الكنغر.. ولادة قبل النمو

طابت أيامك أيها الإنسان… أنا “الكغنر”، المخلوق المتميز عن باقي المخلوقات بطريقة الإنجاب والتكاثر. معرفتك بي حديثة العهد مقارنةً بالحيوانات الأخرى التي عرفتَها من زمان بعيد؛ فمنذ آدم عليه السلام وأنت تعرف آلاف الكائنات الحية على تربة هذه الأرض؛ كالخيول والكلاب والقطط والطيور والأسماك والحشرات والزواحف وكثير مما خلق الله تعالى، إذ كانت تعيش على نفس الأرض التي عشتَ عليها في أوراسيا أي الدنيا القديمة، أما معرفتك بي -أنا الكنغر- وبأستراليا، فلم تتجاوز المئتي سنة، ولكن أنا أعرفك من زمن بعيد. فقد عشنا آلاف السنين مع “الأبوريجين” (سكان أستراليا الأصليين) الذين جاؤوا إلى هنا من قارة آسيا قبل ثلاثين ألف سنة تقريبًا. إن “الأبوريجيون” هولاء، كانوا أناسًا مسالمين قنوعين لا يصطادون إلا بقدر احتياجهم، وذلك لعدم الإخلال بالتوازن البيئي. وما إن ازدادت الرحلات الاكتشافية الأوروبية لعالمنا البِكْر الذي لم تمسه الأيدي المدمّرة، حتى فقدْنا الراحة والطمأنينة، ولم نعد نعرف العيش الرغيد في وطننا كما كنا من قبل.

ننتمي نحن الكناغر الذين نعيش على القارة الأسترالية إلى “الثدييات الجرابية” (Marsupialia). وقد خلق ربنا النبات في هذه المناطق مناسبًا لطبيعتنا، حيث يختلف كثيرًا عن نبات المناطق الأخرى. ولابد أن أذكر في هذا الصدد، أن أول حيوان مفترس جاء به سكان هذه المنطقة من آسيا إلى هنا، هو حيوان “الدينغو”. إنكم -أيها البشر- تطلقون اسم “الثديات الحقيقية” (Eutheria) على الحيوانات “المشيمية” (Placentalia) لتميّزوها عنا. وإن أهم فرق بيننا أن القدرة الإلهية منحت الثديات الحقيقية رَحِمًا واحدة. فالبيضة عند هذا النوع، التي تبيضها الأم والتي تتحول إلى “عَلقة” نتيجة التحامها بالنطفة المحمولة من قِبل السائل المنوي، تتشبث بجدار الرحم وتعشش فيه كالشجرة التي تتشبث بالتربة بجذورها، ثم تبدأ بالانقسامات لتتكاثر الخلايا وينمو الجنين وفق برامج الشيفرات الوراثية المقترنة بها. ومن أجل النمو المستمر مع التحولات المتواصلة داخل بطن الأم دون أي خلل، يتم تغذية الجنين عن طريق المشيمة التي تلتقي فيها الأوعية الدموية للأم بالأوعية الدموية للجنين. وتضع الأم الجنين بعد زمن يستغرق أسابيع أو شهورًا أو سنواتٍ تبعًا لحجمها وضخامتها، وبعد اكتمال أجهزة الجنين وأعضائه بكل التفرعات الدقيقة، وبانقطاع الحبل السُّرِّي الذي يصل المشيمة بسرة الجنين عند الولادة، يبدأ المولود بالتنفس، ثم بتناول الغذاء بنفسه دون الحاجة إلى الحبل السُّرّي. يولد الجنين عاجزًا بلا أسنان، فيُحدِث ربنا ذو الرحمة المطلقة تغييرات هرمونية في الأم ليدِرّ ثديها حليبًا يَرضعه صغارها، إذ يحتوي هذا الحليب على كافة الفيتامينات والأغذية العضوية وغير العضوية، ويحتوي كذلك على الخلايا الليمفاوية التي تقي الصغير من الأمراض. وقد تختلف فترة الرضاع أيضًا من نوعٍ لآخر، وينقطع حليب الأم عندما يبلغ الصغير مبلغ الطعام ويتعلم طريقة الحصول عليه. وسرعان ما يدبّ في الصغير التوجيه الإلهي على شكل أنشطة وتصرفات معقّدة تبدو وكأنه تعلَّمها في بطن أمه، ليستطيع البقاء على قيد الحياة.

