تأملات جديدة في علاقة المعرفة بالقيم

من حكمة الخالق البالغة أن بدأ رسالة الإسلام باختبار القيم في سلوك أول جيل من أجيال البشرية (ابنَي آدم) قال تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة: 28).
ولم تكن القرابين إلا نتيجة المعرفة المكتسبة لكل من الأخوين، والتي ارتبطت عند الثاني بالقيم حين قال ﴿إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فالتقوى عاصمة من تحويل العلم والمعرفة إلى سلطة شر، وانفصلت عن القيم عند الأول الذي قال لأخيه ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ معتبرا أن الخبرة المعرفية كافية لقبول العمل دون اعتبار قيمة التقوى والخوف من الله.
وقد طبع النموذجان مسيرة البشرية إلى قيام الساعة، ولذلك لم تفتأ الرسالات السماوية تعمل على ترسيخ النموذج الذي يربط المعرفة بالقيم عن طريق التربية، وتحذر من النموذج الذي يفصل بينهما لما له من آثار سلبية في الحال والمآل، ولذلك ختمت هذه الرسالات، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت أول آية نزلت فيها قوله تعالى ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1). وهذا الربط في الرسالة الخاتمة بين القراءة واسم الله (الربّ) الذي يرتبط في البعد الاصطلاحي بالتربية، يجعل الإسلام لا يقر بفائدة أي علم منفلت عن القيم.
ومن هنا ارتبطت العلوم بشتى فنونها كإنتاج للمعرفة في المنظور الإسلامي بالقيم، وتكون فائدتها في تدبير شؤون الحياة أكثر فائدة حين تتجاوز منطق السيطرة على الكون وإخضاعه لسلطة الإنسان، إلى العلم بالخالق وخشيته. وبذلك تضع نتائجُ المعرفة الباحثَ (الإنسان) على سكة الترقي نحو القيم المطلقة من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان.
وحين تقف نتائج العلوم عند حدود سيطرة الإنسان على الكون بمعزل عن القيم، فإن هذه السلطة تتحول إلى توهم السيطرة، وتوهُّم السيطرة تجلى في عقلية قارون حين قال مزهوا بممتلكاته ﴿إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص: 78). فكان التعقيب الإلهي ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ (القصص: 81). فالعلم الذي اكتسبه ضخّم أنانيته فتوهم القدرة والسيطرة، فتحول العلم في هذه الحالة من مدرج مفتوح للترقي نحو القيم المطلقة، وانحبس في كنف المادة مما ينافي طبيعة العلم ذاته.والمادة وسيلة للعلم وليست غايته ومقصده، ومن طبيعة العلم الانطلاق نحو السباحة في الملكوت، وهو يتجاوز الإنسان إلى سائر ملكوت الله، ولا يملك الإنسان من العلم المطلق إلا مقدار الماء العالق بالمخيط إذا أدخل البحر.
والخلاصة أن العلم وسيلة لتدبير شؤون الحياة، وهو في الآن اللازم وسيلة لمعرفة الخالق. والترابط بين الوسيلتين يجعل العلم في خدمة الإنسان، والانفصال بينهما يؤدي إلى انتكاسات تغرق البشرية في حمآت من الكوارث. والنماذج تترى في مسيرة البشرية، ويكفي أن نذكر في عصرنا الحديث باستخدام نتائج البحث العلمي في إنتاج أسلحة الدمار الشامل وإلقائها على الأبرياء في هيروشيما ونكزاكي وفلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وغيرها من بؤر التوتر في العالم. ولا يزال العالم يتوقع أمثال هذه الممارسات في وقت تزداد الهوة فيه اتساعا بين المعرفة والقيم ولا يقام فيه وزن للأخلاق والتربية، بل ويعتبر البعض كل ذلك معيقا لحرية المعرفة، في حين نرى أن حصر مقاصد المعرفة في تلبية غريزة السيطرة لدى الإنسان يعتبر أكبر معيق في وجه تطورها وانطلاقها.
ومما يتفرع عن هذه النظرة من نتائج أن كل علم من علوم تدبير الحياة بما فيها ما يصطلح عليه بعلوم الشريعة الإسلامية، ترتقي درجته ويرتب في سلّم الأوليات بالنسبة لحاجة البشرية بقدر ما يسهم في تيسير سبل الحياة، ويسعى في نفس الآن إلى الترقي في سلم القيم المطلقة في رحلة العودة من الأرض إلى السماء، وتلك رسالة التربية ودورها كما سنوضح بتفصيل في رؤيتنا الجديدة لفلسفة التربية الإسلامية كمساحة لحركة المفاهيم بناء وممارسة.
