التطور غير المسبوق في تقنيات الهواتف الذكية، وتعدد وظائفها وتطبيقاتها واستعمالاتها، نقلها من مجرد وسائل اتصال عادية إلى امتدادات للشخصية الإنسانية، مما ساهم في تكريس الاعتماد عليها والتعلق الشديد بها، وتنامي رهاب جديد هو فقدان الهاتف المحمول، وقلق البعد عنه، أو “النوموفوبيا” (Nomophobia). وقد اختار قاموس “كامبريدج” مصطلح “نوموفوبيا” (Nomophobia) ككلمة أبرز لعام 2018، وعرفها بأنها “شعور بالخوف والقلق الشديد من مجرد التفكير بفقدان وعدم القدرة على استعمال الهاتف المحمول، أو انتهاء طاقة شحنه، أو التواجد خارج تغطية شبكة الاتصالات.. ودشن مصطلح “النوموفوبيا” عام 2008 عبر دراسة أجرتها منظمة You Gov البحثية، بتكليف من مكتب البريد البريطاني؛ لتقييم “حدة القلق” الذي يعاني منه مستخدمو الهواتف المحمولة.
وقد أثير سؤال: هل “النوموفوبيا” مرض، أم لا؟ فاعتبر كثير أنها ليست مرضًا، بل هي حالة تشبه “المتلازمة”، أو “مجموعة أعراض وسلوكيات”. وأكد آخرون بأنها “مرض ينتمي لفئة الاعتماد والإدمان ليس على الهاتف ذاته، بل بتطبيقاته المتزايدة، كالألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وبرامج الدردشة ..إلخ. وبإجراء استبيانات لمدى التعلق بالهاتف، يتبين الوعي بوجود المشكلة، ومن ثم حلها. وتشتمل الاستبيانات عن أسئلة مثل: منذ متى وأنت تستعمل الهاتف الذكي؟ هل تستطيع قضاء يوم كامل دونه؟ كم عدد الساعات التي تقضيها بصحبته يوميًّا؟ ما متوسط أيام استهلاكك لباقة الإنترنت؟ هل تشعر بالقلق إذا نفدت بطاريته أو لم تكن هناك تغطية لخدمة شبكة الاتصالات؟ هل يصيبك الهلع إذا لم تتمكن من العثور على هاتفك لفترة وجيزة؟ وبالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كثير، يتبين الفارق بين “الاستخدام المعتدل” للهاتف الذكي و”الإفراط في استعماله”، مما يسبب لصاحبه شعورًا بالخوف لفقده كما لو سيفقد عضوًا من أعضائه!
دراسات مؤشرات
تقوم دراسات “النوموفوبيا” على جمع بيانات المشاركين: الجنس، والعمر، والمستوى التعليمي، وأنماط استخدام الهاتف الذكي ..إلخ. كما تصمم مقاييس لتقييم الرهاب وارتباطه باضطرابات نفسية أخرى عبر عناصر محددة، كالقلق والتوتر الشديد والوسواس القهري والاكتئاب.. ومن ثم يتم التوصية ببرامج إرشادية لتخفيف مظاهر هذه الفوبيا. ففي دراسة لشركة “سكيوريتي انفوي” للخدمات الأمنية (نشرتها صحيفة الدايلي ميل)، ظهر أن أكثر من 13 مليون شخص بريطاني -يمثلون 66% من إجمالي مستخدمي الهواتف المحمولة- عندما ينعزلون عن هواتفهم فإنهم يعانون من قلق كقلق زيارة طبيب الأسنان. وتنتشر “النوموفوبيا” بين الشباب (18-24 عامًا)؛ وأفاد 77% منهم أنهم لا يستطيعون التواجد بعيدًا عن هواتفهم المحمولة لثوانٍ معدودة، وبلغت النسبة 68% فيمن أعمارهم (25-34 عامًا). وباتت النساء أكثر هوسًا بفقدان هواتفهن لاعتمادهن المتزايد عليه. واتضح أن الأشخاص يتفقدون هواتفهم المحمولة بمعدل 34 مرة يوميًّا، وأن 75% منهم لا يستغنون عن هواتفهم حتى عند دخولهم المراحيض.
وكانت “منظمة الصحة العالمية” (WHO) قد أصدرت تقريرًا عام 2015، بشأن التداعيات الصحية العامة جراء الاستخدام المفرط للهواتف الذكية وإدمان الإنترنت، ومنها الإصابة بالقلق والاكتئاب والضغط العصبي.
