يوجد إجماع علمي وبحثي عالمي على أمرين، الأول: ارتفاع درجة حرارة كوكبنا (الاحتباس الحراري أو الاحترار العالمي، Global Warming) أمر لا لبس فيه. والثاني: التأثير البشري على المناخ أصبح واضحًا للغاية. وقد كتب كثيرًا عن الأمر الأول: وصف ورصد مظاهر مشكلة تغير المناخ والاحتباس الحراري. لكن السطور التالية ستحاول الإجابة على ما يلي: ما الذي أدى ـ مما كسبت أيدي الناس ـ إلى هذا التغير في المناخ، وتداعياته الخطيرة؟ وبالمقابل، ما هي سبل الحفاظ على كوكبنا صالحًا للسكنى؟
إن أكثر ما يقلق المختصين هو “الوتيرة المتسارعة” للتغير المناخي المرتبط بزيادة معدلات الأنشطة البشرية. ففي عام 1895 خلُص الكيميائي السويدي “سفانتي أرهينيوس” إلى أن: “حرق الفحم الحجري ـ الذي زاد منذ انطلاق الثورة الصناعية الأولى أواخر القرن الثامن عشرـ سيعزز تأثر “ظاهرة الدفيئة”. ومن المعلوم أن توليد معظم كميات الكهرباء المطلوبة دوليًّا يتم عبر حرق الوقود الأحفوري (الفحم، والزيت، والغاز)، وتوظف هذه الطاقة الكهربائية في معظم مناحي الحياة. وعالميًّا، تستهلك المباني السكنية والتجارية أكثر من نصف كمية الكهرباء التي يتم إنتاجها. ومع استمرارها في الاعتماد على الفحم والنفط والغاز للتدفئة أو التبريد، تنبعث منها كميات كبيرة من غازات الدفيئة. وقد ساهم تزايد الطلب على الطاقة للتدفئة والتبريد، مع زيادة حيازة أجهزة تكييف الهواء ومبردات الأطعمة، فضلاً عن زيادة استهلاك الكهرباء للإضاءة والأجهزة الكهربائية في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتوجد قاعدة مفادها: “طاقة أكثر تعني تلوثًا أكبر”.
وكل هذا، وغيره، يتسبب في نسبة كبيرة من انبعاث “غازات الدفيئة””((Greenhouse Gases. مما تسبب في الاحتباس الحراري “الضار”. المعاكس للعملية الحيوية الطبيعية من حبس حرارة الأرض وعدم تبددها للحفاظ على بيئة مناسبة للحياة، وبدونها قد تتحول الأرض لكوكبٍ متجمد، غير صالح للسكن. و”غازات الدفيئة” الرئيسة هي: ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وغاز أكسيد النيتروز، ومركبات الكربون الهالوجيني (تم الاعتراف بالغازات الدفيئة الثلاثة الأخيرة منذ عام 1970). وعالميًّا.. يأتي نحو ربع كمية توليد الكهرباء من طاقة الرياح والطاقة الشمسية ومصادر متجددة أخرى ينبعث منها القليل من غازات الدفيئة. وسيكون التحول أكثر إلى مصادر الطاقة المتجددة تخفيفًا كبيرًا من عبء “الاحتباس الحراري”. ويحمل كوكبنا ما يكفي من الألمونيوم والفولاذ إلخ المطلوب لبنية تحتية (الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح) لتوليد طاقة بديلة.
وسائل النقل
تعمل معظم وسائل النقل (السيارات والدراجات النارية والشاحنات والسفن والطائرات والجرارات والمعدات الزراعية، وقوارب الصيد إلخ) بالوقود الأحفوري، مما يجعلها مساهمًا رئيسًا (نحو 20 % من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية المرتبطة بالطاقة) في انبعاثات غازات الدفيئة. وتمثل مركبات الطرق الجزء الأكبر من احتراق المنتجات البترولية، كالبنزين والسولار. والانبعاثات المرورية هي المصدر الأساس لأكاسيد النيتروجين. إن التحول المُكثف لاستعمال وسائل نقل تعمل بالكهرباء والوقود الحيوي Bio-gas والغاز الطبيعي كفيل بسد هذه الفجوة الكبري في تغير المناخ العالمي.