الإطار الفلسفي للتربية الإسلامية
معلوم أن النظرية التربوية الإسلامية من حيث أسسها ومبادئها العامة أسهمت بشكل كبير في صياغة نظرة الإنسان إلى نفسه ومن ثم إلى الكون والحياة والمصير، سواء أكان مسلما مؤمنا بأصول هذه النظرية ومنقادا لأحكام الإسلام بفهم سديد ورأي رشيد، أو مستفيدا من هذه النظرية من باب الاطلاع على التجارب والخبرات المختلفة كما نجد عند كثير من المفكرين والكتاب المهتمين بالتربية المنتمين إلى مختلف المدارس الفكرية وخاصة المنفتحة والمنصفة منها. ونجد أنفسنا في هذه التأملات نثير تساؤلات نتلمّس معالم الإجابة عنه في مقاصد الشريعة الإسلامية فنقول:
• ما علاقة القيم الإسلامية بالأحكام الشرعية؟ وهل يمكن الاتصاف بالقيم دون الالتزام بالأحكام؟
• لماذا شرعت الأحكام وكلف الإنسان بها؟ وهل المقصود شرعا هو إتقانها والالتزام بها في حياة الإنسان فقط أم أن هناك مقصدا أسمى؟
• هل تستهدف التربية الإسلامية تربية النشء على أداء الشرائع والأحكام في بعدها المعرفي والتطبيقي، أم إن الشعائر والأحكام ليست إلا وسائل قد تحقق التربية إن قدمت بمنهج يمزج بين المعرفة والوجدان والسلوك وقد لا تحققها إن قدمت بالمنهج المعرفي الصرف؟
• إذا كانت إعادة التربية هي الوسيلة التي تعيد الإنسان إلى مركز الفلاح (الجنة) الذي تبوأه قبل هبوط آدم من الجنة، فما هي المحطات الأساسية لمسيرة العودة وما دور الأحكام الشرعية فيها؟ وهل دعوة الرسل كانت إلى الأحكام كمقاصد أم كوسائل للترقي نحو القيم؟
للمساهمة في الجواب عن هذه الأسئلة نسوق هذه التأملات.
فلسفة إعادة التربية من الاختبار إلى المصير
إن هذه السؤالات وما يمكن أن يتفرع عنها يعيد من جديد سؤال التربية إلى الواجهة وفق سلّم يقتضي كثيرا من التفكير والتحليل ثم إعادة البناء بما يمكن أن يعيد تشكيل العقل المسلم ويرتب أولياته ويركز مجهودات الإصلاح على الأهم فالأهم.
وتفسير ذلك أن الإنسان نزل من الجنة لخلل أصاب جهازه التربوي عند الاختبار (مخالفة سلوكية) رغم قوة التكوين المعرفي، قال تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31) وغاية نزوله إلى الأرض إعادة تصفية جهاز القيم عن طريق التربية وغسل درن المخالفة بالهدى، قال تعالى ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾ (طَهَ: 123) ليعود مَن تفوق في اختبار إعادة التربية إلى مكانه الأصلي الطبيعي (الجنة) وقد صفت قيمه، وتنفي النار درن المخالفة عن المخطئين في تطبيق وصفة العلاج (الأوامر والنواهي الشرعية)، كما تنفي الصدأ عن الحديد، ليعودوا بعد مغفرة الله ومنّه إلى الجنة، لأن نظام القيم لدى المخطئ يظل متماسكا وإن أصابه درن مخالفة بعض الأحكام، أما الخاطئ المنكر لها ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ﴾ (الحاقة: 35-37)، خالداً مخلداً مادام نظام القيم قد انهار لديه ولم يعد قابلا للترميم، وذلك هو مصداق قوله تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ (النحل: 108).
وهكذا بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين يملكون أمهر الوسائل وأرقى درجات الحكمة مزوَّدين بتوجيهات وأوامر إلهية تقرب من القيم وتنهى عن سلوكات ومخالفات تبعد عن القيم. وقد بعث الله تعالى لكل أمة رسولا وجعل الرسل تترى في الزمان، وختمهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين نضجت وسائط التواصل بين البشر وأصبحت المجموعات البشرية أكثر احتكاكا وقربا، فناب العلماء عن الرسل في القيام بواجب التوجيه والإرشاد.
