الزهراوي رائد علم الجراحة والتشريح

هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (325-404هـ/936-1013م)، من أعلام الطب العربي الإسلامي وأشهر جراحي القرون الوسطى، وأحد الأطباء العرب والمسلمين القلائل الذين عرفتهم أوربا اللاتينية واعتمدتْ على كتبهم في تعلّم الطب وممارسته ما يزيد على خمسة قرون.

وُلد بمدينة الزهراء القريبة من قرطبة ونُسب إليها. عُرف الزهراوي طبيبًا وجرّاحًا، وقد لمع اسمه في أوربا اللاتينية أكثر مما نظر إليه أهل بلده ومعاصروه.

إن الجراحة أصبحت في يد المسلمين علمًا حقيقيًّا وفنًّا له أصول وقواعد، إذ ارتفعوا به فوق مستوى الأدعياء والمشعوذين والجهلة إلى مجالها الطبيعي، لا يمارسها -إلا طبقًا للقانون- غير أطبّاء مؤهلين في الجراحة كثيرًا ما كانوا يمرّون بامتحان يُعقد لهم في البيمارستانات الكبيرة في القاهرة وبغداد.

وبلغت الجراحة في يد المسلمين في القرون الوسطى ذروتها على يد أبي القاسم الزهراوي الذي ألف كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف”، والذي هو في ثلاثين فصلاً، اهتم في بعض فصوله بالجراحة وخاصة فصله الأخير. وقد كانت مهنة الجراحة مهنة مكروهة ممتهنة حتى مقدم أبي القاسم، حيث حلَّ ما جاء في كتابه “التصريف” عن الجراحة محلّ كتابات اليونان، وظل العمدة في هذا الفن في أوربا -كما تخبرنا جميع المراجع- حتى القرن السادس عشر.

ولقد زوّد أبو القاسم مبحثه في الجراحة بصور توضيحية لآلات الجارحة “أكثر من مائتي آلة جراحية” كان لها -بإجماع الباحثين- الأثر الكبير في الذين أتوا من بعده من الجرّاحين وبخاصة في أوربا في القرن السادس عشر. ذلك أن هذه الآلات قد ساعدت على وضع حجر الأساس للجراحة في أوربا.

والجدير بالذكر، أنه لم يكتف بذكر أكثر من مائتي آلة وببعض الآلات الجراحية الطبية فحسب، بل قد وضع تصميمها بنفسه، وشرح بدقة بالغة كيفية استعمالها شرحًا وافيًا. شرح ذلك كله شرحَ العالِم الممارس والمجرّب الخبير بما يُفسد الجراحات وما يتوقف عليه نجاحها.

ولما ظهر نبوغه في الطب، تولّى التدريس بجامعة قرطبة التي كانت حينئذ من أكبر جامعات العالم الإسلامي، فابتدع أسلوبًا جديدًا في تناول المسائل الطبية وعَرْضها. كان له أثر كبير في تقدّم العلوم الطبية، لذلك قصَد جامعَ قرطبة في زمانه عددٌ كبير من الأساتذة وطلاب العلم الأوربيين، الذين كانوا يَسْعَون إلى التعلّم على يد المسلمين آنذاك. وقد أفادوا من الطب العربي -فضلاً عن هذه الكتب الجامعة التي قاموا بترجمتها إلى لغتهم- مادة غزيرة جدًّا تتعلق بالطب العام والطب السريري أو الإكلينكي، كما تعلّموا علمَ التشخيص المقارن، واستقصاء الدلالات، والتمييز بين الأمراض المتشابهة.

لقد كان الزهراوي أول من وصف وضع الوالدة، وله آلات تستأصل بها أورام الأنف وهي كالسنارة، وله آلات أخرى لاستخراج حصاة المثانة بالشق أو التفتيت… وقد كان الأسلوب الذي ابتدعه الزهراوي في عرض نظريات الطب وأساليبه العويصة، أسلوبًا أدبيًّا جميلاً. فكان له أثر آخر في نفوس طلابه، إذ بعث فيهم بفصاحته في الشرح وقدرته على استخدام اللغة الأدبية في تيسير القواعد العلمية، حبَّ الأدب العربي فأقبلوا على دراسته. وقد كان للزهراوي تلامذة كثيرون، منهم أبو بكر عمر الكرماني، وأبو بكر الخياط، وابن وافد اللخمي، ويوسف بن أحمد بن حسداي.. ويذكر المترجمون له، أنه كان من الزهاد ويمارس الطب بلا أجر.

