الطفل كالورقة بيضاء، فدَوِّن فيها كلّ شيءٍ، ولكن احرص على أن يكون ما تدوّنه، في سبيل مرضاة الله تعالى؛ حتى تصبح تلك المدوّنات نقوشًا تكبُرها الملائكة، وترجُحُ بها كفة الميزان يوم الحساب لعظم قدرها وقيمتها.. نقوشًا يُبتغى بها مرضاة الله عز وجل، والاقتداء بنهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تروي امرأة قصة عجيبة، تقول: كنت في زيارة لإحدى صديقاتي في بيتها، وأتت طفلتها إلينا، لم تكمل الطفلة عامها الثالث.. تتلعثم بالحروف.. ووقفت خلف أمها تشد فستانها قائلة: أمي لم نبنِ اليوم قصرًا في الجنة!
اعتقدتُ أنني سمعتها بالخطإ.
إلا أن الفتاة كررَتْها.. ثم وقف إخوتها إلى جانبها وأخذوا يرددون ما قالته أختهم الصغيرة.
رأت الأم الفضول في عيني فابتسمَت، وقالت لي: أتحبين أن تشاهدي كيف نبني قصرًا في الجنة أنا وأبنائي؟
فوقفتُ أراقب ما سيفعلونه.
جلسَت الأم وجلس أولادها حولها.. أعمارهم تتراوح ما بين العاشرة إلى الثالثة.. جلسوا جميعهم مستعدين ومتحمسين.
بدأت الأم وبدؤوا معها في قراءة سورة الإخلاص “قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.. ولم يكن له كفوًا أحد”.
ثم كرروها عشر مرات.
عندما انتهوا صرخوا بصوت واحد فرحين: “الحمد لله بنينا قصرًا في الجنة!”.
سألَتْهم الأم: وماذا تريدون أن تضعوا في هذا القصر؟
ردّ الأطفال نريد كنوزًا يا أمي.. فبدؤوا يرددون “لا حول ولا قوة إلا بالله”.. “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
ثم عادت فسألتهم:
من منكم يريد أن يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويشرب من يده شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.
فشرعوا جميعهم يقولون: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد.. كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.. وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد.. كما باركت على سيدنا إبراهيم وعـلى آل سيدنا إبراهــيم إنك حميد مجيد.
تابعوا بعدها التسبيح والتكبير والتهليل.. ثم انفضّ كلٌّ إلى عمله.. فمنهم من تابع مذاكرة دروسه.. ومنهم من عاد إلى مكعباته يعيد بناءها.
فقلت لها: كيف فعلتِ ذلك؟
قالت: أبنائي يحبون جلوسي بينهم ويفرحون عندما أجمعهم وأجلس وسطهم فأحببت استغلال ذلك بأن أعلِّمـهم وأعوِّدهم على ذكر الله.
فأحببت أن أنقل لهم هذه الأحاديث، وأعلِّمها لهم بطريقة يمكن لعقلهم الصغير أن يفهمها.. فهم يرون القصور في برامج الأطفال ويتمنون أن يسكنوها.. ويشاهدون أبطال الكرتون وهم يتصارعون للحصول على الكنز.
هذه الأم ستثاب عندما يردد أحد أبنائها هذه الأذكار حتى بعد مماتها.. وكأنها صدقة جارية.. وهي أفضل استثمار لها في الدنيا والآخرة. فما يجب على الأبوين هو أن ينقشا في أرواح أبنائهما هذه النقوش في موعدها وعلى نحو لا يندثر أو ينمحي.
إن كل من يعول طفلاً، عليه أن يخصّص جزءًا من حياته اليومية لتربية طفله وتعليمه.
إن الأسرة هي أول محضن وأول مدرسة في التربية والتعليم، فعلى الأبوين أن يرجِّحا الوقت الذي يخصصانه لتربية طفلهما وتعليمه على أورادهما وأذكارهما ووظائفهما الشخصية.. فتربية الطفل تفضُل العديدَ من الوظائف الشخصية، بل إن تعريف الطفل بالله، وغرسَ فكرة الإيمان في قلبه حسبَ عمره ومستوى ثقافته، يفضل الفيوضات المادية والمعنوية.. ولذلك فإذا ما سافرتم لزيارة بيت الله الحرام، وأهملتم أطفالكم وتركتموهم في البيت للتعاسة والشقاء، فستنادي عليكم الوظيفة من خلفكم قائلة لكم: إلى أين أنتم ذاهبون وتتركون الوظيفة الأهم والأشرف في حياتكم؟!
