هكذا علمتني الرياضيات

“لولا الرياضيات لما توضحت المناسبات بين البشر ولا بين الأشياء”. (فتح الله كولن). في كتابه الأكثر روعة “ونحن نقيم صرح الروح”، جعل المفكر التركي فتح الله كولن الوصفَ السابع من صفات وارثي الأرض، “الفكر الرياضي”، واعتبر بأن الرياضي ليس العالِم بالأشياء المتعلقة بالرياضيات، ولكنه الذي “يجمع بين الرياضيات وقوانينها فكريًّا”.
وفي نظرة أولية إلى مصطلحات الرياضيات وعملياتها الحسابية، وجد كاتب هذه السطور أنه قد تعلم واستلهم منها العديد من الحقائق والنظرات الفكرية التي أحبَّ أن يُشرك قارئه العزيز معه فيها من خلال هذه المقالة. ولكن أرجو التركيز على الكلمات التي بين علامتي التنصيص، فهي مصطلحات ورموز ذات صلة بعلم الرياضيات، حتى نستوعب الظلال الفكرية للرياضيات.

بين “الأصفار” و”الأرقام” الصحيحة

لقد علمتني الرياضيات في هذا السياق:

• أن العرب أهدوا “الصِّفر” إلى العالم، حيث “حلَّ” بواسطته الرياضيون الغربيون الكثير من المشكلات العلمية، وأن العرب بدون الإسلام يصبحون “أصفارًا” على الشمال بدون قيمة، أو تضاف هذه “الأصفار” إلى “أرقام” الآخرين حتى تتضاعف.

• أن العرب أهدوا العالم “الأرقام” المعروفة الآن في الإنجليزية ومنها الصفر عندما كانوا “أرقامًا” صحيحة وأصحاب حضور فاعل. وعندما ابتعدوا عن الإسلام صاروا “أصفارًا” و”أكسارًا عشرية”، وتمحورت طاقاتهم حول الانفعالات، حيث التغني بالماضي والتفاخر على الغرب بأنهم منحوه “الصفر”!

• أن العرب عندما كانوا “أرقامًا” اكتشفوا “الصفر”، وعندما صاروا “أصفارًا” تركوا “الأرقام” وبقوا غثاء كغثاء السيل.

• أن سر ضعف المسلمين أنهم “أعداد” بدون إعداد، وأنهم “أصفار” لا “أرقام”.

• أن “المفلس” مَن خاب سعيُه وخسر جهده، حيث حرص على مراكمة “الأرقام” وقطع الأرحام.

• أن ثلاثة رجال عندما “تجتمع أرقامهم” الواحدية يمكن أن يُصبحوا بقوة “111” رجلاً.

“العمليات” الفكرية

علمتني الرياضيات في هذا الإطار:

• أن الله “ضرب” على اليهود الذلة والمسكنة، لأنهم “طرحوا” منهجه تعالى أرضًا، وجعلوا غايتهم العظمى “جمع” المال و”قسمته” وفق أهوائهم.

• أن الله هو الذي “قسم” بين الناس معيشتهم في الحياة الدنيا، ويريد أعداؤه أن “يقسموا” رحمته بأمزجتهم، وأعجبُ من هؤلاء صنف من المسلمين وصفهم القرآن بـ”المقتسمين” الذين جعلوا القرآن عضين.

• أن الإسلام هو “الحل”، فهو من يتفوق في “جمع” الأخيار و”ضرب” الأشرار.

• أن “ضرب” الشعوب و”طرح” كرامتها هو الطريق الأسرع لوضع الحكام في “مربع” الاتهام أو القفص “المستطيل”.

• أن الـ”قسمة” الضيزى هي جعل العلمانيين الدين لله والدولة لهم.

• أن “استزادة” النعمة تكون بالشكر، و”الاستزادة” من القرآن تكون بالتدبر و”الاستزادة” من الإيمان تكون بالعمل.

وهذا ينقلنا إلى “قوانين” القرآن الرياضية.

