ازدهرت في أيامنا الراهنة “المابعديات” فكثر الحديث عن “ما بعد الحداثة”، وعن “ما بعد العولمة”، وعن “ما بعد العلمانية”، وعن “ما بعد الكولونيالية”، وعن “ما بعد الحقيقة”.. إلى آخر هذه “المابعديات” التي تنبهنا بأننا أمام عصر جديد فعليًّا، عصرٍ يتجاوز كل أطروحات الماضي البعيد والقريب، ويجعلنا وجهًا لوجه أمام إشكاليات جديدة تتجاوز مسلمات العصور الماضية، وتتطلب منا استحداث آليات جديدة للمواجهة.

وتعد مقولة “ما بعد الخصوصية” (The post Privacy)، إحدى المقولات المهمة التي فرضت نفسها على واقعنا الثقافي والعملي، مستهدفة معالجتها والنظر إليها عبر أبعاد فلسفية وأنثروبولوجية واجتماعية ونفسية، حتى نستطيع أن نقف على أبعادها وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية المحتملة على الفرد والمجتمع، وهذا ما سيحاول هذا المقال مناقشته عبر السطور الآتية.

الخصوصية إشكالية العصر

مع اجتياح الرقمنة حياتنا في كل المجالات، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واعتياد الإنسان عليها، صارت هذه الأخيرة تشكل جزءًا مهمًّا لحياته لاشتراكها أيضًا كأداة في تنظيم شؤونه اليومية. وقد اعتاد معظم الناس تبادل صور شخصية وتوثيق أخبار ونشاطات خاصة بهم، والإعلان عما يتذوقونه ويفضلونه من مأكولات وألوان للملابس التي يرتدونها، وعن آرائهم حول الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يجعل معرفة ميولهم واتجاهاتهم الفكرية وتطلعاتهم وطموحاتهم، ممكنة لدى الكثير ممن يتاح لهم الاطلاع على صفحاتهم وصفحات أصدقائهم الإلكترونية، كما أنه من الممكن تخزين كل هذا من خلال برامج وتطبيقات إلكترونية معينة.. إلى الحد الذي ثار معه السؤال: أين الخصوصية الفردية -إذن- بعدما أصبحت حياتنا الشخصية مباحة ومتاحة للجميع، نتيجة التقارير التي نكتبها بأيدينا عن كل ما يخصنا، ونتيجة المعلومات الشخصية التي تخصنا، والتي أصبحت في أيدي كثيرٍ غيرنا، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف؟ أين الخصوصية في عالم ذاب فيه التمييز بين ما هو عام وما هو خاص؟ وهل أصبحنا نعيش مرحلة أو “عالم ما بعد الخصوصية” كما أسماه “ميخائيل كوسنسكي” (Michal Kosinski)؟

لقد دق كثيرٌ ناقوس الخطر.. فقد لاحظ “بيل غيتس” عام 1997م أن “مؤسسات من القطاع الخاص، تملك الكثير من المعلومات عنا، وليس لدينا أيّة فكرة عن كيفية استخدامها وما إذا كان الاستعمال لغاية مقبولة”. ويدافع آخرون عن ظهور “قاعدة اجتماعية” جديدة مع وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم “مارك زوكربيرج” مؤسس فيسبوك، الذي يقول: “الناس اليوم أكثر انفتاحًا، ويشعرون أكثر بالراحة وهم يشاركون غيرهم بالمعلومات الخاصة بحياتهم”.

وقد فضح “إدوارد جوزيف سنودن” المتعاون السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركي (NSA) في تسريباته عبر موقع ويكيليكس في عام 2013م، برنامج مراقبة سرّي من تديره وكالة الأمن القومي الأمريكية، والذي أطلق عليه “الأخ الكبير” الذي يراقبنا على الشبكة العنكبوتية، وخصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي. أحدث الموضوع صدمة في الرأي العام العالمي بعدما صار معلومًا أن التجسس الواسع قد غدا واقعًا يشرف عليه “الأخ الأكبر” الأمريكي رسميًّا.

