النهضة العربية ودور المثقف فيها قراءة محمد عابد الجابري

تسعى دول العالم كله دون استثناء إلى التقدم والنهوض الحضاري، مرتكزة على مقومات النهضة الحضارية المنشودة، من تعليم، واقتصاد، وإعلام، والتحالفات هنا وهناك. والعرب أنفسهم معنيون بهذه النهضة، خصوصًا وأن العرب تجمعهم اللغة والدين. إن النهضة العربية الحقيقة رهينة بالدرجة الأولى ببناء الوحدة العربية، هذه الوحدة ستكون البداية الرسمية للنهضة التي يحلم بها المواطن العربي. فما هي إذن اشكاليات النهضة العربية؟ وما هو دور المثقف لتحقيقها؟ ولكي نسلط الضوء أكثر على هذا الموضوع نتوقف مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري ورؤيته لقضية النهضة العربية.

إن الحديث في البداية عن المثقف وإشكالية النهضة هو حديث عن نوع خاص من المثقفين، أي ذلك المثقف الذي يحلم بغد أفضل، والمشرع للمستقبل، ذلك المثقف الذي يحمل هم بلده ووطنه وهم أمته، كهمّ عام. يقول “وإذا أردنا أن نلخص هذا الهم الذي يحمله هذا المثقف النهضوي في كلمة واحدة، فلعله ليس هناك أفضل من تل الكلمة التي عبر بها رواد النهضة في القرن الماضي عن مشروعهم النهضوي. نقصد كلمة “التمدن”: أن ننهض معناه أن نتمدن، وأن نتمدن معناه أن نواكب عصرنا، أن نساير تطوره، أن نقتبس من منجزاته الفكرية والمادية”. ومن هنا فالتمدن بهذا المعنى، يراه الجابري، عنصرًا أساسيا من العناصر المحددة لمفهوم النهضة في فكر المثقفين العرب في القرن الماضي، وهذا التحديد يصدق كذلك على مفهوم النهضة لدى المثقفين المعاصرين.

ويرى الجابري أن هناك محددًا آخرا من محددات الفكر النهضوي العربي، وهو ربط النهضة العربية بمقاومة التدخل الأجنبي الذي يمثل الاستعمار أبرز وجوهه، ومن هذا ارتبط التبشير بالنهضة بتوجيه النداء إلى الشرق ليقاوم المحتل الغازي، المستعمر، الغرب.

ومن هنا، فرض السؤال الطبيعي نفسه: من نكون وماذا نريد أن نكون؟ وبتعبير أدق ما هي هويتنا، يقول الجابري معلقًا على ذلك “كان هذا السؤال، سؤال الهوية، ولا يزال، يطرح جملة أزواج أو ثنائيات، على رأسها الأزواج التالية: الإسلام/العروبة، الدين/ الدولة، الأصالة/المعاصرة، الوحدة/التجزئة. سؤال الهوية في الفكر العربي الحديث والمعاصر يطرح الفصل في هذه الأزواج: من نحن، ماذا نريد أن نكون؟ سؤال يطرح مباشرة العروبة والإسلام، قضية الدين والدولة، قضية الوحدة والتجزئة، قضية السلفية والحداثة… وإشكالية المثقف العربي، إشكاليته النهضوية تحكمها هذه الأزواج، وبالتالي فالبحث في هذه الإشكالية في إطار رؤية مستقبلية معناه “نقد” هذه الأزواج”، فكيف يمكننا فهم هذه الأزواج؟

بالنسبة للزوج الأول: الإسلام/العروبة، يرى الجابري أننا لم نشعر نحن المغاربة يومًا بأن هناك فرقًا بين الاثنين، أو بأن هذا الزوج يطرح مشكلاً، من نوع المشكل الذي يطرح في صيغة الاختيار بين أحد الطرفين: العروبية والإسلام، أو من نوع المشكل الذي يطرح مسألة أيهما يجب أن يكون أولاً وأيهما يجب أن يكون ثانيًّا، يقول “وأستطيع أن أؤكد أننا عندما نقرأ كتابات مشرقية حول “مشكل” الاختيار أو المفاضلة بين العروبة والإسلام، فإننا نجد أنفسنا أمام كتابات لا تنفذ، بما تريد أن تقوله إلى وجداننا وإلى عقولنا. بل يمكن أن نقول إننا هنا نشعر بأن المسألة غير ذات موضوع، أعني أن الأمر يتعلق بمشكل غير مطروح، وبالتالي بإشكالية مزيفة”. لكن هذه القضية تطرح مشكلا، بل تعتبر قضية أساسية في المشرق. حيث نجد الكثير من الكتاب من يجعل مصير النهضة العربية مرهونا بحل هذه المشكلة: مشكلة ترتيب العلاقة بين العروبة والإسلام.

