من أعظم الأحداث المفصلية في تاريخ أمة ما، بعثة نبي، ونزول الوحي، فهي لحظة فاصلة تفصل بين مرحلتين من مراحل التاريخ فصلاً أخطر من أي حدث تاريخي آخر… من أجل هذا، وجدنا عناية القرآن الكريم “بتاريخ النبوة”، وجعلها نقاطًا مفصلية في مسيرة البشرية.
فالتاريخ بالمنظور القرآني، مقسم إلى حقب بحسب بعثة الأنبياء، والفعلُ الإنساني يمتد منذ آدم عليه السلام على خطين؛ خط النبوة، وخط مناهضي النبوة، أو بتعبير القرآن “الصراط المستقيم” و”سبل الضلال”.
ومن هنا تأتي أهمية الحقبة التي تظللها نبوة نبي من الأنبياء، لأنها -بشكل أو بآخر- تلخص قصة البشرية ومشاهد التدافع بين الحق والباطل.
ونحن كمسلمين، ينبغي أن نعي هذه الحقيقة حال تعاملنا مـع سيرة رسـول الله صلى الله عليه وسلم. فهي وإن كانت جزءًا من تاريخ الإسلام العام، فإنها تمتاز بما لا نجده في غيرها من أدوار ذلك التاريخ.
ذلك أنها تشكل مرحلة التأسيس بمختلف تجلياته الاجتماعية والمعرفية والتشريعية والحضارية.
• فالمرحلة النبوية هي منطلق التأسيس للمجتمع الإسلامي الأول، فهذا تأسيسها الاجتماعي.
• وهي أول تجربة بشرية في أدوار تاريخنا الإسلامي تعامل فيها العقل مع النص لفهمه وتنزيله على الواقع، وهذا تأسيسها المنهجي والمعرفي.
• وهي المجال الزمني الذي كانت فيه النصوص مساوقة للواقع، متفاعلة بشكل مباشر مع أحداثه وأنشطة أصحابه، بينما كل الأدوار التالية على هذه المرحلة حكَمَتْها قاعدةُ: “النصوصُ متناهية والوقائع غير متناهية”، وهذا هو تأسيسها التشريعي.
• وهي المرحلة التي وضعت فيها القيم التي انتقلت بالعرب من طور القبيلة إلى طور المجتمع والأمة، ومن أفق البداوة إلى أفق الحضارة. فكل ثمرة حضارية أتت من بعد، إنما هي من شجرة بذورها الأولى غُرست في تربة المرحلة النبوية، وهذا هو تأسيسها الحضاري.
فالسيرة النبوية بأحداثها -خصوصًا المفصلية منها- تُشكّل كمال التجربة الإسلامية، والأفق الذي ترنو إليه العقول إن هي أرادت أن تتعامل مع هداية الوحي فهمًا وتنزيلاً. وهذا في اعتقادنا، هو التصور العميق لمفهوم “اتباع السنة النبوية”، لا ذاك الذي يقف عند حدود التجربة النبوية في مستوى تعاملاتها مع جزئيات الواقع دون الارتفاع إلى الأصل الذي ينتظم تلك الجزئيات.
بهذه الرؤية، رؤية التاريخ من زاوية الوعي الحضاري، ورؤية السيرة النبوية من زاوية الإدراك الواضح لخصائصها التأسيسية، سيكون وقوفنا مع حدث قد يكون ثاني حدث “مفصلي” في تاريخ الإسلام بعد حادثة نزول الوحي، أعني بذلك حدث الهجرة النبوية.

الهجرة ومستويات القراءة

أشرنا إلى أن حدث الهجرة قد ترتفع به القراءة الواعية إلى مستوى حدث نزول الوحي، ومما يعزز هذا الزعم أننا نجد خاصية التأسيس تنطبق على الحدثين، باعتبار أن الأول دشن مرحلة البدء لرسالة الإسلام في آخر تجلياتها، وأن الثاني دشن مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية وهي المرحلة المدنية.