كما برزت مؤخرًا فضيحة برنامج “بيجاسوس”، الذي أنتجته شركة إسرائيلية، واستطاع هذا البرنامج اختراق أجهزة الهواتف لعشرات الرؤساء والشخصيات العالمية.

بين الخصوصية وما بعد الخصوصية

يقصد بالخصوصية “قدرة الفرد أو الأشخاص الحفاظَ على كل ما يخصهم من معلومات في سرية تامة، بحيث لا يمكن لأحد أن يطَّلع عليها، إلا ما يريد هذا الشخص أن يفصح عنه طواعية من خلال إفساح مساحة معلوماتية لما يريد أن يعرفه عنه الآخرون.

وترتبط المعلومات التي تعبر عن الخصوصية بالموضوعات الآتية أو ما يتعلق بها: الحياة العائلية، والحالة الصحية، والرعاية الطبية، والمحادثات الهاتفية، والذمة المالية، والآراء السياسية، والمعتقدات الدينية، وموطن الشخص ومحل إقامته، وحرمة مسكنه، وحرمة مراسلاته، واسمه، وصورته، وحرمة جسمه، وحياته المهنية والوظيفية، وقضاء أوقات فراغه.. وبناءً عليه تصبح الخصوصية هي القدرة على السيطرة على تلك البيانات الشخصية التي لا شركة للغير فيها.

ولما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا لا يعيش بمفرده، بل يعيش ويتعايش ويتعامل مع الآخرين بكل أشكال التعامل، وهذا التعامل يتطلب أن يعرف كل طرف المعلومات الكافية عن الطرف الآخر، فكان لا بد أن يفصح الإنسان عن بعض المعلومات، ويتنازل طواعية عن بعض الخصوصيات التي يحتاجها الطرف الآخر عن شريكه، وذلك لتحقيق مصالح مشتركة. لذلك تختلف كمية وحجم هذه المعلومات الخصوصية حسب طبيعة التعامل؛ فالصداقة غير الزواج، والزواج غير الزمالة في العمل.. إلخ.

وتكفل القوانين الخاصة بكل دولة الحفاظ على الحق في الخصوصية، الذي يعد حقًّا من حقوق الإنسان، وتدين اتخاذ إجراءات يمكن أن تهدد خصوصية الأفراد، إلا أن هناك في أعراف هذه الدول قوانين أخرى تحد من هذه الخصوصية بطريقة أو بأخرى.. ومن قبيل هذه القوانين، المتعلقة بالضرائب التي عادة ما تتطلب مشاركة معلومات عن الدخل الشخصي أو الأرباح العائدة من الممتلكات أو المشاريع الربحية.. كما أن هناك قوانين موجودة في دول تنص على ضرورة الإفصاح عن معلومات تعد خاصة في عرف دول أو ثقافات أخرى.

فالخصوصية خاصية فطرية من خصائص الإنسان، تختلف درجتها وحدودها من مجتمع إلى آخر ومن وقت إلى آخر، وهي قيمة مطلقة من حيث وجودها في كل زمان ومكان، ولكنها في الوقت نفسه قيمة نسبية لاختلاف شدتها من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر.

أما مصطلح “ما بعد الخصوصية” فيشير إلى السيولة المعلوماتية التي تتوفر عن الأشخاص والمؤسسات عبر التقنيات الجديدة، ومن أهمها الشبكة العنكبوتية التي تتيح قدرًا كافيًا ومعقولًا من المعلومات بمجرد ضغطة زر. ومن ثم فقد تغير بالضرورة مفهوم انتهاك الخصوصية الذي يعني الاطلاع على خصوصيات الآخرين دون علمهم. فالمعلومات متاحة للجميع، وقد تنازل أصحابها عنها طواعية، ويستطيع كل إنسان الدخول عليها دون محاسبة من أحد.