ولم تكن الشرائع والأحكام إلا وسائل للتربية وليست مقصودة لذاتها، ولذلك علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الصلاة وقال «صلوا كما رأيتموني أصلي» (رواه البخاري)، ولكنه قال للمصلين «مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بعدا» (رواه الطبراني في “الكبير”). وأمر الناس بالزكاة وبين لهم أنصبتها ومقاديرها وأوجه صرفها ثم قرأ عليهم قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 103)، وعلّمهم الصيام وفرائضه وسننه ثم قال لهم «من لم يدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع شرابه وطعامه» (رواه الإمام أحمد في المسند) وقس على ذلك.
وقد يقول قائل: ما دامت الأحكام والتشريعات وسائل للتربية على القيم وليست مقصودة لذاتها، أفلا يمكن أن تكون وسائل أخرى قد تكون اجتهادية بشرية محققة لهذا المقصد؟ وهنا يفتح باب الاجتهاد على مصراعَيه ما دام الأمر يتعلق بقيم إنسانية عالمية كالعدل والصدق والأمانة والوفاء وغيرها لخوض تجارب إنسانية متعددة قد توجد في الكنفشيوسية أو البوذية أو لدى عبّاد الأصنام أو الصابئة أو حتى الذين يدينون بديانة الإلحاد ما دام التدين ضرورة بشرية لا يتخلف عنها أي إنسان.
والجواب عن هذا التساؤل واضح من خلال القرآن الكريم؛ فقد أقرّ بوجود كل الديانات والمذهبيات، واحترم حق الاختلاف وفسح المجال أمام الإنسان ليختار معتقده ومسيرته، قال تعالى ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6) وقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، وقال تعالى ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).. وبذلك وضع الخالق سبحانه وتعالى الإنسان أمام اختبار الاختيار وذكر القرآن الكريم كثيرا من الديانات الوضعية وناقشها بقوة العقل وحجة المنطق، وبين أنها وصفات دواء لا تمكن الإنسان من الترقي نحو القيم المطلقة المفضية إلى الجنة.
وبناء على ذلك يمكننا أن نقسم سعي الإنسان نحو القيم إلى قسمين:
قسم يسعى إلى قيم “العاجلة” النسبية، فهو ينال حظه ونصيبه منها من غير ظلم ولا بخس، قال تعالى ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ (الشورى: 20)؛ فمن ابتغى العدل كقيمة في بعدها الإنساني النسبي نال نتيجة سعيه في الدنيا وما له في الآخرة من نصيب مادام لا يؤمن بها ولا يسعى إليها بمحض اختياره.

وقسم يسعى إلى قيم “الآخرة” المطلقة ويعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة فهو يرقى في سلّم القيم إلى ما هو أسمى من قيم “العاجلة”، وبذلك يكون تمسكه بقيمة العدل مثلا أقوى وأبقى أثرا، لأنه يعلم أن الفائدة المادية حاصلة في الدنيا من انتشار العدل وهي خطوة للفوز والفلاح في الآخرة، وهو هدف أسمى لدى المؤمن.
ثم إن الترقي في سلم القيم المطلقة للعودة إلى الجنة لن يكون إلا وفق ما أمر الله تعالى في القرآن الكريم وبيّن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كانت شريعة الإسلام الوسيلة الوحيدة للرقي نحو هذه القيم المطلقة، وباقي الوسائل الاجتهادية الأخرى تقف عند سقف قيم “العاجلة”، قال تعالى ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء: 18-20).
وغاية الشريعة الإسلامية أن توضح هذا السبيل ولا تلزم الناس به ولا تنفي باقي السبل، فالله تعالى يقول ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: 118-119). وتلك هي عظمة الاختيار في الإسلام، لأن صقل القيم بالتربية لا يكون قسرا غير عرض النموذج الواحد، وإنما يكون بوضع الخيارات المتعددة مع توضيح وبيان أنجح الطرق وأفضل الخيارات بقوة العقل والبرهان؛ وللإنسان أن يختار ويتحمل بعد ذلك مسؤولية اختياره.