وكما أن التاريخ لم يبق على ما هو عليه منذ لحظةِ تلفُّظ جبريل عليه السلام بكلمة “اقرأ”، فإن التاريخ أيضًا لم يبق على ما هو عليه منذ لحظة وصول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأهمية الهجرة تجليها قراءة الحدث من خلال المستويات التالية: مستوى الحدث التاريخي، ومستوى المنهج، ومستوى الاعتبار (استشراف المستقبل).

أولاً- القراءة على مستوى الحدث التاريخي

بأن ننظر للهجرة كحدث وقع في زمان ومكان محددين، وتم بشخصيات ساهمت في صناعته، وكان ضمن سياق أحداث أخرى مهدت له، وأحداث نتجت عنه. وهذه قراءة تستهدي بما ورد من إشارات في القرآن الكريم حول حادثة الهجرة، وبما صح من روايات في كتب الحديث والسير.
وفي هذا المستوى، نجد تعليق القرآن عن الحدث موجزًا، معجزًا كعادته، يمزج في كلمات قلائل بين البعد التاريخي للحادثة وجذورها الإيمانية وتجلياتها التشريعية في بيان علاقة المسلـم -في كـل زمان ومكان- بصاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم ودينه، فيبدو الحدث موجودًا في الزمان، متعاليًا عليه في الوقت ذاته، يخاطب أجيال المسلمين في كل وقت إلى أن تنتهي هذه الدنيا، يقول تعالى: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾(التوبة:40).
فالآية في بُعدها التاريخي، تؤرخ لفعل “الإخراج” الذي تَعرَّض له النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تتحدث عن “انتقال” طبع المرحلة التي أتت بعد ذلك الحدث، يمكن تلمسه في الجوانب التالية:
أ-انتقال في الزمان: إذ فصل الحدث بين زمنين، زمن امتد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى لحظة الإذن له بالهجرة، وهي مرحلة الدعوة المكية بما لها من مقدمات وإرهاصات، بدأت منذ ولادته صلى الله عليه وسلم وانتهت زمانيًّا على مشارف المدينة المنورة. وزمن امتد من لحظة وصوله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وانتهى بالتحاقه بالرفيق الأعلى، وهي مرحلة الدعوة المدنية بما فيها من ملاحم وأحداث. فصرنا بعدها نقول: “ما قبل الهجرة وما بعد الهجرة”.
وهذا انتقال كان له أثره البالغ في طبيعة التشريع ومضامين الآيات والسور التي انقسمت إلى قرآن مكي تمحور حول أصول الإسلام عقيدة وشريعة وخلقًا، وقرآن مدني تمحور حول توفير الأرضية التشريعية لبناء المجتمع والأمة والحضارة، فكان التوسع في كل ما يحتاج إليه الإنسان من تشريعات مبينة للعبادة أو ضابطة للسلوك أو مقننة لشؤون المجتمع في السلم والحرب.
بـ-انتقال في المكان: وهو الخروج من مكة “أم القرى”، تلك التي كان يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان ببركة البيت العتيق، ولكنها كذبت صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وردّت الحق في عناد وتكبر، فكانت العقوبة كما يقول الشيخ الغزالي -رحمه الله- أن “حرم مشركو مكة الخير كله مذ جحدوا الرسالة وقعدوا بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجًا”،(1) فكان الخروج من “القرية الظالم أهلها” إلى قرية كانت “يثرب”، فصارت “المدينة المنورة” و”طيبة الطيبة”.(2)
والمـكان الجديد إنما كان باختيار رباني لا باجتهاد بشري، ولقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتدبر أمر المكان فذهب إلى الطائف -وهي إحدى القريتين العظيمتين في ذلك الزمان- ولكن يبدو أن تنافسها مع مكة لم يكن مقتصرًا على التجارة وتكديس المال، وإنما تعدى ذلك إلى التباري في القسوة وردّ الحق، فكان ما كان من صدود أهل الطائف وجحودهم، وكان ما كان من أحداث مهدت الطريق إلى المدينة.