“قوانين” القرآن

في هذا المضمار تعلمت من الرياضيات:

• أن الله “يزيد” الذين اهتدوا هدى، و”يزيد” الذين آمنوا إيمانًا، وأن من يقترف حسنة “يزد” له فيها حُسنًا، وأن للذين أحسنوا الحسنى و”زيادة”، وأنه تعالى “يزيد” من يشاء من فضله. وأما الذين في قلوبهم مرض “فزادهم” الله مرضًا. وهكذا فإن الجميع في “ازدياد” بفضل الله وعدله.

• أن ديدن المجرمين دومًا: (اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)(يوسف:9) أو: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)(طه:64)، ولكن مشيئة الله التي لا تتخلف وسنته التي لا تتبدل قد قالتا: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(القمر:45).

• أن المؤمنين “يضربون” في سبيل الله لطلب الرزق، وأن الفاسقين “يضربون” تسلطًا أولياء الله، ويوم القيامة “ستَضرب” الملائكة وجوههم وأدبارهم.

• أن “جمع” الفراعنة لكيدهم لم ولن يغني عنهم شيئًا، فالله دائمًا يكسر شوكتهم و”يطرحهم” في النار.

• أن الويل لمن “جمع” المال من الحرام و”طرحه” في خزائن الاكتناز أو “قسمه” على الشهوات المحرمة بدون احتراز.

• أن أسوأ “كسب” هو كسب السيئات، وأفضل “خسارة” هي خسارة الذنوب، وأن الله سيجزي كل نفس بما كسبت.

• أن كل إنسان يستطيع أن “يكتسب” الحسنات أو السيئات في الدنيا، و”سيُقسم” عليه في الآخرة ما اكتسب وما اجترح.

• أن لكل نفس بشرية ما “كسبت” وعليها ما “اكتسبت”، وأن من “يكسب” إثمًا فإنما يكسبه على نفسه.

• أن كل الأنبياء جاؤوا لينذروا الناس يوم “الجمع”، عندما “يُطرح” المجرمون في النار.

• أن الفكر الإسلامي حرَّم “الجمع” بين الأختين في الحياة العامة، وهما المسؤولية العامة والتجارة.

• أن عادة المنافقين دومًا، الخشية من أن تصيبهم “دائرة”، وفي ذات الوقت يتربصون بالمؤمنين “الدوائر”، لكن إرادة الله قضت بأن (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)(التوبة:98).

وهذا ينقلنا إلى هندسة الأفكار وأفكار الهندسة.

“هندسة” الأفكار

في هذه “الدائرة” تعلمت من الرياضيات أمورًا كثيرة، من أهمها:

• أن “المثلث” الذي تتساوى أضلاعه الثلاثة: الفكر، الإنسان، الإمكانات، هو “مثلث” النهوض الحضاري.

• أن بين “الأضلاع” التي في صدري يكمن أَلَدُّ أعدائي، إن لم أُحسن ترويضه بـ”رياضة” العزم و”حساب” الحزم.

• أن “الحساب” عسير، والناقد بصير، وأنه لا نجاة إلا بـ”هندسة” الأفكار وجبر الأفعال.

• أن “الرسم البياني” لتخلف الأمة يشير بوضوح إلى أن سبب السقوط هو “الجمع” الغائي للمال، و”طرح” الكرامة الإنسانية، و”الضرب” على الحائط بسائر القيم.

• أن النجمة “السداسية” ما ارتفعت إلا عندما “طرح” المسلمون الهلال في “دائرة” النسيان.

• أن “مثلث” الهلاك هو: النفس الأمَّارة بالسوء، والشيطان الموسوس، وأصدقاء السوء.

• أن “دائرة” السوء تدور على السّيّئين، وأن ما ينفع الناس فيمكث في “قاعدة” الأرض.

• أن “الخطّين المتوازيين” لا يجتمعان، وكذلك الحق والباطل.

• أن الـ”مستطيل” على خلق الله مصيره الدخول في “دائرة” العدم.

