من صور تكريم الإنسان على سائر المخلوقات مقدرته على استعمال اللغة وتطويعها في التعبير والتواصل، والتعليم والتعلم، وفي شتى مناحي الحياة. فاللغة حياة، وحياتنا لغة، ولغتنا العربية مجدُنـا وشرفنا، المعبرة عن ثقافتنا وحضارتنا. وهي ديوان آدابنا، ووعاء علومنا، ومنطق أفكارنا، وترجمان مشاعرنا، وسبيل تواصلنا واجتماعنا. ولا تستقيم حياتنا وثقافتنا وفهمنا لتراثنا الضخم، ومسايرة علوم عصرنا إلا بها. ولقد شَرُفنا بالنطق بها، والانتساب إليها، وقد جعلها الله تعالى لغة كتابه الخاتم، فهي باقية خالدة بخلوده، ناضرة محفوظة بحفظه. وهي من أكثر اللغات السامية تحدثًا (422 مليون نسمة)، ومن أكثر اللغات انتشارًا.
ولقد استمرت اللغة العربية لغة العلم الأولى في العالم لأكثر من سبعة قرون، واستوعبت طرائق البحث العلمي واصطلاحاته، ومقالاته وأدواته ومبتكراته، واحتكرت مؤلفاته وتصنيفاته وتقنياته.. والمتتبع لتراجم علماء حضارتنا العربية الإسلامية الأفذاذ -حتى الأعاجم منهم- الذين أبدعوا في شتى تصانيف العلوم ومناحي الحضارة، يجد لديهم معلمًا بارزًا، أنهم اغترفوا من اللغة العربية، وصاغوا بها عبقريتهم العلمية المتشعبة في الفلك والرياضيات، والكيمياء والصيدلة، والطب والجراحة، والتاريخ والبلدان، والفلسفة والكلام.. ولمَ لا، وقد فتح لهم القرآن الكريم (كتاب الله المسطور) منذ أول كلمة فيه (اقرأ)، أبواب القراءة والتعلم والنظر والتفكر والتدبر والتعقل والتذكر في “الآيات الكونية” المتعلقة بـ”كتاب الله المنظور” وفي الأنفس البشرية سواء بسواء.
كما أعطت كثير من المفردات القرآنية إشارات هادية، ومعارف متراكمة، ودلالات متنوعة، ومفاهيم شاملة تفتح أبواب علوم تجريبية وإنسانية متعددة، ومن أمثلة ذلك ألفاظ الفتق، الرتق)، موسِعون، الآفاق، البروج، الطارق، النجم، الضياء، النور، الرجع، التكوير، الانكدار، مرج، الماء، الرواسي، أوتادًا، زوجين، المحيض، نُطْفَةً، عَلَقَةً، مُضْغَةً، الِعظام، لَحْمًا، السمع، الأبصار، زكاها، دساها، بعوضة، النمل، النحل، البقر، الإبل، الغنم، المعز، الخيل، البغال، الحمير، الفيل، الخنزير.
وحديثًا، يدّعي بعضهم “عجز اللغة العربية عن مسايرة ركب العلوم، ودولاب التطور”، و”عقمها” عن التواصل مع روح العصر، فيرد عليهم شاعر النيل “حافظ إبراهيم” في قصيدته “اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها”:
رموني بعقم في الشبـاب وليتني | عقمت فلم أجزع لقول عُداتي |
ولدت ولمـــا لم أجـــد لعرائسي | رجـــالاً أكــــفـاءً وأدت بـــنــــاتـــي |
وسعت كتــاب الله لفظًا وغايـــة | وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ |
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةِ | وتــنــســيق أســمــاء لـمختـرعاتِ |
أنا البحرُ في أحشائه الدُر كـامنٌ | فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي |
مقارنات
في وقتنا الحاضر تقاس قوة الأمم بقدرتها على مواكبة الثورة العلمية والتقنية المعاصرة، ولا شك أن تقليد العلم أو استيراده أو تطبيع تقنياته لا ينشئ حضارة راسخة، فضلاً عن أن يداوي عللها، ولعل ذلك التقليد يصنع “مدنية مادية” و”فلكًا استهلاكيًّا” تابعًا ومرتهنًا للآخر، لا سيما في مجال اللغة مادة التفكير، وعصب الإنجاز والابتكار، بجانب كونها وعاء التعليم، والعلوم، والمعارف. إذن كل أمة تقدر نفسها، وهويتها، وتاريخها، وحضارتها تُدرس علومها بلغتها. وإن معظم دول العالم المتقدم -وبالأخص 19 دولة في صدارة العالم تقنيًّا- تُدرس علومها، وينتظم بحثها العلمي بلغاتها الأصلية القومية، ولغاتُ شعوب دول النمور الآسيوية -جنوب شرق أسيا- من يابانية، وصينية، وكورية، وهنديّة.. شاهدة على ذلك.