والانتقال من مكة إلى المدينة، لم يكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، وإنما انتقال من بنية اجتماعية إلى بنية أخرى. وهذا كان له تجلياته في تشريعات الوحي التالية على هذا الانتقال.
فـ”مكة” كانت مُشكَّلة أساسًا من المؤمنين وهم الأقلية الذين استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المشركين وهم الأغلبية الذين ناصبوه العداء. أما المدينة فكانت الأغلبية فيها للمؤمنين الخُلّص “مهاجرين وأنصارًا، معهم طائفة تظهر لأول مرة على مسرح الأحداث وهم “المنافقون”، إضافة إلى جماعات يهودية ذات نفوذ اقتصادي، وتعالٍ ثقافي بما لهم من تحكم في الأسواق، وبما بقي لديهم من ميراث النبوات السابقة وسط مجتمع عربي أمي.
وهذا التغير في طبيعة المجتمعين، يتجلى في حديث القرآن بعد الهجرة عن المنافقين، وفصول كيدهم للحق من داخل الصف الإسلامي، وكذا الحديث عن أهل الكتاب وصفاتهم وصنوف كيدهم وخداعهم الديني (إخفاء حقيقة النبوة وأحكام الشريعة الموسوية)، ومكرهم السياسي والعسكري (تآمرهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وتحالفهم مع المشركين والمنافقين).
جـ-انتقال في البنية الاجتماعية: ونعني بالبنية الاجتماعية؛ تركيبة المجتمع الإسلامي بما لها من خصائص مادية ومعنوية. فالهجرة غيرت ملامح الجماعة الإسلامية الأولى، وطبيعة علاقتها بذاتها وبما يحيط بها، ويمكن أن نتبين هذا التغيير من خلال المظاهر التالية:
• الانتقال من الضعف إلى القوة: فلئن كانت المرحلة المكية اعتمدت على الإيمان قوةً وحيدة تمنح صاحبها القدرة على التحمل والمواجهة، فإن هذا الإيمان أضيف إليه في المرحلة المدنية قوةُ التضامن الأخوي والمنعة المادية التي وفرها الأنصار لإخوانهم المهاجرين وفاءً بـما عاهدوا عليه الرسـول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية.
• انتقال من الجماعة إلى الدولة: وهذا كان له أثر بالغ في السلوك السياسي للفرد العربي، فلأول مرة، تنشأ في تاريخ العرب دولة تقارب في مفهومها الأشكال الحضارية للدولة، بعد أن عرف في تاريخه القديم أشكالاً باهتة للدولة، لا تعدو أن تكون تابعة لإحدى القوى الأجنبية.
• الانتقال من أفق القبيلة إلى أفق المجتمع والأمة: وهي نقلة جبارة في ميزان الأمم والشعوب، فأن يخرج الإنسان العربي من سجن القبيلة وتقاليدها وقوانينها، لا ليكون صعلوكًا -كما فعل بعض شعراء العرب- وإنما ليبني ما هو أرقى من القبيلة وروابطها. فهذا يتطلب تغييرًا عميقًا على مستوى الأفكار والتصورات، بل على مستوى الأحاسيس والعواطف أيضًا. وبكلمة موجزة، يتطلب إنسانًا جديدًا لا صلة له بإنسان الجاهلية، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ودأب عليه منذ لحظة نزول الوحي؛ بناء الإنسان الجديد.
وهذا الانتقال البنيوي بمظاهره الثلاثة، يجسده رمزيًّا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة مقدمه إلى المدينة، إذ بادر إلى بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتابة الوثيقة، وهي إجراءات ثلاثة تترجم الأسس التي أرساها عليه الصلاة والسلام للمجتمع الإسلامي؛ “صلة الأمة بالله، صلة الأمة بعضًا بالبعض الآخر، صلة الأمة بالأجانب عنها ممن لا يدينون دينها”.(3)

ثانيًا- القراءة على مستوى المنهج

السنة -والسيرة جزء منها- تشكل الجانب التطبيقي للمنهج الذي أنزله الله تعالى في كتابه، فلا مناص للمسلم الذي يبتغي الاستهداء بهدي النبوة، من ضرورة اقتفاء المسلك النبوي، استـجابة لأمر الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب:21).