ويرى الجابري أن هذا المشكل هو مشكل محلي، وليس مشكلة عربية، يقول “إن التعارض أو التقابل، أو الشعور بضرورة التوفيق والجمع، بين مفهوم العروبة ومفهوم الإسلام، إنما نشأ، كما تعرفون في الشام أساسًا، وبصورة أعم في سوريا الكبرى، وعرفت له بعض الأصداء في مصر، وذلك في القرن الماضي، عندما اكتسى رد فعل سكان هذه المنطقة، منطقة سوريا الكبرى، ضد الحكم العثماني وسياسية التتريك، صورة قومية، فنادى الوطنيون السوريون بالعروبة كبديل عن التتريك، وطالبوا بالاستقلال للقوميات العربية، عن الامبراطورية العثمانية”. إذن فالمشكل هو مشكل محل لا خير.

هذا المشكل رغم أنه مشكلاً محليًّا إلا أنخ اتخذ صبغة التعميم، وهو ما عبّر عنه الجابري بالقول “ما نريد التأكيد عليه هنا، ليس هو اختلاف التركيب الاجتماعي والديني في الوطن العربي، فهذا واقع نجده في كثير من البلدان المتحدة أو حتى الواحدة، بل ما نريد إبرازه هو أن الريادة الفكرية النهضوية العربية التي كانت لكتاب ومفكري مصر والشام قد نقلت هذا المشكل المحلي إلى مشكل عام على صعيد الفكر النظري، بمعنى أن الكاتب السوري مثلا عندما يعالج مسألة العروبة والإسلام، مستلهما واقع قطره، أو موجها بهذا الواقع وتحت ضغوطه، يعالجها وكأنها مشكلة عربية عامة، والنتيجة في تعميم المشكل، بنقله من المستوى السياسي -مستوى الحكم والسلطة والديمقراطية- إلى مستوى نظري، إلى مشكل كيان ومشكل هوية، مشكل أصبح يعبر عنه من خلال التقابل الذي يقام بين الإسلام والعروبة”. هذا التعميم والخطأ المنهجي، لن يخدم الفكري النهضوي، بل يدخله في أزمة. وللآسف الشديد، ففكرنا العربي نقول إنه ما يزال يعاني من الأخطاء المنهجية القاتلة إلى اليوم في كثير من القضايا.

ثنائية الدين والدولة

يرى الجابري أن زوج الدين والدولة لا يختلف عن الزوج الإسلام والعروبة، وقد علق ذلك بقوله “إنا هنا لا أجد مفرًا من مصارحتكم بأن فكري لا يستسيغ الحديث عن مشكل اسمه الدين والدولة، في الوطن العربي الحديث والمعاصر. لست أدري لماذا؟ هل لأني أعيش، هذا في المغرب، في ظل دولة ومجتمع لا وجود فيهما لأمر اسمه مشكل الدين والدولة؟ ولكن أليست الجزائر وتونس وليبيا والسعودية واليمن والخليج… خالية هي الأخرى من هذا المشكل الذي يطلق عليه بعض الكتاب في الشرق اسم “مشكل العلمانية”؟ أنا لا أستسيغ طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان، فليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح المسألة العلمانية فيه، بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا، والذي يتمحور أساسا في “فصل الدين عن الدولة”.

ونحن هنا نشاطر الجابري نفس الرأي، ونقول بأن هناك أيضا خلال منهجيًّا، في طرح الثنائية بل وتعميمها، فقضية العلمانية في أوروبا جاءت في سياق معروف وخاص وهو الحد من سيطرة الكنيسة، وأن تكون للدولة نفس المسافة من المتدين وغيره. في حين هذا ليس مشكلة عندنا، فلم تكون المؤسسة الدينية من بدايتها إلى اليوم مؤسسة قهرية متسلطة.

ثنائية الأصالة والمعاصرة

هذه المشكلة هي كذلك مشكلة محلية، عممت على الوطن العربي كله، مشكلة عرفت في سوريا ومصر حيث نشأ تيار سلفي يدعو إلى الاصلاح باعتماد “الأصول” الإسلامية ضدا الانحراف المتمثل في الطرقية الصوفية والشعوذة، ثم ما لبث أن دخل في معركة مع التيار المعروف باسم “التيار الليبرالي” لكون هذا الأخير كان يدعو إلى اعتماد “الأصول الأوروبية”، أي القيم الفكرية والخلقية والسلوكية التي اعتمدتها النهضة الأوروبية. وسرعان ما انزلق السجال بين الطرفين إلى اتهام “السلفية” بالرجعية والماضوية واتهام “الليبرالية”، بالمقابل، بالعمالة للاستعمار والعمل على “التغريب” والتنكر للقيم الوطنية.