ويجب على الأب أن يعلّم طفله الدينَ والتديّن والقراءة والكتابة وتلاوة القرآن، حتى السباحة والرماية وركوب الخيل، كما عليه أن يعلّمه كل الرياضات المهمة في مجالها، لا التي تقوّي من ساعديه وعضلاته فقط، بل النافعة لصحته وحياته، والتي يعمّر بها مستقبله.
قال صلى الله عليه وسلم: “علموا أبناءكم السباحة والرماية، ونعمَ لَهْوُ المؤمنةِ في بيتِها المِغزل”.
وإذا دققنا النظر في هذا الحديث وما شابهه من أحاديث فسنجد أن القصد هو:
– أن نعلّمهم الأشياء المفيدة في الحياة.
– أن نبرمجهم على العمل والإنتاج من الصغر.
– أن ننشئَ مجتمعًا منتجًا لا مستهلكًا فقط.
– أن نحبب إليهم اللهو النافع بدلاً من اللهو الذي لا نفع منه.
– أن نحبب إليهم المهنة.
– أن نفتح الطريق أمامهم لإفادة المجتمع.
– أن نفتح آفاقهم أمام التميز والإبداع.
وأفضل طرائق التعليم هي المشاهدة، وأنجح وسائل التربية هي المعايشة، وأكثر الأساليب تأثيرًا هو التطبيق.. يعني لو أردنا أن نقيس مدى الفرق في التأثير بين النظري والتطبيقي فلنأخذ المثالين التاليين:
طفل يخضع لدرس شفهي لمدة ساعة كاملة ويُشرَح له فيه أهمية الصدق وجمال الصدق وفضل الصدق وهو يرى أبويه كاذبَين في معاملاتهما دائمًا.
وطفل آخر يرى أبويه صادقَين دائمًا ولم يتلقى أي نصيحة أو موعظة أو توجيه حول أهميّة الصدق أو فضائله. ستجد أن النموذج الثاني الذي تلقى الصدق بالتطبيق والمشاهدة والمعايشة، أكثر التزامًا بالصدق من النموذج الأوّل الذي لم تتجاوز معرفتُه بالصدق حدودَ النظرية.
إذن، فإن الطفل ستكون أفعالُه كأفعالِ أبويه، ومهما نصحاه بفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق ولم يتحلّوا بها، فلن يتحلى ابنهم بها طالما لم يجدها مجسّدة أمامه.
يُحكى أن عائلةً مكوّنةً من زوجٍ وزوجةٍ وطفلٍ في السابعة من عمره، ويعيش معهم في ذات البيت أبو الزوج الذي هو بطبيعة الحال جدٌّ للطفل، وكان هذا الجدُّ عجوزًا قد أكل المرضُ قوته وأقعده في الفراش، لا يستطيع أن يخدم نفسه ولا أن يقضي حاجته بنفسه، وكان ابنه وزوجة ابنه يتعاونان في خدمته ويساعدانه في قضاء حاجته وتنظيف نفسه على مرأى ومسمع من هذا الطفل الصغير.
ومع مرور الأيام ضاقت الزوجةُ ذرعًا من والد زوجها، وصارت تطلب من زوجها التخلص من أعباء خدمة أبيه، وأن يتخلى الابن عن أبيه ويتفرّغ للاستمتاع بأيامه وشبابه وسهراته ووقته.. ومع أن الزوج لم يُصغِ إليها في البداية، إلا أنها لم تتوقف عن اختلاق المشكلات والتأفف من خدمة أبيه، إلى أن جاءت له بحل نالَ إعجابه وحاز على موافقته.
الحل هو أن يأخذ الزوجُ أباه إلى دار العجزة، فهناك هم سيهتمون بالعجزة وكبار السن إلى أن يموتوا.
وفعلاً بدأ الرجل بتنفيذ الخطة التي اتفق عليها مع زوجته، وحملَ أباه وهو مضطجع على فراشه لا يستطيع أن يتكلّم أو يتحرك، حمله بفراشِه ولِحافِه ووسادتِه، وذهب به إلى دار العجزة والمسنّين، وقد رافقه في هذه الرحلة طفلُه الصغير الذي يرى ويراقب ما يحدث.
وبعد أن أوصل الرجلُ أباه إلى مكانه المخصص في دار العجزة وأراد أن يتركه ويعود، استوقفه ابنه قائلاً له: يا أبتِ لقد نسيتَ الفراش والغطاء والوسادة مع جدي، ويجب علينا أن نأخذهم ونعود بهم معنا إلى البيت.. فقال الأب لابنه: لا مشكلة، لنترك لجدك فراشه، ولا يليق بنا أن نأخذه منه.. لكن الابن كرر الطلب مرة أخرى وألحّ على أبيه؛ مما جعل الأب يسأل طفله: ولماذا نأخذهم يا بني؟ وماذا نفعل بهم؟ لدينا أغطية وفرش ووسائد أخرى.
