هناك محوران تكوينيان للشخصية الإنسانية التي هي لبنة المجتمع وأساسه:
المحور الأول:
هو صناعة الإنسان وتكوين شخصيته لتربية وتزكية نفسه وإصلاحها، لتكون من المفلحين السعداء في الدارين كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس:9-10)، ولا يتم ذلك البناء والتكوين وتلك التزكية والإصلاح إلا بترسيخ العقيدة الربانية في العقل والروح وأعماق النفس الإنسانية فلا يكون إيمانًا سطحيًّا ولما يدخل ويستقر في القلب بعد، كما قال تعالى: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الحجرات:14)، ثم بتطبيق المنهج الرباني بالانطلاق في العمل الصالح والاستقامة عليه وسد وترقيع الخلل بالتوبة والاستغفار فلا خروج من وصف المتقين ودائرتهم رغم الوقوع في الخطأ الذي ركب فينا جميعًا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف:201).
فسرعة التذكر والمبادرة بالتوبة دليل على بصيرتهم التي كانت سببًا في أنهم لم يحرموا صفة التقوى رغم ما مسهم من الشيطان الرجيم
إذن فترسيخ الإيمان وتطبيق المنهج الرباني هما عنصرا تكوين الإنسان السوي السعيد المفلح في الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:97).
المحور الثاني:
هو تكوين وتأهيل الإنسان للمشاركة في إصلاح وتزكية مجتمعه
أولاً: بما يتطلب ذلك من إعداد وبناء يتم التأثير الاجتماعي بالوسائل المتميزة والقدوة الحسنة وحسن الخلق والسعي لترك أثر طيب مبارك بلسان الحال والمقال والأعمال الإيجابية المباركة المتعدية النفع قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ (يس:12)، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب:39)، وقال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (رواه مسلم).
ثانيًا: بتعويد النفس على التخلق بالصبر والمصابرة بعد البلاغ والتعليم والزكية والسعي للإصلاح والمحافظة على وحدة الأمة وترابطها وفق قيم الحق والخير والجمال وعدم اليأس أو الإحباط أو الانهزام النفسي فإنما العلم بالتعلم وإنم الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر:10).
وما أجمل ما ذكره الله تعالى عن لقمان الحكيم لابنه وهو يربيه ويزكيه ووصيته له: ﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ، وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ، وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ، يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ، يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ، وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ﴾ (لقمان: 12-19).
ولقد بينت سورة العصر واشتملت على هذين المحورين لتحقيق الفلاح وتجنب الخسران وحصول سعادة الدارين فقد أقسم الله تبارك وتعالى بالعصر على أن كل الناس في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهذا هو المحور الأول، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وهذا هو المحور الثاني، ولذلك قال الإمام العظيم الشافعي رحمه الله عن سورة العصر: والله لو ما أنزل الله إلا هذه السورة لكفت الناس.
كيفية تحقيق هذين المحورين:
إذا نظرنا نظرة علمية عملية نجد أهم وأفضل ما يعين على ذلك أمرين اثنين وهما الدراسة والخدمة، وإليك أخي القارئ الكريم بيان ذلك وتوضيحه:
الأمر الأول: وهو الدراسة والمقصود التعلم بكل وسائله المتاحة للمساعدة على تنمية الإيمان وترسيخه في عمق النفس البشرية فينبض القلب وتحيا الروح التي تمثل أكبر دافع ومحرك لتطبيبق منهج الله والاستقامة عليه ، وتنشئ في النفس عينًا ثالثة وتقويها وهي عين القلب التي يسميها أهل الله بالبصيرة والتي من شأنها أن تساعد الإنسان على أن يرى ما لا يراه إلا أهل الفراسة الذين يرَون بنور الله فيتميز إدراكهم بوعي دقيق وفهم عميق واتصال وثيق بالله العظيم فيتكون بذلك الجناح الأول للوصول إلى السعادة والنجاح الممتدان إلى الآخرة الباقية، ولا يتوقفان بانتهاء الدنيا الفانية.
الأمر الثاني: وهو الخدمة بالتطبيق والتنفيذ والمقصود بها السعي الحثيث بكل همة ونشاط وذكاء وإبداع وبكل نقاء وصفاء وصدق وإخلاص وتواضع وافتقار إلى الله ورؤية المن والفضل والتوفيق لخدمة الدين مع مراعاة الفروق الفردية بين أهل الخدمة فكل ميسر لما خلق له ثم التعاون والتكامل والترابط مع الخادمين ليحصل النفع العام المبارك وتعم السعادة على الجميع ويحصل النجاح والفلاح.
ذلك لأن الدراسة والخدمة يطلبان معًا فالتوقف عند الدرسة وطلب العلم فقط هو توقف في منتصف الطريق والوصول لا يكون إلا بالاثنين معًا وحصول ذلك يكون بالدعاء والتوكل والذكر والاستغفار مع الممارسة والتعويد والتدريب والتمرين والموفق من وفقه الله بفضله ورحمته، وأهل العلم والفكر الذين يعلمون غيرهم أو يقدمون أفكارًا أو رؤىً تخطيطية مستقبلية مصحوبة بعاطفة صادقة إنما يقدمون بصيرة وهذا شئ معتبر قيم يحتاج إلى همة أهل العمل والتنفيذ والخدمة الذين تحملوا المسئولية بتفانٍ وتواضع وربانية حتى يتم -بفضل الله ورحمته- الوصول إلى السعادة والنجاح وفق سنن الله تعالى الربانية في الخلق جميعًا.