الصناعات، ونفاياتها
الحجم العام للسلع والخدمات يتضاعف في البلدان المتطورة صناعيًّا كل 15 سنة. إن مركبات الكربون الهالوجيني (يشمل مركبات الكربون الكلورية فلورية CFCs، ومركبات الكربون الهيدروكلورية فلورية HCFCs، ومركبات الكربون الهيدروفلورية HFCs) منخفضة التركيز في الطبيعة والغلاف الجوي. لكنها قوية في امتصاص الحرارة وحبسها (أكثر تأثيرًا بـ 10000 مرة من تأثير ثاني أكسيد الكربون). ويتم إنتاج هذه المُركّبَات على نطاق واسع للاستخدامات الصناعية كمبردات ودوافع ضبابية وعزل ومذيبات تنظيف. وتوظف معظم الطاقة الكهربائية المتولدة من حرق الوقود الأحفوري في الصناعة ومنها الصناعات التحويلية (كثافة الصناعات التعدينية، والحديد والصلب، وصناعة الأسمنت، والإلكترونيات، والأسمدة، والبلاستيك إلخ). ويسهم تصنيع الأسمنت في انبعاث حوالي 5% من غاز ثاني أكسيد الكربون. وذلك أثناء مرحلة تسخين كربونات الكالسيوم، حيث ينتج منها غاز ثاني أكسيد الكربون والجير. وينتج حوالي 900 كغم من غاز ثاني أكسيد الكربون عند إنتاج 1,000 كغم من الأسمنت.
وبعض المواد التصنيعية، كالبلاستيك، مصنوعة من خامات مصدرها الوقود الأحفوري. إن تتنوع المواد البلاستيكية، وتعقد تركيبها الكيميائي، ومخلفاتها الصلبة والغازية في ازدياد وتراكم هائل، وبالتالي تزاد مشكلتها وتحللها والتخلص منها، فهي غير قابلة للذوبان أو التحلل، ولا يمكن التخلص منها بسهولة، مما له كبير الأثر على الصحة العامة والبيئة. ومن الأفضل إنتاج أوعية بمقاسات محددة قابلة للاستعمال المتكرر حيث إن إعادة استخدام المواد البلاستيكية وعلى الأخص نفايات المواد التركيبية البلاستيكية سيئة السمعة مسألة صعبة. كما أن زيادة الميكنة الصناعية المكثفة للوفاء بالإنتاج المتعاظم Mass production، وتطور مواد تعبئة وتغليف المنتجات، وتراكم مكبّات ومدافن النفايات الصناعية (الصلبة أو السائلة أو الغازية) من انبعاثات غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان. كما تمر عمليات التصنيع الغذائي بمراحل: الإنتاج، والتخزين، والمُعالجة، والنقل، مما يسهم في زيادة الغازات المنبعثة.
تدمير الغابات
يمتلك كوكبنا رئتين اثنتين: البحار والغابات، وتمتصان غاز ثاني أكسيد الكربون. لكن يتم تلويث البحار عبر: تسرب النفط من الناقلات العملاقة، وإلقاء المخلفات (الصناعية والزراعية والبشرية) بها، وزيادة حموضتها، والصيد الجائز، وتغير التنوع الإحيائي. أما الغابات (من أشهرها: غابات الأمازون الاستوائية، وغابات “ميومبو” بوسط أفريقيا، و”غابات تايغا الشمالية”) فهي المستهلك الأول لغاز ثاني أكسيد الكربون “بنك كربون”. فالهكتار من أشجار الغابات يمتص نحو 1000 كيلوجرام/ يوم من الغاز، بينما ينبعث منه 730 كيلوجرام أكسجين. وتختزن الغابات العالمية 662 مليار طن من الكربون (أكثر من نصف مخزون الكربون العالمي في التربة والنباتات). لكن “رئة العالم في خطر” فمساحة الغابات تتقلص بمعدل 10 مليون هكتار/ سنويًّا. وإزالة الغابات الاستوائية خلال الفترة ما بين 2015-2017 م أدّى لزيادة غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو 4.8 مليار طن سنويًّا.
