بين أزمة الهوية وضرورة الأمن اللغوي

إن الأمة التي لا تتمسك بلغتها وهويتها هي أمة قابلة للاندثار، لأنه في زمننا هذا أصبحت اللغة العربية مفككة لأنها باتت متأثرة بشظايا اللغات الأجنبية التي يعود سببها إلى التأثر بثقافة الغرب. وقد رفع عديد من العلماء والباحثين أصواتهم محذرين من تفاقم مأزق هذه اللغة الفريدة، ولا سيما بعد أن عمت العالم ظاهرة الكونية الثقافية، وبعدما بات النص القرآني -وهو حصن اللغة العربية- متهمًّا زورًا بحمله بذور العنف والبغضاء. فقد باتت اللغة القومية تخضع للتفكك التدريجي، حيث يُخشى من تمازج الفصحى بشظايا اللغات الأجنبية، ما يؤدي إلى ظهور عاميات هجينة من اللهجات المحلية وقليل من العربية.

وفي كتابه “الهوية العربية والأمن اللغوي” يدافع عبد السلام المسدي بشدة وبقوة عن اللغة العربية قائلاً:

“لن يندم العرب على شيء كما قد يندمون يومًا على أنهم لم يلبوا نداء لغتهم وهي تستجير بهم منذ عقود أنْ “أدركوني”! هتفت بهم همسًا منذ أيام الاستعمار، ثم صاحت عند انقشاع غمته، وها هي لا تبرح تشكو وتستغيث. أمران جاءا يكثفان الوعي بمأزق اللغة العربية، ويدفعان ببعض النخب -هنا وهناك- إلى إرسال صيحات الفزع: ظاهرة الكونية الثقافية المتسترة بعباءة العولمة وامتداداتها، وظاهرة التهمة الجاهزة التي أمعنت في الإلهاء إلى حد الإضلال، فأشاعت أن الإسلام هو الإرهاب وأن الإرهاب هو الإسلام، ثم روجت أن الإسلام هو العرب وأن العرب هم الإسلام، فبدا الاستنباط حتميًّا بالضرورة أن اللغة التي بها جاء الإسلام وبها نزل نصه المقدس، تحمل في كيانها بذور العنف ومنابت البغضاء، فهي بذاتها عدوانية تسوق الكره وتحرض على الإقصاء”.

وفي سياق آخر يعطي “المسدي” أهمية كبيرة للغة العربية محاولاً إبراز أهمية اللغة العربية في وجدان أبنائها مصرحًا: “إنه لا غنى للعربية عن أبنائها ولا غنى للعرب عن لغتهم، قد يصدق الأمر على كل الألسنة البشرية، ولكنه على لغة الضاد وعلى أهلها أصدق منه على سائر اللغات في كافة الثقافات”. في هذا التنويه يرى المسدي أن اللغة العربية هي ملك لأهلها وأنهم لا يستغنون عن لغتهم وتراثها وقيمها مهما حصل. فإنه لجدير بالقول: إن اللغة العربية تعرضت إلى الكثير من محاولات التشويه والمحو مثل سنوات الاستعمار التي شهدها العالم العربي، وخاصة الاستعمار الثقافي الذي يهدف إلى نزع اللغة العربية من الجذور. إن لغة الضاد قد عاشت ألوانًا من الضيم طيلة الحقبة الاستعمارية، ولا سيما في الأمصار التي كتبت عليها الأقدار أن تعيش تحت نیر الاستعمار الفرنسي. وحين دالت الأمور وحلت دولة الاستقلال، محل منظومة الحماية أو الانتداب أو الاستعمار، لم تجد اللغة العربية نفسها أفضل حالاً مما كانت عليه، اللهم إلا في إجراءات شكلية دون الجوهر”.