لقد تجاوز عصرنا الراهن مفهوم الخصوصية إلى ما بعد الخصوصية؛ حيث صار الإنسان مشاعًا وكُلاًّ مباحًا، فكل المعلومات الخاصة به أصبحت متاحة أمام الجميع -أمام الأفراد والأشخاص والحكومات- وأقصى ما يمكن أن يطالب به مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، أن يحصلوا على تنبيه (Notification) إذا ما حاول أحدهم معرفة معلوماته الموجودة على حسابه الإلكتروني.

عصر ما بعد الخصوصية

لقد تغير مفهوم الخصوصية إلى حد كبير مع دخول البشرية منذ بدايات الألفية الثالثة مرحلة جديدة من الانفتاح المعلوماتي المتزايد على جميع مستويات المجتمع، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “عصر الشفافية” بامتياز؛ وهو العصر الذي قالت عنه “نوفا سبيفاك” (Nova Spivack) في مقالتها “عالم ما بعد الخصوصية” (The Post-Privacy World)، إنه العصر الذي أصبح فيه الحفاظ على الأسرار أكثر صعوبة، وبالتالي ينتقل التركيز من الحفاظ على الخصوصية إلى كيفية التصرف عندما يمكن اكتشاف كل شيء.

وهنا تتحدد إشكالية عصر ما بعد الخصوصية، فكيف يمكننا أن نتصرف أمام انكشاف كل الخصوصيات أمام الآخر؟ أي كيف يمكن للإنسان اليوم أن يتصرف وقد أصبح مشاعًا، ليس لديه ما يمكن أن يخفيه؟ فكل شيء معروف من الجميع ومكشوف للكل، وليس بإمكانه أن يعود إلى الوراء، فالعودة مستحيلة؛ لأن خيوط اللعبة كاملة ليست بيده، إن رفضها هو لن يرفضها الآخر، وإن أهملها سيتم تجاوزه ويصير مثل من يترك عالم المدينة ليعيش في عالم الكهوف والمغارات، ويستر جسده بجلود الحيوانات متجاهلًا زمنه ومنتجاته الحضارية.

لقد صار العيش في عالم الشفافية ضرورة ونتيجة في الوقت نفسه، للتنافس والتطور في أدوات الاتصالات وقدرات التنقيب عن البيانات، ولذلك ليس أمامنا سوى التكيف مع هذه الحقيقة، وكما تقول سبيفاك: “تبقى المقاومة عقيمة”.

ويرى البعض أن عصر ما بعد الخصوصية يتضمن المزايا الآتية:

  • توفير كافة المبالغ المالية والجهود البشرية المبذولة للحفاظ على الخصوصية.
  • سهولة معرفة الآخر والتعامل معه بقدر عال من الشفافية.
  • تضاؤل نسبة الغش والخداع إلى أدنى مستوياتها.
  • توافر فرص واسعة للتلاقي والتعارف، وعقد الصداقات، وعلاقات العمل، والتسويق للمنتجات، وغيرها.
  • الشفافية تسهّل الوعي والاكتشاف والنقاش، والابتكار، والتعلم، والتعاون، والتطور.
  • زيادة الشفافية تعمل على منع ارتكاب أيّ مخالفات، فعندما يكون لدى الأفراد والمؤسسات توقعات بأن كل شيء يمكن اكتشافه، فإنهم سيكونون أكثر حرصًا على الجودة والإتقان.

ويجب أن يضع الجميع في الحسبان في عصر ما بعد الخصوصية، صعوبة أو استحالة إخفاء البيانات بعد أن تمت حوسبة المعلومات الخاصة بالفرد على أجهزة الحاسوب المتصلة بشبكة الإنترنت، سواء كانت بيانات شخصية أو مالية أو حتى صحية. ولذلك يكون التصرف الأمثل كما تقول “نوفا سبيفاك” بأنه “بدلًا من محاولة إخفاء الأسرار، يجب أن نركز اهتمامنا على كيفية مشاركتها”، وتؤكد ذلك بقولها: “شارك أكثر بدلًا من أقل، لكن قم بذلك بشكل أكثر مسؤولية”.