ويعد “الاستغلال القسري” للطبيعة عبر قطع أشجار الغابات من أهم عوامل تراجع مساحتها في حوض الأمازون (من أجل مشاريع السدود والطاقة). وفي ماليزيا وإندونيسيا (لزراعة أشجار النخيل الزيتي لإنتاج النوتيلا، والشوكولاتة، والزبدة النباتية)، وفي مجمل دول العالم (صناعة الأثاث والورق والزراعة والرعي وتمهيد الطرق والسكن العشوائي). وتعد إزالة وحرائق الغابات مسؤولة عما يقارب ربع انبعاثات غازات أول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكاسيد النيتروجين. وتغير عملية إزالة الغطاء النباتي من “وضاءة” الأرض، فتزيد كمية الأشعة الممتصة، وتقل كمية المنعكسة منه. لم يعد الحفاظ على الغابات “ترفا بيئيًا” بل ضرورة حياتية مصيرية. وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة ـ منذ عام 2012ـ يوم 21 مارس/ سنويًّا “يومًا عالميًّا للغابات”.
الزحف العمراني
يُسبّب نمط الزحف العمراني وهجرة الناس من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية تغيّرًا في المناخ بشكل كبير؛ فالاكتظاظ السكاني يُسبّب زيادة التلوث، وسوء الصرف الصحي، كما أنّ التوسع الحضاري يُعدّ سببًا في قطع الغابات، والبناء فوق الأراضي الزراعية، وزيادة الجفاف والتصحر مما ينعكس سلبًا على المناخ.
الأنشطة الزراعية والحيوانية
مع أن تركيز الميثان في الغلاف الجوي أقل بكثير من تركيز ثاني أكسيد الكربون. لكن له تأثير أقوى 25 مرة ضعف ثاني أكسيد الكربون في حبس الحرارة على المدى الطويل. وينتج زيادة تركيز غاز الميثان في الغلاف الجوي من التحلل المُكثف للغطاء النباتي في الأراضي الرطبة منخفضة الأكسجين. وكذلك عمليات زراعة المحاصيل المُكثفة، والري بالغمر في حقول الأرز، وتربية الماشية، وحرق النفايات الزراعية (قش القمح) وتحلل المواد العضوية في مدافن النفايات. كما تطلق بكتريا تربة الأرض والمحيطات.. غاز أكسيد النيتروز N2O. والمصدر الرئيس لًه: زرع التربة، واستخدام الأسمدة النيتروجينية.
كما أن صناعة الماشية والدواجن (الأبقار، والدجاج، والخنازير) والحيوانات المجترة البرية والحيوانات العاشبة الصغيرة وأعلافها جميعًا مسؤولة عن 20% من انبعاثات غازات الدفيئة في العالم. حيث تحتاج تربية الحيوانات إلى إزالة الغابات لاستخدام تلك الأراضي كمراعٍ للماشية (حصل في غابات الأمازون). وأثناء عملية الاجترار في الحيوانات المجترة (الأبقار والجاموس والأبل والأغنام والماعز) يخرج في زفيرها غاز الميثان (يدوم تأثيره في الجو 27 مرة ضعف تأثير غاز ثاني أكسيد الكربون). وعبر الصناعة الحيوانية يتم انتاج نحو 65% من غاز أكسيد النيتروز، حيث تبلغ قدرة هذا الغاز على احتباس الحرارة نحو 300 مرة ضعف ثاني أكسيد الكربون خلال مدّة تصل إلى 100 عام. ويتنامى إنشاء مزارع داخلية وعمودية ذكية وكثيفة وتجارية وصديقة للبيئة. وتدعم التقنيات الذكية: توقيت الزراعة المثالية، مراقبة صحة المحاصيل، وتشخيص أمراضها، وتحديد علاجاتها، وكيفية وضع التسميد بكميات أقل، والتوقّع المبكر لفترات الجفاف، وترشيد استعمال المياه، مع الحفاظ على منسوب المياه الجوفية.