• أن “هندسة” الفكر و”جبر” الأرواح بزاد التقوى هما جناحا العروج الحضاري.

“طرائق” العروج

علمتني “الرياضيات” في هذا المضمار أمورًا كثيرة منها:

• أن الحضارة تبدأ بـ”طرح” الإنسان “للسالب” من طباعه، و”الاستزادة” في “الموجب” منها، مع الحرص على “تطبيق” كافة معارفه وترجمتها إلى “معادلات” للرقي الحضاري.

• أن الأمة التي تسلك “طرائق” المطالبة بالحقوق، دون الالتفات إلى الواجبات، تبدأ بالهرولة السريعة في “المنحنى” الحضاري إلى أن تصل إلى القاع في “رسم بياني” يشبه تخطيط القلب عند إصابته بالهبوط.

• أن العروج الحضاري بحاجة إلى “قوانين” تتكفل بإيجاد “الأرقام” الصحيحة وفق “متتاليات” فكرية و”نظريات” علمية دقيقة، إلى أن توجد “الزمرة” التي تتحمل أعباء البناء، ويتوفر “الرمز” الذي يجعل الأماني حقائق، وكذا “الجدول” الذي يرتب أولويات البناء حتى يتم الإقلاع المنشود.

• أنه عندما يكبر “المقام” يصغر “البسط”، وعندما تكبر الشعوب يصغر الحكام ويخنس الطغاة.

• أن “المسائل” الحضارية لا “تُحَلّ” إلا بتوازن “بسط” الحكام و”مقام” الشعوب.

• أن تساوي “البسط” و”المقام” ينشئ رقمًا صحيحًا، ومن ثم فإن المجتمع الصحيح والسوي هو الذي “يتساوى” فيه الحكام والمحكومون.

• أن “النظريات” الإسلامية في سائر مجالات الحياة، بحاجة إلى “تطبيق” وإلى “تدريب” حتى يصبح المسلم “برهانًا” على أحقية هذا الدين بالظهور في العالم كله.

• أن الإسلام ليس له “نظير”، ولكن لابد لأبنائه في هذا العصر من الاستفادة من الحضارة الغربية، فإن “الزوجية” قانون كوني.

• أن وسائل “الحل” متعددة، مع أن النتيجة الصحيحة واحدة، ومن ثم فإن الحق واحد و”طرق” الوصول إليه كثيرة.

• أن “نقصان” الأمانة و”زيادة” الفساد هو الوصفة السحرية لتنزل العذاب، والإيذان باضطراب “المقام” وسقوط الأمة في “دائرة” التيه الحضاري، ومن ثمَّ تمكّن العدو من “بسط” نفوذه وسيطرته.

“المسائل” الحضارية

وفي هذا السياق تعلمتُ من الرياضيات:

• أنه لا يتكبر إلا “ناقص”، ولا يتواضع إلا “الرقم” الصحيح، كالغصن المثقل بالثمار.

• أن الإنسان إذا كان يعاني من عقدة “نقص”، فإنه لن يضيف إلى هذه الحياة شيئًا، بل إنه “زائد” عليها.

• أن الإنسان إذا لم “يطرح” الطمع و”يضرب” الجزع ويكتنز القناعة، فإنه لن يغتني أبدًا مهما “جمع”.

• أن “الضرب” في الميت حرام.

• أن “الاستقامة” أقصر “طريقة” للوصول إلى حسنتي الدنيا والآخرة.

• أن الحق “خط مستقيم”.

• أن الحاكم “متوسط حسابي” للقيم التي تحملها الشعوب، سواء كانت حسنة أو سيئة.

• أن “مقام” العبودية ليس فيه “محايد”، فإن لم يكن المرء “موجبًا”، فسيكون “سالبًا”.

معادلة

“طرح” المظالم والسيئات + “قسمة” الحقوق والواجبات + “جمع” القلوب والإمكانات = “قاعدة” الإقلاع الحضاري.

(*)أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.