فردّ الابن على أبيه بكلّ براءةٍ قائلاً: “عندما أكبر يا أبتِ وأصبح مسؤولاً عن زوجة وأبناء، وستكون أنت عجوزًا مريضًا على حافة القبر، سآتي بك إلى هذه الدار تمامًا كما تفعل أنتَ بأبيك الآن، وأريد أن آخذ الفراش من جدي الآن حتى أحملك به ذاته كما حملت أنتَ أباك”. وهنا أسْقِطَ بيد الأب وفهم ما يجب عليه أن يفهمه، وعاد بأبيه إلى بيته، وأدّب زوجتَه ولم يعد يصغي إليها.
ثقافة الاختلاف
لا يخلو بيت من البيوت من الخلافات والمشاكل على اختلاف أنواعها وأسبابها وأشكالها، وعلى الزوجين أن يحلاّ مشاكلهما الخاصة خلف أسوار غرفة الزوجية ودونما أن يُشعرا أولادهما بالأزمات وحجمها وآثارها الثقيلة. ولكن هذا لا يعني ألا يرى الأبناء أي نوع من أنواع الخلاف أو الاختلاف بين الأبوين، فلا مانع من أن يُريَ الأبوان خلافهما الطبيعي والمعقول والمنطقي لأولادهما ليتعلّم الأولاد من خلال ذلك “ثقافة الاختلاف الراقية”.
لا مانع من إظهار الخلاف الراقي وليرَ الأولاد كيف تُدارُ النقاشات البناءة بعيدًا عن الصراخ ورفع الصوت والشتيمة والعنف والضرب.
من حقّهم علينا أن نعلّمهم فن إدارة الأزمات، ومن الجيد إدارة الأزمة أمامهم كما هي إدارةً منطقية وعقلانية وبعيدة عن ذم أحد الطرفين للآخر، أو رفضه أو محاولة تكذيبه أو إحراجه أو إيقاعه في فخّ الخطإ.
ليشاهد الأولاد أباهم أو أمهم وهي تدير الأزمة والخلاف والنقاش، وليتعلّموا منهما أسس التواصل الصحيحة وقنوات الإدارة البناءة وسبل الحلول الإيجابية.
أثر خلافات الزوجين على سلوكيات الأبناء
أثر خلافات الزوجين على سلوكيات الأبناء وصحتهم النفسية أمر مهم للغاية. لكن إذا كانت الخلافات تُدار بطريقة سلبية ويتخلّلها العنف، فهذه كارثة كبرى وستتسبب بعقدٍ نفسية في داخل الطفل.
لا ينبغي لنا أن نسمح لأعين أطفالنا أن ترى مشاهد الضرب والعنف بين أبويهما، ولا أن يبقى في ذاكرتهما شيءٌ من التكذيب والصراخ والشتائم بين الأبوين.
لا يمكن وصف كمية الرعب والخوف التي تبقى في داخل الطفل وهو يعيش في ذلك الواقع السلبي، إنه يعيش حالة هلعٍ دائمة متجدّدة، ومع ظهور أي نوع من أنواع الخلاف بين أبويه يزداد الهلع والخوف لديه من فقدان أحدهما ويهجس في داخله: هل يمكن أن أخسر أبي؟ هل يمكن أن أخسر أمي؟ كيف سينتهي هذا الخلاف بين أبويَّ؟ هل سيَضْربها؟ هل ستشتمه؟
الأطفال لا ينسون وسيتذكرون ويتسبّبُ الخلاف السيئ الذي يُدار بطريقة سلبية بعقدةٍ نفسية لهم.
من غير الصحيح ومن غير الصحّي والمنطقي تحدُّثُ أحد الزوجين عن الآخر بطريقة سلبية، بل علينا أن نعلّمهم احترام الآخر مهما اختلفنا معه.
والخطأ الأكبر أن نجعل الأولاد طرفًا في الضغط، أو جزءًا من الخلاف، ومحاولة أحد الزوجين استمالتهم إلى صفه ليضغط بهم على الآخر.
وأخيرًا يجب علينا كآباء وأمهات أن نعلّم الأولاد أن العمود الفقري للعلاقة بين الشريكين هي “الاحترام المتبادَل”، فهذه ليست رحلة مؤلفة من ساعات أو أيام أو أشهر، وليست شركة تُمضى فيها العقود لمدة سنة أو سنتين أو ثلاثة أو خمسة، وإنما هي “رحلة عُمْر”.