مفهوم الهوية

نستطيع تحديد الهوية من خلال بعض العناصر الأساسية التي تميز الفرد، مثل الوطن والجنسية واللغة والعادات والتقاليد والتراث وغيرها، إذ وجدنا أنه “يمكن تعريف الهوية بأنها المشاركة في عناصر أساسية تحدد شخصية وتوجهات الأفراد من حيث احتياجاتهم المشتركة واهتماماتهم وأهدافهم”. استنادًا إلى ما جاء به جمال الدين محمد في بحثه، فلقد وردت لفظة الهوية في لسان العرب لابن منظور من الفعل هوى، “وهوى بالفتح، يهوى هويًا وهويانًا وانهوى: سقط من فوق إلى أسفل، وأهواه هو، يقال أهويته إذا ألقيته من فوق. يقول خليل نوري مسيهر: “إن للهوية تعريفات متعددة حسب العلم الذي يبحث فيها: علم النفس، أو علم الاجتماع.. وتقول هويدا عدلي: “إن الباحث عندما يتعامل مع مفهوم الهوية على وجه الخصوص، فإنه يتعامل مع مفهوم قلق من الناحية النظرية، يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، حيث إنه من أكثر مفاهيم العلوم الاجتماعية الشائكة نظرًا لما يثيره من إشكاليات عديدة. ولكن الباحث خليل نوري مسيهر العاني، يرى أن جميع العلوم تتبنى مفهومًا متقاربًا للهوية، وأنها جميعًا متفقة على أهم شيء في تعريف الهوية، ألا وهو الخصوصية والتميز عن الغير.

إذ يؤكد الباحث في هذا النص أن الهوية تمتاز بالخصوصية والتميز عن الغير، لأن الأمم تختلف والحضارات تتنوع، ولكل بلد في هذا العالم عاداته الخاصة وتاريخه الخاص ولغته المعروفة وتراثه المحفوظ. أما في البحث الخاص بصراع الهوية والذات يقول الباحث عريبي وعرجون:

“شهدت العقود الأخيرة من الزمن تشتتًا في الهوية، وذلك بسبب التغيرات التي طرأت على المجتمعات، وما حصل لمعظم الدول وانهيار القيم وتفكك العالقات فتغيرت الأبعاد القومية والثقافية والدينية والاجتماعية”.

إذ يرى أن التغيرات التي طرأت على العالم العربي كانت سببًا مباشرًا في تشتت الهوية وتغير المجتمعات والمفاهيم الثقافية. فمن هذا المنبر يؤكد أنه: “اختفى معنى الهوية في المجتمعات العربية، وزال الألم عند بعضها، حتى إن الأعراق اختلطت فلم يعد هناك عرق نقي أو جنس صاف حتى في الأفكار، بل وحتى صار فقدانها مرضًا نفسيًّا وأصبحت تسمى بـ”الهوية”.

ضرورة الأمن اللغوي

لا يمكننا أن نتقن اللغة العربية أو نتقن فهمها إلا من خلال التأمين اللغوي الذي يمكننا من إتقان اللغة وإدراك ثقافتها، ومبادئها، ومعطياتها، وتاريخها. فمن خلال مكاسبنا القبلية حول الأمن اللغوي فهو التمكن من الفهم والتأويل للغة والتأقلم مع العولمة والتطور الحضاري مثل التكنولوجيا وغيرها. إذ يرى الدكتور محمود السيد: “أن الأمن هو ضد الخوف، وهو من الحاجات الأساسية لرفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة، والوقوف ضد أي هيمنة أيًّا كان مصدرها داخلية كانت أو خارجية. والأمن الثقافي العربي هو مطلب هام للحفاظ على الكيان العربي والهوية، والاستمرار والحفاظ على المكتسبات الحضارية. وتعد اللغة خط الدفاع الأول للأمن القومي العربي، إذ إن الأمن اللغوي هو المقوم الأساسي والرئيس لتحقيق الأمن الثقافي، من خلال الحفاظ على التراث الثقافي من جهة التحديات الخارجية الرامية إلى هدم ثقافة الأمة وذاتها، والتصدي إلى غزو ثقافي، وهي التي تدعم الهوية وتحقق الأمن الثقافي.