لكننا نحن الثدييات الجيبية أو الكيسية، خُلِقنا بآلية مختلفة للإنجاب والتكاثر؛ إذ نملك رحمين اثنتين، ودورة تناسلية تُدار بالهورمونات بطريقة مختلفة. وقد تجلى ربنا بأسمائه الحسنى المتنوعة علينا، فأحدث في سجل الثديات تغييرات طفيفة تخضع لها في مراحل التكاثر والنمو، وبذلك يظهر بأنه وحده صاحب القوة والقدرة المطلقة، يخلق ما يشاء وكيف يشاء، يخفي في كل مخلوق من خلقه من البدائع ما لا يمكن إدراكها إلا بالتفكر والتدبر.

الولادة قبل النمو

نضع نحن الكناغر صغارنا عند بداية التكوين الجيني وقبل نموّ أرجلها الخلفية وأعينها وذيولها، ويتراوح طول الواحدة منها ما بين 5-15مم. ولو حصل هذا الأمر عند الثديات المشيمية لَسقط الجنين ومات، أي لأسقطت الأم جنينها كما تقولون. وصغيرنا هذا الذي يولد دون إتمام نموه، سرعان ما يتعلق بشعر بطن أمه ويزحف عليه بذراعيه القويتين، ثم يدخل الجراب من دون أية مساعدة ليصل إلى حلمات الحليب الأربعة الموجودة فيه، فيتمسك الصغير -الذي لم تُخلق عيونه بعدُ- بحلمة منها بقوة… هذا ويكون الجراب قد جُهِّز من قِبل الرحمن الرحيم، بشكل يلبي كل ما يحتاجه هذا الصغير العاجز من غذاء وماء.

نتوزع -نحن الكناغر- إلى 45-50 فصيلة. فالكناغر الصغيرة منّا تسمى بـ”الكنغر الفأر”، والكناغر المتوسطة الحجم بـ”الولب”، والكناغر الكبيرة بـ”الرمادي” وأنا من المنتسبين إلى الفصيلة الأخيرة. يظل صغارنا داخل جواربنا أو جيوبنا تأكل وتنام مدة تتراوح ما بين 150-320 يومًا تبعًا لأحجامنا، وبعد هذه الفترة -حين يكمل نموها- نسمح لها بالخروج من الجيب لتتنزه لفترات قصيرة. وإن كنا نحن الكناغر الكبيرة نمنع صغارنا من العودة إلى الجيب مرة أخرى، فهذا لا يعني أننا نتخلى عنها بالمرة، بل نسمح لها بإدخال رؤوسها للرضاعة فقط، ولابد لنا أن نفعل ذلك حتى يتعلم صغارنا الاعتماد على أنفسهم في الحياة، وحتى يتم إعداد الجيب للمولود الجديد. ولعلكم تتساءلون في عجب: حملٌ في فترة الرضاع؟! أمرٌ تحار له العقول أليس كذلك؟

 

تعاقب الحمل

إن رَحِم الكنغر تستعيد نشاطها بعد الولادة بأيام قليلة، فتعيش حالة الطمث من جديد، أي إن الكنغر الولادة لا تعرف حالة النفاس التي تعرفونها في نسائكم أنتم البشر بعد الولادة… قلتُ حالة الطمث، لتقريب الصورة إلى أذهانكم، فالطمث الذي يستمر في نسائكم حوالي 28 يومًا، تكتمل عندنا خلال أيام معدودات، ولذلك تكون الكنغر مستعدة للحمل من جديد في أيام قلائل بعد الولادة! وإن لم يكن الصغير قد بلغ مرحلة الخروج من الجيب، فإن الجنين يبقى -بتوليف رباني قدير- على شكل بيضة حديثة العهد باللقاح. وهذا “السُّبات الجنيني” الذي ينتظر فيه الجنين اكتمال نمو أخيه في الجيب، يتم بنظام هرموني فريد بأمر من الرحمن الرحيم.

