المحنة والمنحة والسؤال

(عداس النينوي)

متى تبدأ مشاكل الأنظمة السياسية والاقتصادية مع الأديان؟

هذا هو السؤال الذي سنحاول أن نجيب عنه بكل هدوء من خلال تأملات في بعض المحطات المفصلية من تاريخ حركة الإسلام منذ بداية الدعوة..

بعض الحقائق لا تنقدح في أذهاننا إلا مع الحركة والتطبيق، انتبهت لموضوع هذا المقال أثناء إلقائي لموعظة في بعض مجالس الذكر والمذاكرة، كان موضوعها: (محنة المصطفى في الطائف).

خرج صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه يبحث عن مجال استراتيجي للدعوة، خرج يبحث عن قلوب وأرواح وسواعد وأكتاف لحمل الأمانة وحماية الرسالة السماوية المباركة..

كانت لحظة محنة ومأساة وانكسار وظلم..

لقد شج رأسه الشريف، كانت قدمه تنزف، كان مهموم الفؤاد وهو يبخع نفسه حسرة على أهل الطائف الذين استفرغ وسعه في ردهم إلى موازين الفطرة والإيمان..

تحركت حمية رحم القبيلة والنخوة..

فإذا بابنَي ربيعة يدعوان غلامًا لهما نصرانيًّا اسمه عدّاس، وقالا له -كما ترويه كتب السير-: خذ قطفًا من العنب، واذهب به إلى الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلاً: (باسم الله ثم أكل، فقال عدّاس: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أيّ البلاد أنت؟ قال: أنا نصراني من نينوى (بلدة بالعراق)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمِنْ قرية الرّجل الصّالح يونس بن متّى؟

فدُهِش عدَّاس وقال للنبي صلى الله عليه وسلم متعجبًا: وما يدريك ما يونس؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ. فأكبّ عدّاس على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه يقبلهما، فلمّا جاء عدّاس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي..

لقد آمن سيدنا عداس رضي الله عنه بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل دعوته، فكان في ذلك تسلية وتفريج ونصرة من الحق عز وجل لنبيه عليه السلام، حتى أن الصحابي الذي رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته هذه، قال له ما مفاده أننا رجعنا كما ذهبنا، ولم نلق في سفرنا هذا إلا المرارة والأذى، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الموقن بوعد ربه، وقال: بل ذهبنا اثنين ورجعنا ثلاثة، أنسيت عداس!

إنها تجليات الشكر واليقين اللامحدود في سيرة رجل عظيم ونبي كريم، وشخصيا طالما أجلت النظر في لحظة ظهور عداس رضي الله عنه، وفي دلالاتها ورموزها وحكمها..

لكن الشاهد فيما نحن بصدده هو كلمة لابني ربيعة، شعبة وشيبة! يقول أهل السير..

فلَمَّا جاءهما عدَّاس، قالا: (ويحك يا عداسُ! لا يصرفنَّك عن دينك؛ فإن دينك خيرٌ مِن دينه).

وهنا تبدأ الخلاصات الكبرى في الإشراق لمن تدبر وتأمل!

لماذا فضلوا دين عداس النينوي على دين محمد القرشي!

لقد كان المشركون من أهل الطائف يعرفون بخبر عداس قبل مجيئ رسول الله داعيًا إلى الإيمان والتوحيد، عرفوه مؤمنًا وناسكًا متعبدًا، لكن رغم ذلك لم يؤذوه، لم يلقوا عليه الحجارة، لم يغروا به السفهاء كما فعلوا مع صاحب الشريعة والحقيقة..

لماذا؟!

ببساطة وبدون تقعر وتفلسف، لأن ممارساته الدينية – التي لم يكن يدعوا الناس إليها – لم تشكل على مصالحهم الاقتصادية وبنيتهم السياسية أي خطر أو تهديد..

وكما قال قائل قريش: آلهة قريش من ذهب، عبادة وتجارة!

أي أنهم كانوا دومًا في حاجة إلى منظومة عقدية ترسخ وتثبت أركان امتيازاتهم، وتتحالف معهم..

أظن أننا هكذا نكون قد أجبنا على السؤال الذي طرحناه ابتداءً: تبدأ المشكلة مع الدين بالنسبة للنخب الفاسدة المستفيدة، حين يفهمه حاملوه والعاملون له على أنه تصور متكامل للحياة، وعلى أنه مشروع تغييري لتحرير البشر والشجر والحجر، تبدأ المشكلة حين يبشر الدين بالقيم والعدل والمساواة والأخلاق والتوزيع العادل للأرزاق..

أسأل نفسي وأسألك أيها القارئ الكريم: كم من عداس نينوي في أيامنا وجب عليه أن يلتحق بدعوة محمد القرشي صلوات ربي وسلامه عليه؟!