الاستهلاك المُفرط
زيادة الطلب على الطعام، والمأوى، واللباس، والمنتجات الصناعية والغذائية والترفيهية، يزيد من عدد المصانع وما يلزمها، مما يساهم في ارتفاع نسبة انبعاث غازات الدفيئة. كما تكرس “العزف العولمي الاقتصادي” على أوتار الإيحاء والتقليد، والدعايات التسويقية لتسريع تغيير السلوكيات الاستهلاكية والأذواق الشخصية والأنماط الحياتية من أجل مضاعفة الأرباح المالية، وفق شعار “أنا أستهلك إذن أنا موجود”. وكل فرد في المجتمعات الغنية يخلف سنويًّا حوالي 30 طنًّا من النفايات. يعاد استهلاك نحو 1-1.5 % منها فقط. وفي بلد كألمانيا يتم سنويًّا طرح نحو 230 مليون طن من القمامة والنفايات المنزلية (الورقية، والزجاجية، والعضوية، والخردة، والمواد البلاستيكية إلخ). ونصيب الفرد من مخلفات القمامة نحو 239 كجم منها فقط. أما الكمية المستغلة منها ثانية فتقدر بنحو 57 كجم. كل ذلك أدى إلي الإفراط في إهدار الطاقة في المنازل، والإسراف في استهلاك/ تغيير البضائع كالملابس والإلكترونيات والمنتجات البلاستيكية، وتعبئة المخازن والمبردات بما يكفي لشهور أو سنوات، وكميات الطعام المُهدرة، واستهلاك المجتمعات الغربية نحو 70% من إجمالي الغذاء في العالم: “الأكثر ثراء أكثر تلويثًا للبيئة”، و”أغنى واحد بالمائة من سكان العالم يتسبب في انبعاثات غازات الدفيئة أكثر مما يتسبب به أفقر 50 بالمائة من سكان العالم (محمود المراغي: أرقام تصنع العالم، كتاب العربي العدد: 32، 15 أبريل 1998م، الكويت). كل ذلك يساهم في انبعاثات غازات الدفيئة.
في الختام: إن كوكبنا في حاجة ماسة إلى خفض الغازات الدفيئة بنسبة 45٪ بحلول عام 2030 للوصول إلى “الحياد الكربوني” بحلول منتصف القرن. وذلك عبر التقليل من استخراج الوقود الأحفوري، وإيجاد مصادر طاقة بديلة ومتجددة، والتقليل من استعمال مركبات النقل ذات محركات الوقود الأحفوري، وإعادة التدوير، وترشيد مكيفات الهواء، واستخدام المصابيح والأجهزة الموفرة للطاقة، وإطفاء الأجهزة غير المستخدمة، ونشر عدادات الكهرباء الذكية لجمع ومراقبة وتحليل وتحسين طرق ترشيد الطاقة، وتتبّع مصادر التلوث، وزراعة الأشجار، وترشيد الاستهلاك المفرط.. كما يستلزم الأمر بذل جهود شاملة، ووضع حلول ـ عاجلة وعادلة وناجعة، والوفاء بتوصيات “اتفاق باريس”، وتقديم “تنازلات” دولية متبادلةـ للمشكلات المتنامية، وإعادة اللحمة بيننا وبين الكون، ونشر الوعي بالممارسات السليمة التي تحمينا وتحمي كوكبنا مستقبلاً. وإذا فشل هذا المسار ـ بارتفاع درجة حرارة الأرض خمس درجات مئوية عام 2100، ستحدث آثار كونية كارثية ومدمرة. ولا شك أن النشاط البشري والمناخ متشابكان، وأن تغير المناخ هو “صنيعة بشريه وتغول بشري على البيئة”، تسبب في اضطرابات مناخية وبيئية وأضرار صحية، ونفسية، واجتماعية، وإنسانية.