لذلك كانت الخدمة هي الجناح الثاني المكمل للدراسة النافعة الدافعة الرافعة يتحقق به تطبيق العلم وتوظيفه لرفعة وسعادة وعزة الأمة وطهارتها وتقدمها وحضارتها ونجاحها وخيريتها ولذلك علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من معوقات السعادة والنجاح فيما رواه الإمام البخاري عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: «كنت أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول.اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَال”، وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن “لو” تفتح عمل الشيطان)، وصح عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ) (رواه الحاكم في المستدرك).
ولله در المتنبي:
أَينَ أَزمَعتَ أَيُّهَذا الهُمامُ | نَحنُ نَبتُ الرُبى وَأَنتَ الغَمامُ |
نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـكَ | وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ |
في سَبيلِ العُلى قِتالُكَ وَالسِلـمُ | وَهَذا المَقامُ وَالإِجذامُ |
لَيتَ أَنّا إِذا اِرتَحَلتَ لَكَ الخَيـلُ | وَأَنّا إِذا نَزَلتَ الخِيامُ |
كُلَّ يَومٍ لَكَ اِحتِمالٌ جَديدُ | وَمَسيرٌ لِلمَجدِ فيهِ مُقامُ |
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِبارًا | تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ |
وَكَذا تَطلُعُ البُدورُ عَلَينا | وَكَذا تَقلَقُ البُحورُ العِظامُ |
وَلَنا عادَةُ الجَميلِ مِنَ الصَبــرِ | لَوَ أَنّا سِوى نَواكَ نُسامُ |
كُلُّ عَيشٍ ما لَم تُطَبهُ حِمامٌ | كُلُّ شَمسٍ ما لَم تَكُنها ظَلامُ |
أَزِلِ الوَحشَةَ الَّتي عِندَنا يا | مَن بِهِ يَأنَسُ الخَميسُ اللُهامُ |
وَالَّذي يَشهَدُ الوَغى ساكِنَ القَلـبِ ـ | كَأَنَّ القِتالَ فيها ذِمامُ |
وَالَّذي يَضرِبُ الكَتائِبَ حَتّى | تَتَلاقى الفِهاقُ وَالأَقدامُ |
وَإِذا حَلَّ ساعَةً بِمَكانٍ | فَأَذاهُ عَلى الزَمانِ حَرامُ |
وَالَّذي تُنبِتُ البِلادُ سُرورٌ | وَالَّذي تَمطُرُ السَحابُ مُدامُ |
كُلَّما قيلَ قَد تَناهى أَرانا | كَرَمًا ما اِهتَدَت إِلَيهِ الكِرامُ |
وَكِفاحًا تَكِعُّ عَنهُ الأَعادي | وَاِرتِياحًا يَحارُ فيهِ الأَنامُ |
إِنَّما هَيبَةُ المُؤَمَّلِ سَيفِ الــدَولَةِ | المَلكِ في القُلوبِ حُسامُ |
فَكَثيرٌ مِنَ الشُجاعِ التَوَقّي | وَكَثيرٌ مِنَ البَليغِ السَلامُ |
واختم هذه الكلمات بكلام الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة:
قال رحمه الله: السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيرهُ إلا بقوتين:
1– القوة العلمية: يبصر مواضع السلوك ومنازل الطريق فيقصدها سائرًا فيها ويجتنب أسباب الهلاك
2-القوة العملية: يسير حقيقة وهو أن يشمر مسافرًا في الطريق قاطعًا منازلها فكلما قطع منزلة استعد لقطع أخرى وهكذا.. ويقول لنفسه: وإنما الأمر صبر ساعة فإن الدنيا كلها كساعة واحدة من الآخرة..
وذكر مثالاً تقريبيًّا للقوتين:
كحديقة لها باب وفيها من أنواع الزهور وأنواع السرورما يعجز عنه الوصف ويحار دونه الطرف، فصاحب القوة العملية يطلبها مجدًا ولكنه لا يبصر الباب، فهو يحوم حول البستان ويكون في عناء من سيره وطلبه ولا يجد لذّة الدخول في الحديقة لأنه ليس عنده القوة العلمية.
وذكر أقسام الناس في القوتين:
أ) من له قوة علمية وعملية.
ب) من ليس له قوة علمية ولا قوة عملية.
ج) من له قوة علمية وليس له قوة عملية.
د) من له قوة عملية وليس له قوة علمية.
وأخيرًا فنحن نحتاج إلى البصيرة التي تتحقق بالدراسة والتعلم ونحتاج إلى ترك أثر طيب مبارك وإلى الخدمة التي لا تحصل إلا بالهمة التي تتكون بالتواضع والصدق، وإذا اكتمل لنا جناحا الدراسة والخدمة نصل إلى السعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.