وفي بحث بدورية “تقارير تأثير الكومبيوترات على سلوك الإنسان” (Computers in Human Behavior Reports) (إصدار أغسطس-ديسمبر 2019)، أجري اختبار على 495 شابًّا؛ 18-24 عامًا 52% من الإناث والباقي من الذكور، 70% في المرحلة الثانوية و30% في المرحلة الجامعية، وتشكل العينة الشريحة الأكبر لمستهلكي الهاتف، حيث استعمل المشاركون الهاتف بمعدل 4-7 ساعات يوميًّا، وأمضوا أغلبها على مواقع التواصل الاجتماعي (47,1%)، وسماع الموسيقى (14,1%)، والألعاب الإلكترونية (13,5%)، ومطالعة الأخبار (10,9%)، ومتابعة المدونات (10,1%)، وتفقد البريد الإلكتروني (4,4%). وتبين وجود ارتباط إيجابي بين عدد ساعات الاستخدام وتطوير رهاب الابتعاد عن الهاتف، وارتباط سلبي بين مستوى التعليم والنوموفوبيا. في حين لا يوجد فروق بين الجنسين أو من حيث فارق العمر بين أفراد العينة.
وأوضح التقرير السنوي الرقمي في إندونيسيا (2019) أن عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في تزايد، إذ وصلوا إلى 150 مليون مستخدم، ويمتلك نحو 66% من السكان هاتفًا ذكيًّا معظمهم من الشباب. واحتلت إندونيسيا المرتبة الخامسة عالميًّا عام 2019 في استعمال الإنترنت (بمتوسط 8,5 ساعة/يوم على الإنترنت). وفي عام 2018 أُجريت دراسة إندونيسية على طلاب (15-18 عامًا)، واتضح أن 52% صنفوا من “مدمني” الهواتف النقالة ويعانون ضعف ضبط النفس تجاه أجهزتهم.
وفي ماليزيا، تظهر الإحصاءات أن 71% من الماليزيين (فوق 15 عامًا) يستخدمون الإنترنت، وما يقرب من 47% من الطلبة مدمنون للهواتف الذكية، ويقضي 30% من الطلبة الماليزيين ما يزيد على سبع ساعات يوميًّا في استخدام الهاتف، ويستعمله 45% منهم ما بين 4-6 ساعات يوميًّا. كما أن طلاب الجامعات الحكومية لديهم ارتباط بين إدمان الهواتف المحمولة والإصابة بالقلق والاكتئاب، إذ سجّل الطلبة ذوو الارتباط الوثيق بالهواتف المحمولة مستويات أعلى من القلق والاكتئاب. كما أن إدمان الهواتف المحمولة يؤدي بشكل مباشر إلى تراجع الأداء الدراسي والأكاديمي للطلاب.
ويشار إلى أن الفيليبينيين هم الأكثر نشاطًا على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي عالميًّا، إذ يقضون أكثر من 10 ساعات يوميًّا، وأن 62% من المراهقين بالمرحلة الثانوية يعاني إدمان الهواتف الذكية. ولقد ترك الأمر بصمته على أسلوب حياة الطلاب وتقديراتهم العلمية والصحة الروحية، إلى جانب العلاقات مع الآخرين. ووفقًا لمؤشرات “يونيسف” في الفيليبين، فإن الأطفال يحصلون على هواتفهم المحمولة في متوسط عمر 10سنوات وهي سن مبكرة نفسيًّا. وفي الصين يعتقد أكثر من 40% من الآباء الصينيين إدمان أبنائهم الهواتف، إذ يقضي أطفالهم (10-17عامًا) بالمتوسط أربع ساعات ونصف ساعة على الهواتف خلال كورونا، بزيادة ساعتين عما قبل الجائحة.
ومؤخرًا وعلى المستوى المصري، تمت (الأحد ٢٨ نوفمبر ٢٠٢١) مناقشة أطروحة دكتوراه رائدة في هذا المضمار لكريمة كاتب هذه السطور الباحثة “شيماء ناصر أحمد سنه”، في كلية الدراسات العليا للطفولة/قسم الدراسات النفسية للأطفال، جامعة عين شمس، تحت عنوان: “فاعلية برنامج لتخفيف النوموفوبيا لدى عينة من المراهقين المتفوقين عقليًّا”.
أسباب نوموفوبيا
• يلعب الخوف من العزلة والوحدة دورًا في تطور الرهاب، مما قد يرغب في إبقاء الهاتف قريبًا ودائمًا.
• يؤدي التعايش مع مشاعر القلق عمومًا لزيادة خطر الإصابة بالمشكلة.
• الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية قد تكون عاملاً محفزًا للنوموفوبيا.
• قد تلعب العوامل الوراثية دورًا في ذلك.
• يوجد ارتباط إيجابي بين النوموفوبيا واضطرابات القلق والعزلة الاجتماعية والوسواس القهري والاكتئاب والعدائية والشعور بالدونية والقدرة المنخفضة على التكيف الاجتماعي. وعلى الرغم من ارتباط النوموفوبيا بالاستخدام المفرط للهاتف المحمول، إلا أن الأشخاص الذين لديهم اضطرابات نفسية بالأساس، يميلون إلى تطوير هذا النوع من الرهاب أكثر من غيرهم.
ما أعراض الرهاب الجديد؟
• الإمساك بالهاتف منذ لحظة الاستيقاظ وحتى قبل النهوض من الفراش، وكثيرون ينامون أثناء استخدامه، مع عدم امتلاك القدرة على إطفائه خلال اليوم.