ويخلق التعليم بلغة أجنبية عند الإنسان “ازدواجية في شخصيته”، وينقطع عن ثقافته الأم، بينما يوفر التعليم باللغة الأم الكثير من الجهد الذي يُهدَر على فهم النص الأجنبي، ويوجه الجهود إلى فهم المادة العلمية نفسها، وأن اللغة العربية قادرةٌ على استيعاب العلوم الحديثة، وأن المفاهيم العلمية الأساسية أكثر ثباتًا.. ولغتنا العربية من أغزر اللغات مادة، وأطوعها تأليفًا، وأيسرها نهجًا في التعليم والتعلم، يتم تعلمها استماعًا واستعمالاً، قراءة وتخاطبًا، فتصير لسانًا عربيًّا فصيحًا. إنها كلٌّ متكامل، إرث ثمين لنا كما كانت ملكًا لأسلافنا، وهي عصيّة على العقم والجمود، لكن ينبغي التصرف بها ومعالجتها تصرُّف العاقل والواعي المحب المخلص، بلا مسخ لها أو تبديل لهويتها أو حَجر على مستخدميها، أو قتل لها بالتشدد والجمود تارة، أو بالتحنيط والجحود تارة أخرى، أو بالتراخي والإهمال.. وتلك ثالثة الأثافي.
الحاجة إلى التعريب والترجمة
التعريب غير الترجمة، فالترجمةُ هي “نقلُ معنى وأسلوب من لغة إلى أخرى”، بينما التعريبُ هو “رسمُ لفظة أجنبية بحروف عربية”، وهو ما يعرف بالإحراف أو الحَورفَة، والطريقةُ المتّبعة فيها هي الطريقة نفسها التي اتّبعها قدماءُ العربِ، أي كتابةُ الحروفِ التي لا نظيرَ لها في العربيةِ بما يقاربها في النطق. ولا شك في أن الترجمة تساهم في إثراء لغتنا العربية، كما تغني علومنا وصناعاتنا، وتنمي طاقاتها، وتمدها بمفردات مستجدة، وترفدها بتراكيب جديدة، وبمصطلحات علمية وحضارية حديثة.. نحتًا، وتوليدًا، وتعريبًا، وترجمة، فتكثر معاجمنا، وتنمو ثروتنا اللغوية لنواجه حاجات العصر ومتطلباته.
وإن التعلّل بوجود علوم غربية نشأت في الغرب ولا تدرس إلا بلغات أجنبية مردود عليه بأن ترجمة هذه العلوم أفضل من التوسع في نشر لغتها بما يعيق الحفاظ على اللغة العربية وهوية الدولة. وأن التشدق بالألفاظ الأجنبية بصورة واسعة قد يهدد تلك الهوية، ويقدح في نقاء وشيوع لغتها.. وللترجمة في حضارتنا العربية الإسلامية شأن كبير ومُقدّر، منذ عهد “حكيم آل مروان” الأمير “خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان”، مرورًا بالخلفاء العباسيين “أبي جعفر المنصور”، و”هارون الرشيد”، و”المأمون” وإنشاء “بيت الحكمة” وما إلى ذلك.
اللغة العربية العلمية تراكمية
في مسيرة العلم والتحضر اعتمد المصريون على البابليين والسومريين والكلدانيين والفينيقيين، كما اعتمد الإغريق على المصريين، ثم اعتمد الرومان والهنود على من سبقهم من الإغريق وغيرهم.. وأخذ العرب والمسلمون عن كل هؤلاء، وهضموا وأضافوا، واقتبست أوروبا عن العرب وعن الذين سبقهم، وهكذا فالجهود العلمية الحضارية “تراكمية” وملْكٌ عام لمن يريد الاعتماد عليها والاقتباس منها بما يعود بالنفع والتقدم.