وما يعقّد الأمر أكثر على مستوى الشبكة العنكبوتية فيما يخص حماية المجال الخاص، هو طبيعة نموذج الإنترنت الاقتصادي ذاته؛ فمجانية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الإنترنت مشروطة بتقديم معلومات ومعطيات شخصية يمكن من خلالها تحديد هوية المستخدم الثقافية والذوقية والمهنية وبيع رغبات إلى شركات الإنترنت.. ونظرًا للتشجيع الذي يتلقاه رواد الإنترنت للإدلاء بمعلومات تخصهم من قبل ثقافة “استعراض الذات”، فهم لا يترددون في الكشف أحيانًا كثيرة عن حياتهم العائلية الخاصة وحياة أصدقائهم، وتلك هي وقود العالم الرقمي، ولها قيمة تغذي اقتصاد المعطيات. ومن هنا دخلت الحياة الخاصة في حركة السوق الرأسمالي، حيث أصبحت سلعة ككل السلع الأخرى. ومهما كانت القوانين والضوابط، فالمعلومات المنشورة على الإنترنت تنفلت من كل مراقبة وتصير في متناول الغير. ومن الصعوبة حماية الحياة الخاصة للفرد وحماية “حقه في العيش في سلام” بعيدًا عن أنظار الآخرين وعن المراقبة. لذلك فالجدل قائم حول كيفية صون حياتنا الخاصة في عصر ما بعد الخصوصية.

لذلك لا بد من التأكيد على الدعوة الصريحة للجميع نحو صناعة عالم يتحلى بأكبر قدر من الشفافية على جميع المستويات، من الفرد إلى المؤسسات إلى الحكومات، ولكن كيف يمكن تحقيق عالم أكثر شفافية بلا وجود خطورة ممكنة على الفرد أو المؤسسات أو الحكومات أو الدول؟ فهذا هو السؤال الأهم.

فلا شك أن هناك مخاطر ناتجة عن إتاحة المعلومات الخاصة بشخص ما، واحتمال استخدام هذه المعلومات بشكل غير لائق، مما قد يسبب له بعض الأضرار.. ومن ثم وجب وضع إستراتيجية واضحة تحمي الفرد من الاستعمال غير اللائق لمعلوماته في عصر السيولة المعرفية.. ومن واجب مواقع التواصل الاجتماعي، عدم السماح لأي شخص، من الولوج إليها إلا بعد أن يكتب بياناته الصحيحة وليست بيانات وهمية، والتأكد من ذلك بربط اسم صاحب الحساب برقمه القومي أولاً، وبرقم هاتفه الجوال ثانيًا، وهذه تقنية سهلة وممكنة بقليل من الجهد، حتى يكون الجميع مكشوفًا أمام الجميع ولا وجود للملثمين الأشرار.

ويتوجب على الأسر والمؤسسات التعليمية ومؤسسات المجتمع، إعداد الناشئة والأطفال من الصغر، وتعليمهم كيفية التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وتدريبهم على استخدامها، والحفاظ على خصوصيتهم، وهويتهم الثقافية في عصر ما بعد الخصوصية.

(*) كلية التربية، جامعة الإسكندرية / مصر.

المراجع

(1) حميد زنار (2020): هل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصرنا الرقمي؟ مجلة الجديد، العدد:62، ص:96-97.

(٢) غيضان السيد علي، وماذا بعد أن يصبح الإنسان مشاعًا؟ في عالم ما بعد الخصوصية، مجلة الجديد، العدد:62، ص:80- 83.

(٣) Pivack، N. The Post Privacy World (2013): www.wired.com/insights/2013/07/the-post-privacy-world، 13/9/2021.