والاقتداء يصبح أكثر ضرورة بالنسبة للحركات التي تبتغي التغيير رافعة شعار الإسلام فكرة ومنهجًا، وتطمح للوصول إلى ما وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل قرون بفكرته ومنهجه.
فالتاريخ والواقع، كل منهما يعلمنا أن حسن النية وجمال الشعارات لا يغنيان في حركة التغيير الاجتماعي شيئًا ما لم يصحبهما فكر سديد ورؤية واضحة ووعي عميق بطبيعة المشكلة المراد تغييرها، ومراحل الطريق التي ينبغي قطعها كي نصل إلى الحل، وهذا ما تـوفره لنا الدراسـة الحكيمة لمسـلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحركة والتغيير.
وحدث الهجرة يضع أمامنا معالم بارزة، هي لكل متدبر منارات هادية، تعصمه من الضلال والزلل عند اختلاط السبل وتشعب المسالك والمناهج. فقراءة الهجرة من زاوية المنهج التغييري تعطينا المعالم التالية:
1-التكوين والإعداد قبل التمكين: فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عقد في مكة، يربي الصفوة الأولى ويعّدهم ليكونوا حَمَلةَ المنهج الجديد فكرًا وممارسة. وما أظن أن أحدًا منهم طاف بخاطره أنه سيخرج يومًا من مكة ليبني دولة في المدينة، أو أنه سيعيش ليرى ثمرة تضحياته ومعاناته.
فتكوين الصفوة القادرة على أن تتحرك لإحداث التغيير، أمر جوهري يكاد يكون من السنن الاجتماعية الثابتة التي تحكم حركة كل المجتمعات عبر التاريخ. فما من ثورة أو تغيير إلا وكان الدور الأساس فيها لصفوة أو نخبة آمنت بمبدإ التغيير، وتمثلت الفكرة دون تفكير في مغنم أو مكسب.
ومن هنا لا يمكن أن نفصل حدث الهجرة عما سبقه، فهو كالنتيجة له، إذ كان بالإمكان أن تتم الهجرة في اللحظة الأولى التي كذّب فيها أهل مكة بالحق دون حاجة إلى تلك السنوات من العذاب والآلام، ولكن الأمر لم يكن عبثًا، وإنما اقتضته حكمة الله تعالى في جعل التكوين والإعداد مقدمًا على التمكين.
وإنه لدرسٌ بليغ للحركات الإسلامية التي تريد التغيير من منطلق الاقتداء بالمنهج النبوي، ثم في لحظة من لحظات السير، تغفل عن هذا المعلم الخطير فتتشوف إلى تمكين لمّا تُعَدَّ له بَعدُ عُدّتَه، إذ يُتعبها طول الطريق أو يغريها بريق مكسب سياسي عارض، فتندفع ضاربةً بهذه السنة عرض الحائط، فتكون النتيجة تجارب هزيلة أو مشوهة، تكون -في أغلب الأحيان- حجة يعترض بها العلمانيون والأنظمة المستبدة على فشل المشروع الإسلامي من الناحية المبدئية، وعلى عدم صلاحية الإسلام ليكون منهجًا يقود الحياة.