خذ مثلاً على ذلك: في بلاد الأندلس، بدأ العصر الذهبي للطبّ العربي خلال حكم الخليفة الأموي “عبد الرحمن الناصر” (300-350هـ/912-961م). شكلت المؤلفات الطبية التي كانت ترد من دمشق وبغداد إلى الأندلس، أهم مصادر علم الطب في ذلك العصر، بيد أنه بمرور الوقت وبذل الجهد العلمي التراكمي، نشأت في الأندلس مدرسة طبية وجراحية رائدة، من أبرز روادها “أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي” (325-404هـ/936-1013م) من عباقرة وعلماء حضارة العرب والمسلمين في الأندلس، الذين أسهموا في تطوير علم وفن الجراحة وصنعة الصيدلة. ولم تنصب جهود “الزهراوي” فقط على براعته العلمية والطبية والجراحية، بل لقد انشغل بمشاكل اللغة والمصطلحات، ولم يكتف بالسير على نهج الأساليب التقليدية في التأليف والتصنيف، لذا فقد خلّف “ظواهر لغوية” تخصه دون غيره ممن ألف وصنف في مجالات طبية وكيميائية وعلمية. فمنذ بدايات التدوين العلمي وجهود المترجمين العظام في حضارتنا العربية الإسلامية، نرى إسهامات “الزهراوي” قد استوعبت “المنجز اللغوي/المصطلحي” السابق، وطوَّرَتْه وأضافت عليه وابتكرت واشتقت وطوعت المزيد من المصطلحات الطبية والجراحية.
وللتدليل “المقارن” على ذلك ينبغي الإلمام السريع بجهود من سبقوه، مثل “جابر بن حيان” (ت 189هـ) أبي علم الكيمياء، و”أبي بكر محمد بن زكريا الرازي” (ت 313هـ) أبي الطب وإمامه في الحضارة العربية الإسلامية، وجالينوس العرب. لذا شكلت كتابات “الزهراوي” واسطة العقد في التأليف الطبي العربي، فتواصلت مع تقاليد وأعراف سبقت، وأعطت أنموذجًا لأجيال لحقت على مستوى التعبير اللغوي فضلاً عن المضمون المعرفي.
كيف يمكن وصل ما سبق؟
تبدأ عوامل النهضة عند أي شعب بالاهتمام بالماضي وكشف حقائقه الحسنة وربطها بحاضره. وفي كل التجارب النهضوية يتم البدء بالأطفال عماد المستقبل، ومنظومتهم التربوية التعليمية، ويتم وضع غايات للعملية التعليمية بجوانبها الثلاثة المعرفية، والوجدانية، والمهارية، مع تأطير “معايير علمية عملية” لما يُقدم من مقررات دراسية تهدف لاستدامة ما لدى الأطفال من “فضول طبيعي”، و”دوافع للتعلم” مدى حياتهم كلها.
وتشكل تنمية قدرات التفكير الإبداعي، والحث الواعي على الافتتان والتعلم المستدام للغة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وجمع المشاهدات، وافتراض الاحتمالات، واستثمار المعلومات، وتحليل البيانات، ونقد النظريات، وحب الاستكشافات، وإيجاد أفضل حلول للمشكلات، وابتكار الوسائل لتحقيق الغايات، والولع بعلوم الرياضيات والحاسبات، وصولاً “للعقل المُبدع/الابتكاري”.
وهذه العلميات المعرفية العقلية المعتمدة على معلومات سابقة مُخزنة لها خطوات وعلاقات، وقدرات، وأشكال، وأنماط.. فمن أولى خطواتها، العناية باللغة وإثرائها وإجادتها. فاللغة -مادة العقل وترجمانه- مجموعة من “العلامات” تعبر عن الأفكار وعمليات التفكير. فالتفكير في مجمله لغة، وكلما ازدادت حصيلة اللغة وزاد ثراؤها ازدادت عملياته كمًّا وكيفًا.