• عدم الانتقال لمكان آخر دون حمله، وعدم القدرة على التخلي عنه حتى أثناء دخول المرحاض.
• التأكد من شحن البطارية، وتفعيل باقة الإنترنت باستمرار.
• الشعور بالقلق والتوتر والتشتت أثناء العمل أو الدراسة، والفزع: “لقد تركت هاتفي في المنزل”. وربما وصل الأمر لشعور بعضهم بأعراض الصدمة.
• هوس تفقد الرسائل الإلكترونية والنصية والإيميلات وسجل المكالمات الفائتة، وإشعارات مواقع التواصل المختلفة، مثل الفيس بوك والواتس أب.. وتبادل الصور المخزونة فيه مع آخرين، مع وجود توقعات اجتماعية مرتفعة.
• إدمان الهواتف المحمولة يرتبط بالاندفاع والانشغال بالأشياء المادية وهوس الشراء.
• تفاعل الدماغ مع إشعارات الهاتف المتتالية يوميًّا يجعل مراكز المكافأة بالدماغ (تنتج الدوبامين) تنشط كنشاطها عند الأكل والشرب.
• يأخذ الهاتف وتطبيقاته المختلفة جل الأحاديث، كما يمتلك كثيرون أكثر من هاتف.
• متلازمة رنين الهاتف: سرعة تفقد الهاتف لمجرد سماع أي رنين.
• فقد القدرة على تطوير مهارات التواصل الاجتماعي الحقيقية. ولوحظ حدة قلق الآباء بسبب إدمان أولادهم لهواتفهم.
• آلام المعصمين والذارعين والكتفين، وتوترات الرقبة والظهر، والصداع.. ارتفاع معدل الأدرينالين بالدم مما يزيد من نبضات القلب وضغط الدم.
• إجهاد العين الرقمي، واضطرابات النوم، يؤثر إشعاع الجهاز سلبًا على العين، وتنبه مركز الوظائف الحيوية بالدماغ، فيظل الشخص مستيقظًا. ويترتب على بقائه مستيقظًا شعوره بالجوع والإفراط في الأكل.
• المزاج الاكتئابي وتدنِّي مستوى الثقة بالنفس، واحترام الذات، وتراجع الأداء الدراسي أو العمل.
كيف نعالج النوموفوبيا؟
• تعزيز نمط حياة صحي وإيجابي بين المراهقين والشباب، ووضع دليل استرشادي للأبناء للاعتدال بين وقت استعمال الهاتف ووقت الأنشطة الخارجية والإبداعية الأخرى.
• الحفاظ على علاقات أسرية واجتماعية قوية، والحصول على مستوى عالٍ من التعليم والتحصيل الدراسي يقي من النوموفوبيا. وألا ينشغل الإنسان بالنظر إلى الهاتف عند الحديث مع شخص أمامه.
• عمل رحلات طبيعية وأنشطة بدنية وثقافية، والاستمتاع بذلك بمعزل عن الهواتف.
• علاج التعرض، لتعلم مواجهة الخوف عبر التعرض التدريجي له.
• الابتعاد التدريجي: تدريب الشخص على التوقف عن النظر في الهاتف كل خمس دقائق، ثم زيادتها إلى عشر، ثم خمسة عشر دقيقة، ثم زيادة الفواصل الزمنية.
• ضبط الهاتف على الوضع الصامت، بحيث لا يكون الشخص منتبهًا له طوال الوقت، وكذلك وضعه في غرفة غير التي ينام فيها.
• تحديد ساعات تعرُّض الأطفال للهاتف (السن المناسبة لحصول الطفل على هاتف ما بين 12-14 عامًا)، منعًا لتعرضهم للمواقع الممنوعة، أو التنمر الذي يؤثر في تفكيرهم وتحصيلهم الدراسي.
• التأكد من مناسبة الألعاب الإلكترونية لسنّ الأطفال، ومنع الألعاب قبل إنجاز المهمات المطلوبة من الطفل.
• ابتكر طلاب إندونيسيون ساعة ذكية تكشف عن معدل الإبحار على الإنترنت، والتحذير حال وجود أي تأثير على الصحة.
• منعت الحكومة الصينية استخدام الهواتف المحمولة في المدارس، وحظر إحضارها إلا بموافقة مكتوبة من الوالدين. وفي عام 2018 وضعت خططًا لصناعة الألعاب الإلكترونية كي لا تسبب إدمانًا للأطفال على الهواتف.
• العلاج المعرفي والسلوكي يُحدث تحسنًا بعد عدة جلسات، ويساعد على تعلم إدارة الأفكار والمشاعر السلبية للنوموفوبيا.
وختامًا: في مدرسة الصوم نتعلم تربية الإرادة القوية التي لا تجعل من العادات -ومنها إدمان استعمال الهاتف النقال- إلفًا لا يمكن الانعتاق من ربقتها، كما أن الشخصية القوية الواثقة بنفسها قادرة على التعامل مع الهاتف المحمول بكل مغرياته كجزء من حياتها وليس كل حياتها.