محمد جاسم فنان عراقي، انخرط بأسلوب وتقنيات المبدع المحترف في الفن التشكيلي، فتفنّن في صياغة حروفيات جميلة تتشاكل مع المنجز العربي في هذا المجال، وتستقل بلمسات ونظرات تتعلق بمهارته وخبرته المبنية على احتكاكه الطويل بالمجال الإبداعي.
من المعلوم أن الخط العربي له أهمية كبيرة لما يتمتع به من عطاءات تشكيلية تُخَوِّل له التجاوب مع إبداعات وفنون، مما دفع بالخطاطين لـحشد كل مهاراتهم للاستفادة من خصائص ومزايا الخط العربي الفريدة والبديعة، واستنهاض أقصى ما يمكن من الجماليات التي تكتنزها تشكيلات حروفه الرشيقة المطواعة، بل حرص بعضهم على تطويرها، وابتكار طرازات جديدة منها تتوافق وتنسجم مع كل فن جديد.
من السمات العامة للحروفية العربية
بدءًا نشير إلى كون اللوحة الحروفية لوحة إبداعية تتوفر فيها مجموعة من السمات التي تضفي عليها جمالية آسرة، ومن هذه السمات حضور الحرف حضورًا هندسيًّا بما يمليه من تداخلات وتموّجات تضفي على معطيات اللوحة غموضًا مغريًا بإمكانه إشعال جذوة البحث والتساؤل من قبل المشاهد، مما يخلق بينه وبين اللوحة تواصلاً من نوع خاص.
علاوة على ذلك، لا بد للوحة أن تتضمن اتزان مركباتها شكلاً ولونًا، مع القدرة والتحكم في استعمال الخامات بتنوعاتها وخصوصياتها.. ومن شأن ذلك تحقيق الإيقاعية المتكاملة بين مفردات وخلفيات اللوحة بملمح جميل. ويفضي ذلك إلى بروز القيمة الجمالية والصوفية والهوياتية للوحة بكلماتها وحروفها، وما تحيل عليه من مضامين مختلفة بعضها مستقى من القرآن، وبعضها من الحديث النبوي الشريف، وبعضها من الشعر والأمثال.. والحروفيات تتطلب الكثير من الجهد والخبرة، لولوج عوالمها بما يطورها لتقديم ملمح بصري يساهم في تهذيب الذوق، ويرقى إلى تمثيل الفرادة الإبداعية في علاقتها بالتراث والحضارة العربية الإسلامية.
محمد جاسم وحروفياته المتميزة
في حروفياته مواصفات مؤثثة لجماليتها الحاملة لفرادةٍ وملمحٍ إبداعيٍّ جاذب للمتذوقين للحروفيات المكتوبة باللغة العربية، وهي اللغة التي تمتلك حروفًا مطواعة تحولها أنامل المبدعين إلى تحف إبداعية راقية.
حروفيات متنوعة شكلاً ومضمونًا فيها الكثير من التجانسات والتدرجات اللونية المُضْفِـيَة على المَلمح العام للوحة نوعًا من الجمال الخاص.
وفي جل لوحاته الحروفية غموض وضبابية تظلل وجه محتوياتها لتحيل على منظر الشمس المطلة وراء سحب منتشرة أمام إشراقتها، ملمح تكرر في كثير من أعمال هذا الفنان، مما يجعله صفة ملازمة لمنجزه الإبداعي.. وأهميته جماليًّا تكمن في سمة الغموض المشوق لمعرفة المراد، وفك التشابكات الحاملة لمعانٍ أو آيات أو حكم أو أبيات شعرية.. هذا الغموض -بصيغ مختلفة- ملازم لكثير من الأجناس الإبداعية السردية والشعرية والدرامية. ومن شأنه خلق المنفرَج الإيجابي الذي يبذل جهدًا من أجل القراءة وإبداء الملاحظة بدل الإبداعات السافرة التي لا تثير فضول المستهدفين بها.