وحين يصل الإنسان بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الالتزام بالأحكام والتشريعات الإسلامية كوسيلة للترقّي نحو القيم يصل إلى التزكية، وهي الخطوة الأخيرة في مسيرة العودة إلى مقر الفلاح (الجنة) المقر الأصلي الطبيعي للإنسان ذي القيم الصافية، قال تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10).
مفهوم الأمر والنهي في ضوء فلسفة القيم
إن منظورنا لعلاقة الأحكام بالقيم وهي -كما قررنا- علاقة السبب بالمقصد، تُحِيلنا إلى تحليل بنية الأحكام الشرعية إلى جزئيات الأوامر والنواهي كما وردت في القرآن الكريم وفي سنة وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم والنظر إليها في سلم الترقي نحو القيم.
أما الأوامر الإلهية فهي توجيهات على طريق الوصول إلى القيم تسدد الخطى وتسرعها بقدر درجة الالتزام بها؛ فالحريص على الفرائض منها فقط أقل سرعة وحركة من الحريص على الفرائض والنوافل، ومعلوم أن السرعة مطلوبة للوصول إلى المقصد في أقل وقت ممكن ما دام العمر محدودا وساعة كل فرد علمها عند ربي في كتاب، ولا شك أن العاقل سيختار الوسيلة الأسرع. وفي هذا السياق نفهم قوله تعالى ﴿لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 95).
أما النواهي فهي لدرء المحرمات والتي تعتبر في سياق الترقي نحو القيم معيقات تضيع على الواقع في شراكها الجهد والوقت، ولذلك سماها الله تعالى بالسبل حين قال في محكم التنـزيل ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: 153) والدخول إلى السبل الضيقة الصغيرة قد يكون سببا في التأخر في انتظار التوبة والعودة إلى الطريق المستقيم، وقد يكون سببا في الضياع فينتهي الزمن المقدر لحركة الإنسان نحو القيم (العمر) وهو عالق في السبل كسفينة جانحة في الصخور لم تتمكن طواقيم الإغاثة من انتشالها فعلاها الصدأ وتآكلت ألواحها وهوت إلى قاع البحر.
وهكذا يعتبر النهي عن المحرمات في سلم الترقي نحو القيم ترشيدا لمسيرة الإنسان وليست قضاء على شهوة أو تكليفا بما لا يطاق، فمن نظر إلى المحرمات بهذا المنظور تجلّى له بلا شك نعمة الخالق في النهي عنها، وسارعت نفسه إلى اجتنابها، لأن المعادلة الواضحة في ذهنه تدعو إلى ضرورة تجنب كل معيقات الوصول إلى القيم في صراع حقيقي مع الزمن المحدود.
ميزان الأعمال في ضوء فلسفة القيم
ويتفرع عن هذا التصور وضع ميزان للأعمال الصالحة والطالحة انطلاقا من فلسفة القيم، ذلك أن العبرة في هذا الميزان بنوعية العمل لا بكثرته، ولنوعية العمل دور حاسم في الدلالة على نضج القيم في نفس الإنسان. ولذلك كان الفعل الصغير من الأوامر قوة هائلة دافعة نحو القيم وعلامة بارزة على نضجها في النفس، وكان الفعل الحقير من النواهي علامة كبرى على ضمور القيم في النفس وسببا في السقوط في الهاوية والعودة إلى نقطة الانطلاق مما يعني ضياع كل الجهود السابقة.
ويتضح هذا من التأمل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعله يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة» (رواه البخاري) وأن «امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» (متفق عليه).
ونستنتج من هذا أن الغاية ليست هي طبيعة العمل، فالرجل حين سقى الكلب قام بحركة بسيطة والمرأة ربطت الهرة لساعات، ولكن كل عمل من العملَين دليل على درجة الترقي في سلم القيم؛ فالرجل الذي سقى الكلب لم يدفعه لذلك -وقد كان لوحده في الصحراء- إلا نضج قيمة الرحمة وقيمة ابتغاء مرضاة الله في نفسه، فدفعه كل ذلك إلى الإحسان فعبد الله كأنه يراه، وذلك أرقى صور نضج القيم وسلامتها، وفي المقابل انمحت من نفسه رذائل القسوة والرياء والاحتقار وغير ذلك مما يكون عادة سببا في العزوف عن القيام بالكثير من الأعمال الجليلة القدر البسيطة الشكل.