التنويه السابق لمحمود السيد من كتابه “الأمن اللغوي ودوره في الحفاظ على هوية الأمة”، يوضح لنا أن الأمن الثقافي ما هو إلا ركيزة قوية تساهم في الدفاع عن الوجود العربي واستمراره والحفاظ على لغته من الاندثار. ومن جهة أخرى يؤكد اللساني محمود السيد أن الأمن اللغوي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، ولا يقل أهمية عن الأمن الغذائي والأمن المائي والأمن البيئي.. إلخ، لأنه يحافظ على الهوية، هوية الأمة التي ينتمي إليها من جهة أخرى.

تعليم اللغة العربية

إن الشخص الذي يرغب في تعلم أي لغة من لغات العالم، يجب أن يبني مهاراته على بعض المفاهيم الجديدة في عالم اللغة. إذ يتطلب تعلم اللغة العربية بعض المعلومات القبلية التي تعتبر شرطًا أساسيًّا في عملية التعلم أو التعليم، وبعدها المفاهيم الجديدة التي تكون بدورها مواكبة للعولمة والتكنولوجيا الحديثة. استنادًا إلى كتاب مستقبل ثقافة الطفل العربي فإن:

تعلم اللغة يعني بناء مفهومات جديدة عن الأشياء وكفايته لا تقاس بمدى ما يحتفظ به المتعلم من معارف معنوية، ولأن التعلم عملية بنائية نشيطة تبنى فيها المعرفة، وتهدف إلى تحقيق فهم أشمل لبيئتنا، وإضفاء معنی ودلالة على العالم من حولنا. وبناء اللقاء لا يعني تراكمها، فالمتعلمون يعيدون بناء تراكيبهم اللغوية والمعرفية مع النماذج الجديدة محل الأخرى القديمة، ولذا فإن المعرفة اللغوية القبلية شرط رئيسي لبناء المعنى من خلال التفاعل بينها وبين معرفته الجديدة، والذي يجب أن يلتفت إليه المعلمون أن المتعلم تبعًا لذلك نشيط مبادر يسعى لبناء المعرفة ولا يحتاج إلى التعزيز الخارجي، لأنه يعزز نفسه بنفسه عن طريق مقارنة نتائج ما وصل إليه بما يتوقعه. وهنا لا بد أن نتخلى عن مفهوم قديم وتقليدي يقوم على أن استخدام اللغة العربية في التدريس الغرض منه نقل المعلومات لأن اللغة العربية ذاتها تحمل معاني وأفكارًا. وتعيننا على التكيف مع بيئتنا والتواصل ذي المعنى مع غيرها. فالهدف من تدريس اللغة العربية مرتكز على عملية تحويل المكتسبات البيئية من أفكار وقيم ومظاهر وعادات إلى عقل المتعلم.

إن تعليم اللغة العربية ونحن في غمار مسيرة تطوير التعليم عملية ينهض بها من يفترض أنه يعلم، وتتضمن تلك العملية أعمالاً وإجراءات وتنظيمات يقصد بها تيسير التعلم، وتهيئة المناخ الداعم للتعلم الجيد. ويستمد تعليم العربية وتعلمها فلسفته من المداخل التربوية مع نظرية اللغة، ونتائج البحث في علم اللغة النظري والتطبيقي ونظريات التعلم اللغوي، وما يناسبها من طرائق وأساليب تتيح للمعلم الممارسة والاستخدام اللغوي والتدريب اللغوي والمناقشة والسؤال والجواب ونقل المعلومات والأخبار والمشاعر؛ مما يؤدي إلى امتلاك المتعلم اللغة العربية الفصحى المعمرة.

ومنه يمكننا القول إنه من خلال تطبيق هذه الإجراءات في عالمنا العربي، يمكن لمتعلم اللغة أن يكتسب الفصاحة في اللسان والدقة في الاستيعاب والفهم، خاصة إذا وجد المتعلم البيئة المناسبة والملائمة للتعليم والتعلم، لأن توفير البيئة أو المناخ المناسب للمتعلم يعتبر من أهم وأنجح المناهج التعليمية.  

(*) كاتبة وباحثة جزائرية.