وهذا الخلل يستوي في الوقوع فيه أصحابُ المغالبة الذين لا يصبرون على معاناة الطريق، أو تغرهم قوة جماهيرية ضعيفة الصلة بالفكرة والمنهج، فيرومون اختصار الطريق بانتهاج العنف للوصول إلى السلطة، فيبدأ عملهم “جهادًا” وينتهي ببندقية عمياء وفتنة تحصد الأبرياء، وترسخ سلطان أهل الباطل والفساد، إذ تعطيهم حجة جديدة لتسويق أنفسهم في الداخل وإدامة دعمهم من الخارج. وأصحابُ المشاركة الذين تبهرهم معرفتهم الجديدة بآليات الحكم وطرق الوصول، أصحاب السلطة التي صاروا في الظاهر جزءًا منها إلى سلطتهم وطرق بقائهم فيها، فيحاولون -بوعي أو بغير وعي- تقليدهم واقتفاء آثارهم، وإن أضفوا على ذلك صبغة “التأصيل”، متخذين من مقولة “فقه الواقع” آلية لتبرير ما لا يبرر في أكثر الأحيان.
وإن وقع هؤلاء وأولئك في هذا الخلل كان الإفلاس وكان الفشل، لأن السنن لا تحابي أحدًا.
فإن تشوُّف الإنسان إلى التمكين قبل التكوين، إن هو إلا ضرب من العبث وشكل من أشكال الهزل في موطن الجد.والحياة لا يصنعها العابثون ولا يقودها من يختلط عليهم الجد مع الهزل.
2-رجال المبدإ قبل رجال الدولة: وهو درس آخر من دروس الهجرة على مستوى منهج التغيير، يتعلق بطبيعة الإنسان الذي كُوّن لتقوم على كاهله أعباء الدولة الناشئة.
فإذا كانت المنهجية الإسلامية، تقوم أساسًا على مركزية الإنسان من حيث كونه هو المخاطب بالمنهج وهو المطبق له في الواقع، فإن الهدف السياسي من حركة التغيير والانتقال من طور الجماعة إلى طور الدولة، يجعل من التركيز على الإنسان مسألة غاية في الأهمية والخطورة.
والهـجرة تنبهنا إلى هذا المعلم المهم، إذ يتضح -من خلالها- كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ركز على تكوين رجل المبدإ قبل أن يفكر في رجل الدولة. وما النماذج -من رجال الدولة الأفذاذ- الذين ظهروا بعد ذلك على امتداد المرحلة النبوية ثم مرحلة الخلافة الراشدة، إلا ثمرة لهذا المسلك النبوي الحكيم. فهل كان بالإمكان أن يعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن تكوين دولة في المدينة، قبل أن يتمكن من إعداد الرجال الذين رباهم على المبادئ في مكة؟
فالدولة بما لها من مغريات السلطة، تتحول على أيدي من لم تتمكن المبادئ منهم ساحةً تُمارَس من خلالها كلُّ أشكال المفاسد السياسية والاقتصادية وحتى الدينية.
فللسلطة سلطانها على النفوس الضعيفة، ولا يوجد أضعف ممن يرفع شعارًا دون أن يصبح ذلك الشعار حقيقة ماثلة في ذهنه، ممتزجة بخلجات ضميره، متماهية مع سلوكه، وأنى له ذلك إن لم يتربَّ عليه؟!
فتأخير الحديث عن “الدولة” إلى أن تكتمل التربية على المبدأ، درس آخر بليغ تنبهنا إليه الهجرة حتى لا تقفز الحركات الإسلامية -وقد فعل البعض ذلك- في فراغٍ، ثم ترتد إلى أرض الواقع بتجارب مشوهة وعناصر أفسدتهم السلطة، وباعدت بينهم وبين الشعارات التي عرضوا أنفسهم بها أول مرة على الناس، ولا يزالون -وهذه من غرائبهم- يرفعونها.
3-الهجرة في بعدها الأخلاقي والرمزي: وهذا مّعلم لا ينفك في حقيقته عن المعلمين السابقين، حينما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينبه بشكل واضح على استمرار الهجرة من خلال سلوك المسلم في كل زمان ومكان.
