الهَمُّ أكثر الأدعية قبولاً

إن حالة الاضطرار وقلة الحيلة، هي مرحلة مفعمة بالهمّ والأسى على المستوى الفردي والاجتماعي. والهمّ هو أكثر الأدعية قبولاً من قبل الله سبحانه وتعالى. لقد كانت تتوالى على الأمة أحيانًا فترات من الهمّ والأسى؛ فيشعر أفرادها بأنهم عديمو الحيلة وينقطع رجاؤهم وأملهم في كل شيء، ويتلوّون من الداخل. فلو أن هؤلاء الناس في مثل هذه الحال لا يشتكون ولا يتذمّرون، بل يعرضون فقط حالهم على ربهم، ويرفعون أيديهم إليه بالدعاء ويتضرعون إليه، فسيكون حالهم هذا بمثابة أكثر الأدعية قبولاً بالنسبة لهم.

وفي الواقع أنه إن ساءت الأحوال الاجتماعية وتكدَّرت، وارتفعت جلجلة الظالمين في كل بقاع العالم، وتعالَى أنينُ المظلومين، وتكالبت الهموم على المجتمعات، خلّص الله تعالى القلوبَ المؤمنة من هذه الذلة التي تردّوا فيها ومهّد لهم السبل لوراثة الأرض، وهذا لا يتحقق إلا بعد أن تنقطع السبل بتلك القلوب المؤمنة ويتوجهون إلى ربهم بدعاء المضطرين. والحقُّ أن عدم التوجه إلى الحق سبحانه وتعالى بتوحيد خالص ربما فيه خيانة للأمانة؛ لأن هذه الأمانة لا تُسلّم إلا لمن تعرضوا للابتلاءات وتجرعوا الهموم والأحزان. فمن الصعب للغاية الحفاظ على النعم التي وُهبت إلينا وقت الراحة والدعة، ويعبر عن هذه الحقيقة المَثَلُ الشعبيُّ الدارج “ما يأتي بالسهل يضيع بالسهل”، فالأموال الموروثة تلقى تهاونًا كبيرًا من قِبَل الورثة الذين يُبعثرونها هنا وهنك لأنهم لا يعرفون قيمتها.

إذن، يجب على مسلمي اليوم، الذين يرغبون في أن يكونوا أمناء على الأمانة وتَبنِّي مسألة الخدمة في سبيل الله كما أشار إلى ذلك ربنا سبحانه وتعالى في قوله: (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105)؛ أن يحرصوا على صلح أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وأن يراودهم شعورٌ بالعجز والفقر وشدة الحاجة إلى خالقهم جلّ وعلا، وأن يتجهوا إليه سبحانه وتعالى بدعائهم وتضرعاتهم في توحيد خالص وعجز مطلق.

انتزاع البؤس

والإسلام يسعى إلى انتزاع البؤس والانحطاط والذلة من الأرواح، بإزالة الأسباب والدوافع المادية، وبتحفيز قوة الإرادة الفردية بمشاعر الإيمان والمعرفة والإحسان. نعم، إن صيانة الروح من كل أنواع الدناءة والبؤس والانحطاط، إنما يتأتى باللجوء إلى الدرع السابغ المكوَّن من الإيمان القوي والمعرفةِ الواسعة والمراقبة الدائمة. وإن بلوغ الروح بهذه التجهيزات إلى الإشباع والاطمئنان، يفتح عين الإنسان على أمور حياتية فائقة الأهمية وفوق أمور البدن والجسمانية بأبعاد شاسعة. وعلى الضد، فالمحرومون من التجهز بهذا الجهاز يتعسر -أشد العسر- صونُهم للقيم الإنسانية وصمودهم أمدًا طويلاً. فبؤسُ الروح وانحطاطُه يبعِد الفرد عن ذاتيته فيكون عرضة للانجراف إلى هنا وهناك، والانصبابِ في هذا القالب أو ذاك، وينجرُّ إلى انفصام لا مفر معه من الوقوع في خدمة أبواب الأسياد، والاسترقاقِ لهم عاجلاً أو آجلاً.

(*) جهود التجديد، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017م. ونحن نبني حضارتنا، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، ٢٠١2م. العناوين من تصرف المحرر.