ونلاحظ لجوء المبدع جاسم إلى مقاسات مختلفة للحروف، بحيث يكون بعضها مركزيًّا يحتل قلب فضاء اللوحة، وبعضها زخرفة محيطة بالعبارات المكتوبة بحروف بارزة، ويعتمد في ذلك تجانسات لونية قليلة ومتقاربة جدًّا عبر التدقيق في التدرج بها تدرجًا مبنيًّا على خبرة طويلة ومهارة إبداعية ناضجة.
وفي كل حروفياته نقف على اعتماده نفس الأسلوب والتقنية بدرجات متفاوتة، يطغى عليها الاهتمام بوضعيةِ واتِّزانية الكتابة أكثر من المضمون الذي تحويه اللوحة، بحيث تنجذب إلى المخطوط من جانبه الجمالي قبل التفكير في قراءة مضامينه.
في لوحات جاسم محمد، تلك الفرادة التي تنم عن حسه الروحي بخصوصية تختلف من لوحة إلى أخرى، مستلهمًا عوالم صوفية وأجواء نورانية وهو يقوم بترصيف كلماته بالشكل الذي يبديها مسحات جمالية تستحق الرؤية. وهو في ذلك يتحرى الارتباط بتقاليد وسمات الخط العربي في أصالته وعراقته، بعيدًا عن المغامرة الإبداعية المفضية إلى التيه والعدمية.
نظرة عامة
إجمالاً تظل أعمال جاسم محمد في جانبها البنيوي الفني جميلة، لأنها تتخذ الحروف شكلاً ومضمونًا بنفحة إبداعية تتكرر من عمل إلى آخر، وبأوجه تحمل اختلافات طفيفة، مما يهبها مواصفات راقية إبداعيًّا من حيث اختلافاتها النوعية عن منجز الآخرين في المجال.
وبُعْدها عن المباشرة يُعلي من شأنها، ويخلق نوعًا من الحوار والتجاذبات بينها وبين المشاهد، وهنا غاية من أرفع غايات الإبداع. أعمال فنية بمثابة أطباق حروفية مشتهاة رائقة للعين محيلة على تراثنا العريق الذي يعمل المبدعون على تخليده وإنعاشه وتجديده وإظهار جماليته.
أعمال تبعث على السكينة من جهة والتأمل المحاول الإحاطة بأبعادها الجمالية والمضمونية من جهة أخرى.. تحمل تحاورًا إبداعيًّا مع الحرف العربي باعتباره الحرف الجميل الذي حمل تراثًا زاخرًا بمعطيات حضارية لها أثرها الروحي والإنساني الراقي في كثير من بقاع العالم.
حرف سنجد له أبعادًا ثقافية واسعة في لوحات هذا الفنان وغيره من المبدعين والمبدعات في هذا المجال.
وهي -انطلاقًا من هذه الحيثيات- أعمال تضيف إلى الحروفية العربية من الجمال ما يساهم في إغناء ملمحها عبر التأثر والتأثير في غيرها، وهنا مكمن التطور والتفاعل الفني الإيجابي.
وسيظل الخط العربي الوسيلة الفعالة التي صانت كثيرًا من جوانب التراث العربي والإسلامي، وفي مقدمتها كتب الدين باختلاف مشاربها. ومن شأن ذلك أن يجعل المبدعين يخوضون إبداعيًّا في هندسة الحروف والكلمات العربية تعبيرًا عن مقامها الرفيع وقيمتها الثمينة.
ومسيرة الخط العربي، مسيرة حافلة بإبداعات تتجدد بتجدد الزمان ساعية إلى فرض وجودها الفني إثباتًا لهوية المسلم ورسمًا لبعض جوانب رؤيته الخاصة للعالم.
(*) كاتب وأديب مغربي.
المراجع
(1) الحروفية العربية الهواجس والإشكالات، د. محمود شاهين، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2012م، ص:6.
(2) كلام في الفن التشكيلي، لحسن ملواني، منشورات جامعة المبدعين المغاربة، الطبعة الأولى 2019م، ص:56.