وعندما يكتمل نمو الكنغر الصغير ويخرج من الجيب بعد شهر تقريبًا، تفيق البيضة من سباتها لتعشش على جدار رحم الأم وتستهل نموها وانقساماتها، وقبل الولادة بيوم أو بيومين، يكون صغيرنا السابق قد استعد لمغادرة الجيب. يلد المولود الجديد قبل اكتمال نموه أيضًا، ويزحف نحو الجيب بتوجيه فطري إلهي متمسكًا بشعر بطن أمه، ويلتزم حلمة حليب مناسبة له كما فعل كبيره المولود الأول.

 

أم واحدة وتعددية في نوعية الحليب

يلتزم المولود الجديد أحد ثديي الأم بتقدير إلهي عجيب، لأن الثدي الآخر يدرّ حليبًا صالحًا للمولود السابق غير الصالح للمولود الجديد. ولا نسمح بعدها للصغير النامي بالدخول إلى الجيب خوفًا من إضرار المولود الجديد، بل نسمح له فقط أن يُدخل رأسه ليحتسي الحليب من الثدي الصالح له. وهكذا تعيش إناثنا هذه الأحوال الثلاثة في آن واحد، ففي الوقت الذي يرضع فيه الكنغر الصغير الذي خرج للتوّ من الجيب؛ تُرضِع الوافد الجديد إلى الجيب وتحافظ عليه حتى يكتمل نموه، ولعله كان في رحمها بيضة ملقحة في سبات تنتظر دورها في النمو.

تتغير نوعية الحليب بما يناسب نمو الصغار الثلاثة، كلٌّ ينال غذاءه الصالح له من أم واحدة ومن حلمة مخصصة له دون التعرض إلى حلمة آخرى، وذلك لعدم صلاحية حليبها له! وهل يمكن أن تكون هذه الشفقة والرحمة، إلا من الرحمن ذي الرحمة المطلقة البصير العالم القدير.

هذا ويمكن لبعض إناث الكناغر الصغيرة أن تضع في البطن الواحد مولودين أو ثلاثة مواليد، أما الأنواع الكبيرة فتضع مولودًا واحدًا في كل مرة. وإذا كانت القلّة منا تنتظر موسمًا محددًا للتزاوج، فإن معظمنا يتزوّج في الأوقات غير المحددة، مثلكم تمامًا أنتم البشر. تستمر فترة الحمل عند الكناغر الكبيرة مثلي، أربعة أو خمسة أسابيع، بينما يتراوح هذا الحمل عند الكناغر الصغيرة ما بين ثلاثة أو أربعة أسابيع. أما الولادة عندنا فتكون سهلة دون ألام ثقيلة، لأننا نضع الأجنة صغيرة قبل اكتمال نموها.

تترشح إناث الكناغر الكبيرة للأمومة في العام الثاني والثالث من عمرها، وتظل تلد مدة تتراوح ما بين 8-12 عامًا، أما إناث نوع الكناغر الصغيرة فتبلغ سن الأمومة في 4-5 أشهر من العمر، ويمكن أن يستمر السُّبات الجنيني في هذه الأنواع 10-11 شهرً