فلئن كانت الهجرة الأولى انتهت بفتح مكة فقال صلى الله عليه وسلم “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية” (متفق عليه) ففاز بشرف الوصف بالمهاجر من فاز، فإن الهجرة في بعدها الرمزي والأخلاقي ذي الصلة بالمنهج، باقية مستمرة ما دام هنالك مسلم يسعى في كل زمان ومكان للتحرك وفقًا لذلك المنهج.
وهي الهجرة التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾(المدثر:5)، ويؤكدها النبي صلى الله عليه وسلم بشكل صريح: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه” (متفق عليه). فهي حركة دائبة للابتعاد عن كل سلوك منهي عنه، إن على مستوى حركة الفرد أم حركة المجتمع، وأيًّا كان مجال تلك الحركة دعوة أم سياسة، سلطة أم معارضة…ولعل البعد الرمزي والأخلاقي في علاقة المسلم بالمنهج، هو الذي نستشفه من ربط الحديث عن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم/منهجه، بحادثة الهجرة في الآية التي ذكرناها من قبل: ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ﴾(التوبة:40).

ثالثًا- القراءة على مستوى الاعتبار

ونعني بهذا، كيف نجعل من الهجرة نقطة انطلاق جديدة للأمة؟ وهذا هو مستوى الاعتبار الذي دعانا إليه القرآن كي نقرأ من خلاله الأحداث.
والفرق بينه وبين المستوى الثاني، أننا في هذا المستوى نحاول أن ننظر إلى الحدث من زاوية ربطه بحركة الأمة ككل، وهي تحاول استئناف حركتها واستعادة حضورها مرة أخرى في التاريخ.
ففي هذا المستوى تنبهنا الهجرة إلى عنصرين مهمين:
1- أن تكون حركتنا استئنافًا لا بداية صفرية؛ فكما كانت الهجرة خطوة غير منقطعة عما سبقها، وإن أحدثت تغييرًا عميقًا في مسيرة التاريخ الإسلامي، فحري بمن يسعى لإعادة الأمة أن لا يفكر في البدايات الصفرية، وإنما عليه أن ينطلق من مفهوم الاستئناف.
2- أن نتعمق في معرفة المنهج الذي نسعى للتغيير من خلاله، وأن نتمثله تمثلاً متكافئًا مع أزمة الأمة؛ ذلك أن الهجرة تعلمنا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ربّى أصحابه الكرام على المنهج معرفة وتمثلاً… معرفة بحيث سُبقت الهجرة بإرساء الأسس العقدية والمعالم الكبرى للإسلام من خلال القرآن المكي، والعقيدةُ هي روح المنهجية الإسلامية أو -إذا شئنا- جوهر المشروع الإسلامي الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بديلاً للواقع الجاهلي. فكانت المعالم العقدية واضحة في عقول ونفوس الصفوة الأولى من هذه الأمة، ثم كان التمثل لتلك التصورات الجديدة في الواقع بحيث أنشأت إنسانًا آخر، حاملاً للمشروع، قادرًا على مواجهة التحديات.
فالحركات التي تدعو إلى النهوض بالأمة وتغيير واقعها اليوم من منطلق المرجعية الإسلامية، عليها أن تعمق فهمها لهذه المرجعية حتى تكتمل لديها الرؤية الواضحة، ثم عليها -في المقام الثاني- أن تبني الإنسان الجديد القادر على منازلة الواقع بتحدياته، أي إنزال تلك الرؤية على الواقع، الإنسانَ الذي يحقق في نفسه الهجرة بكل أبعادها حتى يحدث نقلة فاصلة في حياة الأمة، تكون بالفعل فاصلاً بين مرحلة التخلف ومرحلة الانطلاق من جديد، كما كانت الهجرة نقطة انطلاق للأمة نحو آفاقها التأسيسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) فقه السيرة، دار الشهاب للطباعة والنشر، باتنة (الجزائر)، دت، دط، ص:150.
(2) عن جابر بن سمرة قال: كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم “طيبة” (أخرجه مسلم)، (4/121).
(3) فقه السيرة، ص:188.