هذا المشكل بهذه الصورة “لم يكن مطروحًا في كل البلاد العربية. ففي بلاد المغرب العربي، وفي أقطار عربية أخرى، غير سوريا ومصر، كان المضمون الذي يعطي للسلفية مضمونا نهضوي اصلاحيا، وبالتالي فلم يكن هناك تقابل بين السلفية والليبرالية، بل على العكس كان هناك تداخل وتكامل. ففي المغرب مثلا كان المضمون الذي يحمله شعار “السلفية” هو “التحديث”، وكان التحرر من فكر وسلوك وعادات عصر الانحطاط، من طرقية وشعوذة… يعتبر شرطا ضروريا للنهضة”. إذن المشكل ليس مشكلا عاما، بل له مكان جغرافي خاص، مما يعني إذن أن قضية سلفية وحداثية -وغيرها من المسميات- لم تكن عائقًا في سبيل النهضة العربية.

ثنائية الوحدة التجزئة

يؤكد الجابري هنا على أن التجزئة التي لحقت بالوطن العربي هو بسبب عامل خارجي هو الاستعمار، هو أمر لا نقاش فيه وصحيح، لكن غير صحيح بمعنى آخر. إذا نظرنا إلى الخريطة العربية كما رسمت بعد الحرب العالمية الأولى، وقبلها بقليل.

رغم ذلك، فإنه ليس هذا هو المعنى الوحيد الذي تحمله كلمة “التجزئة” عندما توضع في مقابل “الوحدة” في الخطاب العربي المعاصر. يقول الجابري “إن هناك معنى آخر عاما يجعل “التجزئة” تعني انقسام الوطن العربي إلى أقطار في المشرق والمغرب وقيام دول في هذه الأقطار، هي الدولة العربية القائمة حاليا، الدول القطرية، واعتبار الاستعمار هو المسؤول الأول والأخير عن وجود الدول القطرية هذه، الأمر الذي يعني أن البلاد العربية قبل الاستعمار كانت موحدة. وهذا في نظرنا غير صحيح. ذلك لأنه إذا كنت معظم أقطار الوطن العربي قد “توحدت” تحت حكم الخلافة العثمانية، فإنها كانت غير موحدة قبل ذلك”.

ويؤكد الجابري أننا لسنا هنا للتذكير بواقع تاريخي عنيد، بل من أجل أن نعطي الكلمات معناها، والآمال والطموحات كل وزنها وثقلها. وهنا يقول “إننا عندما نطمح اليوم إلى تحقيق الوحدة العربية فنحن نطمح إلى مشروع تاريخي جديد تماما، يختلف كلية عن كل المشاريع والتجارب التي عرفها تاريخنا. إن الواقع العربي الراهن واقع تشكل فيه الدولة القطرية حقيقة دولية قبل أن تكون حقيقة وطنية وقومية. هو حقيقة دولية لأن مصالح الدول الأجنبية والدول الكبرى بصفة خاصة مرتبطة بهذه المنطقة من العالم، مرتبطة بالدول القطرية وبوجودها واستمرار وجودها. إن المصالح الامبريالية لا تسمح بقيام وحدة عربية، هكذا بكل سهولة ويسر، بل إنها تعرقلها وستعرقلها لأن مصالحها لا تخدمها الوحدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المنطقة العربية منطقة استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة إلى الصراعات الدولية، وبالتالي فليس في إمكاننا نحن العرب أن نفكر في شؤوننا بمقتضى ارادتنا ورغباتنا وحدها، بل لا بد أن ندخل في الحساب ارادات ورغبات ومطامع الدول الكبرى. وهذا لا يعني أنه علينا أن نستسلم أو أن نساوم، كلا، أبدا. إن ما أريد أن أقوله هو أن مشروع الوحدة الذي نطمح إليه لن يغير واقعنا وحده، بل واقع العالم كذلك”. ومن هنا، يتضح أن قضية الوحدة ستحقق للعرب نهضة قوية، فالوحدة تحد من أطماع الدول الأخرى التي تسعى جاهدة إلى تفتيت كل قطر عربي بشتى السبل والوسائل.

إنه رغم كل المعيقات التي تقف في وجه الوحدة والنهضة العربية، يدعو الجابري إلى ضرورة تشجيع كل المحاولات والتجارب التي تؤدي إلى نوع من التضامن، إلى نوع من العمل المشترك الذي يؤدي إلى إتاحة الفرصة للقاء أبناء الأمة العربية واختلاطهم واحتكك بعضهم ببعض في المجالات كافة.

وجملة القول، نؤكد مع الجابري على أن هذه الثنائيات التي تم طرحها والحاضرة في خطاب المثقفين النهضويين العرب، تحتاج إلى مراجعة طرحًا جديدًا يراعي المتغيرات، كي يتسنى لنا رسم خارطة طريقة تمهد لنهضة عربية قائمة على منهج رصين غير متناقض، ومن هنا تبرز مهمة المثقف العربي، مهمة إعادة التفكير في مشروعنا النهضوي المنشود.