مؤلفات في الطب

ألف الزهراوي كتبًا مفيدة في الطب، منها كتاب في أمراض النساء، وكتاب استحضار الأدوية. وقد تُرجم الأخير إلى اللاتينية، وطبع في البندقية عام 1589م. ولكنه اشتهر بكتابه في الجراحة الذي يسمى “التصريف لمن عجز عن التأليف”. والكتاب يتناول ثلاثين فصلاً، قسمه أقسامًا ثلاثة، فجعل الفصل الأول في الطب الداخلي، والثاني في الأقرابازين والكيمياء، والثالث في الجراحة، وجعله للبحث في عمل اليد والصناعة الجراحية في أحوال الجبر والكسر والخلع والوثي والكي والفصد “Phlebotomy” والجراحات.

وقيمة هذا الكتاب الطبية تتجلى في أنه ظل المرجع الكبير الذي يرجع إليه الأطباء والجراحون في أوربا إلى نهاية القرن السابع عشر. وكان أطباء العرب منذ العصر الجاهلي، يعوّلون على الكي باعتباره علاجًا حاسمًا لكثير من الأدواء وإن كان الطب الحديث الآن ينظر إليه نظرة أخرى إيجابية، من حيث جدواه في علاج كثير من الأمراض التي لم يُعرف لها علاج بالطرق التقليدية، ويُصنف الآن ضمن علاجات الطب البديل، مثل العلاج بالحجامة أو الفصد بالإبر الصينية.

ويلاحظ أن الزهراوي كان من المهتمين بالعلاج بالكي، وقد أبدى هذا الاهتمام في كتابه “التصريف”، فتوسع في الاعتياد عليه، واستخدامه في فتح الخراجات، واستئصال الأورام السرطانية، وكان يفضله في أحيان كثيرة على استعمال المشرط بالرغم من أنه كان من عباقرة الطب الجراحي.

ويدعو الزهراوي إلى ضرورة إلمام الجرّاح بالتشريح ومعرفة كل عضو في جسم الإنسان وتركيبه ووظيفته، إذ لا يتسنى للجرّاح أن يقوم بمهمته إلا إذا ألمّ إلمامًا دقيقًا بتشريح أجزاء الجسم جزءًا جزءًا. وعلى الرغم من أن الزهراوي يَعتبر علمَ التشريح ضروريًّا لتعلّم العمليات الجراحية، إلا أننا نجده يشكو من ندرة العنصر النسوي بين الأطباء. وربما كان هذا هو الذي دفعه على التركيز على الجراحة النسوية بشكل غير اعتيادي بالنسبة لذلك الزمن. ومن المفارقات الواقعة، أن هذه الشكوى ما زالت قائمة في عالم الطب الحديث في الشرق والغرب على حد سواء، فالمشتغلات بالجراحة من النساء أقل بكثير من الرجال.

وقد ترجم “جيرار الكريموني” (1187م) في القرن الثالث عشر الميلادي، الجزء الثلاثين من كتاب “التصريف” إلى اللغة اللاتينية، ومنها نقله “شائيم توب” إلى العبرية.

يتألف كتاب “التصريف” من ثلاثين فصلاً أو جزءًا في الطب والصيدلة، ثلاث منها فقط خصصها للأبحاث الطبية، والمقالات الباقية كانت صيدلانية صرفة. فقد تكلم المؤلف في المقالة الأولى عن أغراض الكتاب مع لمحة موجزة عن محتوياته، ثم تحدث عن الأمور الطبيعية المعروفة، وخصص المقالة الثانية للكلام عن الأمراض وطرق معالجتها. وتعدّ المقالة الأخيرة “الثلاثون” أشهر هذه المقالات، وهي التي اشتهر بها الزهراوي جراحًا في أوربا بعد أن ترجمت إلى اللاتينية، لأنها بحث طريف وعلمي في الجراحة.

أما سائر المقالات الأخرى “وعددها 27 مقالة أو فصلاً”، فقد بحث الزهراوي فيها الأشكال الصيدلانية المعروفة، بالإضافة إلى أبواب أخرى خاصة تتعلق بمعالجة أمراض معينة كأدوية القلب والباه والسمنة وأمراض النساء، أو تتعلق بقوة الأغذية ومنافعها ومضار ما هو ضار منها.

