مثلما يكون للصيدلي أو الكيميائي مختبره الذي يجري فيها تجاربه ويتأكد من مشاهداته وملاحظاته؛ حتى يمكنه صياغة ذلك بدقة في نظرياتٍ قد تفضي لمعادلات وقوانين ثابتة، فإن للحياة مختبرها الذي تصهر فيه الإنسان، وتصقله بالتجارب والخبرات، وتؤهله لما بعد ذلك من مسؤوليات وتحديات وطموحات.
والجامعة هي مختبر مهم من مختبرات الحياة ومعمل كبير من معاملها، التي يمكن للمرء فيها أن يعيد قراءة نفسه واكتشاف قدراته، ويستطيع بها تنمية ذاته وتجديد عقله ومعارفه.
إنها ليست مجرد فترة دراسية يمر بها الشباب بعد مراحل تعليمية تمهيدية، أقل شأنًا وأضيق حدودًا، ولكنها مرحلة لها ما بعدها، وذات أهمية قصوى في تشكيل الشباب وإعدادهم لما يتلوها في معركة الحياة.
ولا يختلف اثنان على أن فترة الشباب هي عصب حياة الإنسان التي تتشكل فيها خبراته، ويتمتع فيها بكامل حيويته وحضوره ولَمَعانه الفكري والعضلي.
وبقدر ما يُراكِم المرء في هذه الفترة من حيوية ونشاط، يمكنه أن يملأ حياته فيما بعدُ إبداعًا وتألقًا، بحيث يكون إضافة للحياة لا عالة عليها.
وتأتي مرحلة الجامعة لتشكل عصب مرحلة الشباب التي هي بدورها -كما أشرنا- عصبُ حياة الإنسان. فالجامعة هي الفترة المكثَّفة المركزة التي ينبغي على كل شاب أن يعطيها عناية خاصة، وأن يفهمها على نحوٍ جيدٍ يتجاوز به كونَها فترة لاستظهار المعرفة وإحراز الدرجات، إلى عَدِّها مختبرًا بالغ الأهمية في صقل الوجدان والعقل، وفي مد شبكات من العلاقات المتينة مع الأقران، وفي الاطلاع على معارف وثقافات متنوعة بجانب التخصص.
لكن للأسف قد تمر تلك الفترة الذهبية دون أن يلتفت الشباب لها كما ينبغي، بل قد يدخلونها دون أن يعرفوا عنها، اللهم إلا أنها عبارة عن مجموعة أوراق ينبغي عليهم أن يحفظوها ليحرزوا تقديرات متميزة، تُفسح لهم مكانًا في سوق العمل أو في قاعات التدريس.
الجامعة معمل يتعلم فيه الشاب كيف ينسج علاقات مع الآخرين، وكيف يتواصل معهم، وكيف يشاركهم عقولهم ويشاركونه علقه، هي فرصة مجانية لمد شبكة عريضة من التواصل الإنساني.
لا، ليست هذه أهمية مرحلة الجامعة فحسب، إننا بهذا التصور نهدر تلك الطاقات الكامنة في هذه الفترة المهمة من حياة الإنسان. الجامعة معمل يتعلم فيه الشاب كيف ينسج علاقات مع الآخرين، وكيف يتواصل معهم، وكيف يشاركهم عقولهم ويشاركونه عقله، هي فرصة مجانية لمدِّ شبكة عريضة من التواصل الإنساني، والنفسُ لم تتعكر بعدُ بما يورثها الشك في الآخرين، أو يكبّلها بالحذر الزائد منهم.
نفوس الشباب صفحة بيضاء، وإمكانيةُ مَلْئِها بالخبرات المتبادلة أمرٌ ميسور، ولهذا كانوا دائمًا أسرع من غيرهم إلى مناصرة الأنبياء، ومؤازرة دعاة الخير والفضيلة، واتباع صوت الحق الصادع.
ويمكن توثيق هذه العلاقات عبر المشاركة في المعسكرات الكشفية، والرحلات التي تنظمها الجامعة. وفصلُ الصيف باب واسع للتزاور وتمتين أواصر المحبة. كما أن فترة الجامعة فرصة ليستنشق الإنسان عبير الثقافات المختلفة، سواء التي تمت بصلة مباشرة لمجال دراسته أم لا، لأن لديه من الوقت ومن صفاء الذهن ما يمكّنه من التجول بحرية وبِنَهمٍ في رحاب مختلف العلوم والمعارف. فلا ينبغي أن يحبس الشابُ نفسَه في مرحلته الجامعية داخل نوع معين من المعرفة، بل عليه أن ينفتح ما وسعه الانفتاح، لا سيما في أوائل العام الدراسي وفي إجازة الصيف. يمكنه في فترة الجامعة -وقد لا يتيسر له ذلك لاحقًا بحكم تسارع وتيرة الحياة العملية- أن يطالع الجرائد، وأن يقرأ المجلات، وأن يقوم بزيارات مستمرة لمكتبة الكلية والمكتبات العامة، وأن يكوِّن نواة لمكتبته الشخصية في هذه الفترة، وأن يسجل في مدونته ما ينوي شراءه لاحقًا.. هذا فضلاً عن حضور الندوات العلمية والثقافية المتخصصة والعامة، والتي تمثل زادًا مهمًّا للمعرفة وتوسيع المدارك.
أما النقطة الثالثة التي أحب أن أشير إليها -وقد فاتتني أنا شخصيًّا ولذا أحسُّ بأهميتها- فهي التعوُّدُ على الكتابة خلال المرحلة الجامعية. لا تجعل نفسك -أيها الشاب- في هذه الفترة المهمة من حياتك في موضع “المتلقي” فحسب، بل حاول أن تجرب موضع “المرسِل” وتنثر عبير أفكارك على الآخرين، وثقْ أنها سترتد إليك أفكارًا مضاعفة وأكثر دقة وحيوية.
دَوِّنْ مشاهداتك وملاحظاتك، تابع أفكارك وطوِّرها، تعلَّمْ فنون الكتابة ولو أن تبدأ بتسجيل خواطرك اليومية، تواصل مع منافذ النشر المختلفة واطلب من أصدقائك أن يمدوك بملاحظاتهم واستفد منها.
الجامعة -باختصار- فرصة لتفجير طاقاتٍ كامنة في نفسك، لو لم تكتشفها في هذا الفضاء الخصب، فربما فاتت سنواتٌ حتى تعرفها، وربما لم تعرفها أبدًا.
(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.