وأما سلوك المرأة فدل على ضعف قيمة الرحمة في نفسها وحضور القسوة والجفاء مكان ذلك، وقوة دافعية البخل على قيمة البذل والكرم، والأخطر من كل ذلك أنها لم تستحضر رقابة الخالق سبحانه وتعالى في فعلها فهي لا زالت تعتقد أن لا رقيب يحاسبها على عملها ذلك، وهذا أكبر خلل في منظومة القيم وعلامة خطيرة على انهيارها.
منهج الترقي نحو القيم من المعرفة إلى العمل
إذا كنا قد عرفنا أن نوعية العمل هي العملة الوازنة في ميزان القيم فكيف يتوصل الإنسان إلى اختيار العمل النوعي؟ وكيف يرتب أولويات عمله في ضوء ذلك؟
نتصور أن هذا المنهج ينبني على أربع قضايا كبرى هي: البحث عن المعرفة، وطرق اكتسابها ونشرها، وانعكاس أثرها تطبيقا في السلوك، ومقومات الاستمرار والثبات على هذا السلوك. وكل قضية لها وجهان فقد تكون دافعة في اتجاه الترقي نحو القيم كما قد تكون في الوجه الآخر معيقا ومثبطا. ونكتفي ببيان الوجه الأول لأنه دال على الثاني بالضدية والتقابل.
فأما المعرفة فقد تكون دافعة حين تكون موثوقة المصدر تجمع بين قراءة الوحي وقراءة الكون معتمدة على كتاب الله وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهادات العلماء العاملين المشهود لهم بالورع والتقوى وسعة الإطلاع. ولذلك يطلب من الإنسان أن يبني معرفته عن طريق التحري والسؤال، وهو مسؤول عن المعرفة الصحيحة التي يكتسبها ويترجمها إلى سلوك دافع نحو القيم، وهذا هو سياق تفسير الإمام البخاري لقوله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾ (محمد: 19) في ترجمته لكتاب العلم في صحيحه قال “باب العلم قبل القول والعمل” وتلك هي المعرفة الدافعة نحو القيم.
أما في طرق اكتساب ونشر المعرفة فهي: تلك المسلكيات اللفظية والمادية التي يعتمدها العالم والمتعلم في نقل واكتساب المعرفة، فالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن هي أنجح الوسائل التي ترغّب الناس في تقبل المعرفة والتوجه نحو الطريق السوي وهم راضون مطمئنون تدفعهم الرغبة في السلوك، وذلك هو منهج القرآن الكريم في حفز الهمم نحو القيم.
أما العمل والتطبيق فهو بدوره قوة دافعة للترقي في سلم القيم إن كان صالحا، أو معيق إن كان طالحا؛ فأما الصالح فميزانه الاعتدال والوسطية اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكليف النفس بما تطيق، والمداومة على العمل الصالح والترقي فيه بتدرج.
أما مقومات الاستمرار والثباث فهي الجانب الوجداني والنفسي والعاطفي بما يوفره من شحنات قوية تغذي الدافعية نحو القيم، فكثيرا ما كان الحماس الفياض والعاطفة الجياشة والغيرة الحية دافعا نحو التضحية من أجل المبدأ، شريطة أن تكون مبنية بناء سليما متدرجا وفق المنهج السالف الذكر. فالوجدان والتعاطف المبني على معرفة صحيحة مستقيمة، وسيلة وطريقة حكيمة، وعمل وسطي، فيؤدي إلى التمازج والاندماج ويصبح قناعة راسخة غير قابلة للتغيير، ولذلك كان أحب الدين إلى الله أدومه وإن قلّ.
وبهذا يكون تقوية الجانب الوجداني والعاطفي على أسس متينة وَقُودا للسالكين طريق الحق ومحفزا للثبات عليه، ويكون ضعف هذا الجانب أو بناؤه على أسس غير سليمة، مثبطا ومنفرا يخلق الاضطراب والاغتراب.
إن بناء هذه الدعائم الأربعة لمنهج الترقي نحو القيم (المعرفة السليمة، والطريقة الحكيمة، والتمثل العملي الوسطي، والوجدان المحفز) هي صميم المجال النظري والتطبيقي للنظرية التربوية الإسلامية التي تربط بين المعرفة والقيم من أجل تنمية إنسانية شاملة ومتكاملة تضمن سعادة الدارَين.