى الشاعر كثيّر عزة؛ فقد أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان قوله:

يعِـــزُّ عليَّ أن نغـــدو جميعًا وتصبح بعدنا رهنًا بــوادي
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكــن لا حــياة لمن تنادي

وينسبه البعض إلى بشار بن برد، وإن كان البعض ومنهم أبو الفرج الأصفهاني قد نسب هذا البيت إلى الشاعر عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص الأموي الذي عاش في القرن الأول الهجري والذي سبق كل من ذكرناهم، حيث يقول، كما جاء في كتاب “الأغاني”:

لقد أبقَى بنو مروانَ حُزْنًا مُبِــيــنًا عــارُه لبــنــي سَــــوادِ
أطاف به صَبيحٌ في مشِيدٍ ونادى دَعوة يا بْنيْ سُــعادِ
لقد أسمعْتَ لو ناديْتَ حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادِي

2- “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”

هذا المثل يذكر في بيان “قيمة الشيء أو الشخص الغائب في ساعة الحاجة الماسة إليه، حيث كان الغائب يسد تلك الثغرة بكفاءة واقتدار”(1)، وهو مقتبس من قصيدة أبي فراس الحمداني التي يقول في مطلعها:

أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟

وهي قصيدة نظمها أبو فراس في سجنه بحلب، حيث أسَره الروم للمرة الثالثة بعد أن أظهر شجاعة وبسالة كبيرتين في معاركه إلى جانب ابن عمه سيف الدولة ضد الروم الذين كانوا يتربصون بالحمدانيين. وهذه القصيدة كان يعتب فيها على تبني عمه سيف الدولة تباطؤه في تأدية فديته وتخليصه من الأسر. وفي ذكر مآثره لابن عمه قال هذا البيت وضمنه المثل أعلاه:

سَيَذْكُرُني قَوْمي إذا جَدّ جدّهُمْ وفي الليلة الظلماءِ يفتقدُ البدرُ

 

3- “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”

هذا المثل الذي يضرب في سياقات كثيرة للتعبير عن كون الظروف لا تسير دائمًا وفق رغبات الإنسان، أو ظروف الحياة عادة ما تكون عكس ما يتمنى المرء، وفيه إشارة إلى القدر والحظ. وهذا المثل -في الأصل- هو جزء من بيت للشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي ضمن قصيدته النونية “بم التعلل” التي يقول في مطلعها:

بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ

وفيها جاء البيت الذي استُلَّ منه هذا المثل:

ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ

وقد ذكر بعضهم “السَّفِنُ” بكسْر الفاء، وهو رُبان السفينة.

٤- “يا ليت الشباب يعود يومًا”

من الأمثال التي ترددها الألسن اليوم، قولهم “يا ليت الشباب يعود يومًا”، وهناك من يذكر البيت كاملاً:

فيا ليت الشباب يعود يومًا فأخــبره بــما فــعل المشـيب

والبيت ضمن الحكم الشعرية الخالدة في الأدب العربي، والتي جرت مجرى الأمثال، والتي تحمل دلالة توحي بنوع من التحسر على عدم قضاء أمر من الأمور بعد فوات الأوان.. كما أنه يستعمله غالبًا الكهول والشيوخ للتحسر على أيام الشباب التي لن تعود، أو تمني عودتها، علمًا أن التمني في البلاغة العربية يعني “طلب شيء محبوب في حكم المستحيل”، و”عودة الشباب” هو أمر مستحيل. والبيت هو للشاعر العباسي أبو العتاهية (130هـ-211هـ) الذي عرف شعره بالزهد والحكمة، وقد ورد البيت في قصيدة قصيرة له، يقول فيها:

بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني فَلَــم يُغــنِ البُــكاءُ وَلا النَحيـبُ
فَــيا أَسَــفا أَسِــفــتُ عَــلى شَـــبابِ نَعاهُ الشَيبُ وَالرَأسُ الخَضيبُ
عَريتُ مِــنَ الشَبابِ وَكانَ غَـــضًّا كَما يَعرى مِنَ الوَرَقِ القَضيبُ
فَــيا لَيـــتَ الشَـــبابَ يَــعـــودُ يَـــومًا فــَأُخـــبِــرَهُ بِــما فَــعَــلَ المَشــيبُ

ويحكى أن هذا البيت الذي صار بمثابة المثل، أنشده الشاعر في شيخوخته، وكان يردده في مواقف كثيرة كلما تذكر الموت، وتأسيًا به صار شيوخ اليوم وكهوله يرددونه تأسفًا على أيام الشباب الجميلة التي لن تعود.

٥- “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”

هذا المثل أو الحكمة التي صارت مضرب المثل على الألسن في التعبير عن الأمل، والتعلق بالأمل، خاصة في الأوقات الصعبة والضيقة التي تحبل بمشاعر اليأس. فيذكر المرء هذا المثل “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل” لعل الغد يحمل إليه بشارة خير. وهذا المثل يعود في أصله إلى الشاعر مؤيد الدين الطغرائي الأصبهاني (455هـ-513هـ) شاعر أصفهاني فارسي صاحب قصيدة لامية العجم التي تعتبر محاكاة لقصيدة لامية العرب للشنفري الأزدي والتي مطلعها:

أصالةُ الرأي صانتني عن الخطلِ وحليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ

وضمنها ورد هذا البيت الشعري في قوله:

أعــللُ النـفــس بالآمــال أرقــبــها ما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل
لم أرتضِ العيشَ والأيام مقبلةٌ فكيف أرضى وقد ولت على عجلِ
وعادة السيف أن يزهى بجوهرهِ ولـيـــس يعمـــلُ إلا فــي يــديْ بـطــلِ

 

٦- “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت”

هذا المثل أو الحكمة ترد على الألسن كذلك في مدح الأخلاق وبيان قيمتها في الارتقاء بالفرد والمجتمع، كما تقال تنديدًا بالسلوكيات المنحرفة، خاصة إذا صدرت ممن علا شأنه علمًا أو مالًا أو جاهًا، لبيان أن أصل الارتقاء هو الأخلاق، ويرد عادة المثل من خلال ذكر البيت كاملاً:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهو بيت شعري شهير لأمير الشعراء المصري أحمد شوقي، وقد جاء ضمن قصيدة له مطلعها:

صحوت واستدركتني شيمتي الأدب وبت تنكرنــي اللذات والطــرب

إلى أن يقول في نهاية القصيدة:

والصدق أرفع ما اهتز الرجال له وخير ما عوّد ابنًا في الحياة أب
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

 

(*) كاتب وباحث مغربي.

الهوامش

  • في الليلة الظلماء يفتقد البدر، محمد سبيل، على الموقع albayan.ae، تاريخ الاطلاع 16 أكتوبر 2022.