آلية القفز المدهشة

أرجلنا الخلفية تشكل الجانب الأقوى من أعضائنا، وأَذْرعتنا قوية أيضًا إلا أنها قصيرة، كما أن الجزء العلوي من أجسامنا صغير كذلك. يتم دعم عظم الفخذ الطويل من قِبل مفصل الوَرك الضيق الطويل، ثم إننا لا نستطيع طويَ ركبتينا أثناء القفز ولا نحتاج إلى ذلك أصلاً، لأن أقدامنا الخلفية مصممة للقفز بشكل ميكانيكي… فأصابع القدمين لدينا، وعضلات المشطين والساقين والفخذين، والأوتار الرخوة المتصلة بها، تقوم بدور القوس المشدود لتؤدي إلى القفز عند تحرير الطاقة الكامنة فيها… وقد تصل القفزة الواحدة في بعض أنواعنا إلى تسعة أمتار أو إلى 13,5 مترًا. كما يقوم ذيلنا بعضلاته القوية، بمساندتنا أثناء القفز والوثوب، وكذلك بتأمين توازننا عند الوقوف وكأنه قدم خامسة. أما الهدف من القفز هو التشويش على العدو والفرار منه بسرعة، بالإضافة إلى أن الذكور تستعين بذيولها عند الاقتتال ببعضها البعض. وقد خلَق سبحانه بعلمه اللامتناهي، جلدًا سميكًا جدًّا حول الخصر لذكورنا (أسمك من جلد الكتف بضعفين) ليغدو درعًا يحمي بطونها من التمزق والخرق نتيجة الركلات عند العراك.

أحيانًا نمشي زحفًا وأحيانًا أخرى نقفز، نستطيع أن نجري بسرعة 55 كم/س، أما نوع الكناغر الصغيرة منّا تجري بسرعة 30 كم/س.

تلبية الحاجات بلا نقصان

 

نستخدم أَذْرعتَنا في قياس الحرارة أيضًا؛ إذا كان الجو حارًّا نبصق على أيدينا وندهَن بها الأماكن الساخنة في أجسامنا حتى نخفض حرارتها. فمن إحسان ربنا إلينا أن وَهَب كل نوع من مخلوقاته أعضاءً ومواهب تسهل له العيش وفق البيئة المحيطة بها. فالكنغر الجُرْذ يملك قدرة عظيمة على التمويه، كما تتمتع أنواع أخرى من الكناغر، بأيد طويلة قوية تمكّنها من التسلق على الأشجار والعيش فوقها، حيث تنزل هذه الأنواع من الشجرة بالاعتماد على أذيالها المنبسطة القوية التي لا تلتف ولا تلتوي، وتملك أيضًا موهبة القفز من شجرة إلى أخرى في المسافات القريبة. هذا وقد خُلقت أقدام كناغر الولب التي تعيش في المناطق الصخرية، بشكل لا تنزلق أبدًا.

لقد تم خلق القسم الأمامي لمعدتنا على شكل “غرفة تخمير” (Fermantasyon). وقد منحنا خالقنا “البكتريا التكافلية” (Simbiyont) والكائنات ذات الخلية المهدبة الواحدة في المعدة والأمعاء لتؤدي خدماتها في الهضم. حتى إنه تعالى خلق بعض أنواعنا، لتتمتع بإمساك اليوريا في البول قبل الطرح لبناء البروتينات من جديد. عن طريق الأيض الخاص لديها، وعندما يحصل انخفاض في كمية الفيتامينات لدى بعض أنواعنا، تقوم -بفضل عملية استقلاب خاص- بإمساك اليوريا في البول قبل طرحها لاستخدامها في بناء البروتينات من جديد. يا لها من صنعة بديعة لصانع بديع.

أيها الإنسان الحبيب… نحن وإياك أثرٌ من آثار خالق واحد صمد. متّع كل نوع منا ببدائعه المختلفة. إياك أن تنسى نعَم الله عليك، إذ وهبك العقل والمشاعر والوجدان والقلب وما شابهها من الآليات التي تفوّقتَ بها على سائر الكائنات… وإياك أن تنسى أنك في امتحان، إما أن تفوز بحسناتك وإما أن تخسر بسيئاتك. أما نحن فنأكل ونشرب ونمضي بحياتنا بعيدين عن همّ هذا الامتحان وما يعقبه من حساب وجزاء. فكل ذلك بتقديره وإرادته سبحانه، فلو شاء ما خلقَنا أبدًا… فنحمده على كل ما أعطانا من نعَم، ثم أتركك أيها الإنسان لأن تتأمل وتفكر لما خُلِقتَ له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.