وفي المقالة الثامنة والعشرين، والتاسعة والعشرين، يبحث الزهراوي في تحضير العقاقير المعدنية والنباتية والحيوانية، وتنقيتها وتصفيتها، وهي أشهر مقالة صيدلانية كتبت في الأندلس، وقد نقلت إلى اللغة اللاتينية بعنوان “Liber Servitoris”، وطبعت في البندقية عام 1471م. وأما المقالة التاسعة والعشرين، فقد قسمها المؤلف خمسة أبواب ذكر فيها: تسمية العقاقير بخمس لغات هي اليونانية والسريانية والفارسية والعربية والبربرية، وأسماء الأدوات والأجهزة الكيميائية والصيدلانية، وإبدال الأدوية المفردة مع الكلام على بعض مصادرها، وأعمار الأدوية المركبة والمفردة “مدة الصلاحية”، وشرح أسماء الأكيال والأوزان مرتّبة بحسب حروف المعجم.

ومن الطريف أننا نجد كثيرًا من الاكتشافات والإبداعات الطبية غير المسبوقة في هذا الكتاب.. فالزهراوي هو أول من استعمل الفحم في ترويق شراب العسل البسيط، كما أنه أول من استعمل قوالب خاصة لصنع الأقراص الدوائية. وكان يميل إلى التعقيد في تحضير الأدوية وتعدد عناصرها بالرغم من أنه قال بأن الوصفات تحتوي عادة عددًا كبيرًا من العقاقير التي تتشابه في تأثيرها. لذلك فإن نقصان أحد مفرداتها ليس له تأثير سلبي في المجموع. ومن المرجح أن هذه الفكرة قد سبقه إليها “البيروني” في كتابه “الصيدنة في الطب”، والذي وضع في مقدمته أسس علم العقاقير الطبية وأسس أخلاقيات  الطبيب والصيدلاني.

إنجازات في الطب

أشرنا من قبلُ إلى أنه ابتكر كثيرًا من آلات الجراحة التي كان يستخدمها، وكان يعالج أمراضًا كثيرة بالكي، وقد ذكر أنه عالج أكثر من خمسين داء بالكي بالنار. ويرى أنه شاهد حالة نزيف في أسرة، فعالجها بالكي أيضًا. وقد كان الزهراوي أول من أعد إحصائية دقيقة لجميع أمراض النزف الدموي، وأول من استعمل ربط الشرايين قبل أن ينتبه إلى ذلك غيره من الأطباء، وأول من اخترع طريقة استئصال الحصى المثانية في المرأة عن طريق المهبل، وكان أول طبيب مسلم في العصور الوسطى نجح نجاحًا باهرًا في عملية شق القصبة الهوائية، كما قام بعمليات تفتيت الحصى في المثانة.

وتذكر بعض المراجع الفرنسية أن أبا القاسم الزهراوي كان أحد أركان الثالوث الطبي الذي يتالف من أبقراط، وجالينوس، والزهراوي.

وفي الواقع، حقق الزهراوي كثيرًا من الإنجازات الطبية؛ فقد كان رائدًا في كثير من العمليات الجراحية، وسبّاقًا إلى إنجازات علمية وطبية باهرة وغير مسبوقة، مما يدل على عقلية فذة مبتكرة. فهو أول من وصف داء الناعور “الهيموفيليا”، وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل، وأول من كتب في تشوهات الفم وسقف الحلق، وأول من ربط الأوعية الدموية بخيوط من الحرير لإيقاف النزف منها، كما استعمل الزهراوي شعر ذيل الخيول لخياطة جروح الجلد. وهو كذلك أول من أشار إلى الحمل خارج الرحم، وإلى حالة المشيمة المتقدمة، وشق جيب المياه الأمنيوسية لتعجيل ولادة الجنين، وهو -دون شك- أول من استعمل آلة حديدية لسحب الجنين إذا تعطلت ولادته، أما الملقط الولادي الذي استعمله “جمبر  لن” الإنجليزي فقد جاء بعد أكثر من خمسة قرون من وفاة الزهراوي.