وكيف يتطور السلوك البسيط لدى أطفالنا، والذي مبناه ردود الأفعال إلى عقل وبيان وتثقف وتفكير وتأمل وعلم وتعلم؟ في هذا الصدد يتجاوز باحثون، أمثال “ستانلي أي جرينبان”، و”ستيورات جي شانكر” نظرية “نعوم تشومسكي”، القائلة بأن مهارات اللغة أحد مكونات عتاد المخّ الموروث، أو أنها “حتمية بيولوجية”، وبات التأكيد على أن “العلاقات العاطفية والانفعالية والتفاعلية بين الأطفال وبيئتهم لها الدور الأهم المولد للقدرة على ابتكار وإبداع الرموز، وعمليات التفكير، فالخبرات الحسية والذاتية للأطفال وتحولاتهما المتعاقبة تغدو أساسًا لكل من الفكر المنطقي التأملي الإبداعي، وأن هذه القدرات ليست جزءًا من عتاد المخ البشري الوراثي”.
وإن تفعيل دور “اللغة العربية العلمية” يتطلب ضبط مناهج تعليم وتدريس اللغة العربية، وجودة كل جوانب العملية التعليمية والبحثية، وبنيتهما التحتية، واستثمار التعليم والتدريس بطريقة الوسائط المتعددة، الأكثر تشويقًا من الطرق التقليدية، ومن ثم إعداد المعلم الجيد الكفء من دور الحضانة حتى الجامعة وما بعدها، مع تنمية مهارات التفكير اللغوي الموضوعي الذي يعتمد الدليل المنطقي الرياضياتي التجريبي الإحصائي الاستنتاجي، وبالنظر إلى المعارف العلمية بشكل ديناميكي، ينبغي مواصلة تعريب التعليم والعلوم والمعاجم. ولا ينكر أحد ضرورة الإلمام باللغات الأجنبية -كلغات ثانية- للاطلاع على المستجدات وأحدث التقنيات.
إن إجادة لغات أخرى، للباحثين والمُختصين، ليتناولوا بدورهم الترجمة، وتعلم اللغات الأخرى إنما هي “فريضة”، فقد روى الترمذي في سننه، عن “زيد بن ثابت” قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال لي: “والله ما آمن يهود على كتابي”، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا له قرأت له كتابهم. وفي رواية عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه يأتيني كتب من ناس لا أحب أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية؟” أو قال: “السريانية؟” فقلت: نعم، فتعلمتها في سبع عشرة ليلة.
من المهم تحقيق التواصل بين جميع الباحثين العلميين الناطقين باللغة العربية عبر العالم، وتشجيعهم على استخدام اللغة العربية في كافة المجالات العلمية والبحثية، وذلك عبر خلق “شراكات بحثية، وإطلاق مبادرات” تركز على العمل الجماعي لإثراء ودعم اللغة، فضلاً عن زيادة المحتوى العلمي باللغة العربية على شبكة الإنترنت العالمية كمطلب مُلِحّ، مع توفير المادة العلمية التي تساعد الكتاب والإعلاميين على نقل وتوطين المعرفة الحديثة إلى الفئات العريضة من المجتمع، مع إشاعة مناخ يحث على التواصل بهذه اللغة في كل دواليب الحياة اليومية، وتقديرها واحترامها واحترام رموزها.
لقد آن الأوان لحمل مشاعل أنوار اللغة العربية العلمية مرة أخرى، مساهمين في قيادة الإنسانية كما فعل أسلافنا أول مرة، وذلك عبر تفعيل دورها في إحداث نقلة تعليمية وعلمية ومعرفية كبرى، مما سيعيد وصل ما انقطع من مسيرتها، يوم كانت العلوم والمعارف تتحدّث العربية، ويسطع نور شمسها على العالم كله. ولهذه المكانة التليدة تم الاحتفاء بـ”اليوم العالمي للغة العربية” في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام. ومن المؤكد أن تكريس اللغة العربية باعتبارها وسيلة تعليمية، وتعريب العلوم ومراجعها، وتدقيق مُصطلحاتها، وتوابعها لهو في شرف اللغة العربية نذرٌ يسيرٌ، وليس بالشيء الكثير ولا الكبير. ولا شك أن هناك جهودًا حثيثة في سهول عالمنا العربي وروابيه، لغرس فسائلها وحوسبتها إلكترونيًّا، وتعهّدها بالرعاية والعناية، ولم يبق سوى مد خيوط العمل والأمل لكلِّ بانٍ وربان لنعيد هذا الأمر للصدارة بجدارة.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.