وهو أيضًا أول من تَحايل على فحص أعضاء الحوض في الأبكار عن طريق المقعد بالإصبع، كما طور الزهراوي القنطرة التي صممها جالينوس، وجعلها منحنية من طرف واحد وبيسر. لقد ابتكر الزهراوي عددًا من الآلات الجراحية التي استخدمها في إجراء هذه العمليات الرائدة وغير المسبوقة، وصنعها من حديد لا يصدأ، وقد كانت تصنع قبله من الذهب والفضة، وتفتقد القدرة على القطع الحاد والسريع. وقد تحدث الزهراوي عن هذه الآلات في المقالة الثلاثين من كتابه “التصريف”.

ومن هذه الأدوات، آلات مستخدمة في جراحات الفم والفك والأسنان والأنف والأذن والحنجرة والحلق، وآلات استخدمها في الجراحات النسائية وجراحات التوليد، وآلات استخدمها في الجراحات العامة والشق والبط، وآلات استخدمها في جراحات العظام، وأدوات الكي للجرح والنتوءات.

وقد استعرض الزهراوي بدقة بالغة خبراته وعملياته الكثيرة خلال خمسين سنة من ممارسته للطب والجراحة، واستعرض أيضًا خبرات من سبقوه، وساق تعريفه للطب بأنه علم وعمل بالأسباب والدلائل.. وقدم في مقالات كتابه فصولاً وصفية وتشريحية للعظام والأعصاب والعروق والدماغ، وأعماله الثلاثة في التخيل والفكر والتذكر. ووصف الأذن والأنف والأحشاء وطبقات العين، وسائر أعضاء الجسد من الرأس إلى القدم، فضلاً عن حديثه المسهب والدقيق عن الأدوية وتركيبها والعقاقير واستخداماتها.

فقد درّس علاج تشوهات الفم والفك باستعماله عقافة “صنانير” في استئصال العينية “البوليب أو الأورام الليفية” في الأغشية المخاطية، ونجح في عملية شق القصبة الهوائية “تراكيوتومي”، وقد أجرى هذه العملية على خادمه، وَوُفِّق أيضًا في إيقاف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة، محسّنًا بذلك عملياته الجراحية ومسهلاً بضع الأعضاء. وهو فتح علمي كبير ادعى تحقيقه لأول مرة الجراح الفرنسي “أمبرواز باري” (Ambroisise Pare) عام 1552م، في حين أن أبا القاسم قد حققه وعلمه قبل ذلك بـ600 سنة.

كما أنه علم تلامذته كيفية تخييط الجروح بشكل داخلي لا يترك شيئًا مرئيًّا منها، والتدريز المثمن -نسبة إلى ثمانية- في جراحات البطن، وكيفية التخييط بإبرتين وخيط واحد مثبت بهما، واستعمل الخيطان المستمدة من أمعاء القطط في جراحات الأمعاء.

وقد أوصى الزهراوي في كل العمليات الجراحية في النصف السفلي من الإنسان، أن يرفع الحوض والأرجل قبل كل شيء. وهذه الطريقة اقتبسها الغرب مباشرة عن الجرّاح العربي المسلم واستعملها كثيرًا حتى قرننا الحالي، فعُرفت باسم الجرّاح الألماني القدير “فريدريك ترندلنبورغ” (Fredericch Trendelenburg). وعن الزهراوي أخذنا طريقة ترك فتحة في رباط الجبس في الكسور المفتوحة، ولمد الجراحين وأطباء العيون والأسنان الأوربيين بالآلات اللازمة للعمليات بواسطة الرسوم الجديدة التي صفها.

وكثيرًا من هذه الإنجازات الطبية الفريدة قد استقيناها من كتابه الضخم “التصريف”، والذي وردت فيه آراء جديدة وجريئة في الجراحة والصيدلة أبرزها ما يتعلق بكي الجراحات وسحق الحصاة في المثانة، ولزوم تشريح الأجسام الحية والميتة. وقد نَقَل هذا الجزء من الكتاب إلى اللاتينية “جيرار الكريموني”، وصدرت منه طبعات مختلفة منها واحدة في البندقية عام 1497م، وأخرى في بازل عام 1541م، وأخرى في أكسفورد عام 1778م. وظل لهذا الكتاب مكانة كبيرة، ككتاب مدرسي للجراحة قرونًا كثيرة في مدرستي سالرنو ومونبيلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة.

 (*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.