كان للمحضرة أثرها الجلي الكبير في صناعة وصياغة الحياة الفكرية والفقهية في مجتمع صحراء غرب أفريقيا. والمحضرة جمعها محاضر وهي نواة الفقه والعلم، وهو المكان الذي يتم فيه تعليم وتدريس العلوم في مجملها، والشرعية على وجه الخصوص. وقد بدأتْ بتعليم القرآن والحديث، وتُماثِل الكُتَّاب في مصر، أو الخلوة في السودان.
وقد كانت المحضرة من أهم المؤسسات الأهلية، التي تجلَّت فيها التأثيرات الصنهاجية في تشكيل المجتمع الموريتاني ببروز عدد من النساء تقود بعض هذه المحاضر، كشكل من أشكال التأثيرات الاجتماعية للثقافة الصنهاجية في المجتمع، وذلك من خلال إتاحة الفرصة للنساء أن تتعلم وتقوم بممارسة العلم في هذه الصحراء.
ومن عوامل التفاعل الاجتماعي والتأثيرات الفكرية للمجتمع، إتاحة الفرصة للنساء أنْ تتعلَّم وتقوم بممارسة العلم في هذه الصحراء. وهو ما يُعدُّ استمرارًا للتأثيرات الطارقيَّة الصنهاجية، حيث إن ثقافة المجتمع الصنهاجي ذات النظام الأمومي، تبدَّت في النظم التعليمية المحضرية، فلم تعرف المحاضر ولا صحراء صنهاجة عامة، تمييزًا بين الرجال والنساء في طلب العلم وتلقِّيه أو النبوغ فيه، عكس المناطق والبلدان المجاورة والأعراق الأخرى مثل التكرور والهوسا، التي كانت تعتمد نظرية حجب النساء، باعتبار أنَّ خروجها من دارها فتنةٌ، فكيف لها أنْ تتلقى العلم في مجالسه. وهذا الأمر الذي لِيمَ عليه الشيخ عثمان بن فودي(١)، لكنه لم يكن موجودًا بين البيضان، حيث عززتْ الثقافة الصنهاجية من قيمة المرأة وحريتها في التعلم بل وحبذته، وهو ما أشار إليه “ابن بطوطة” في رحلته إلى “ولاته”.
وعندما ازدهر الفقه وقاربت الحياة الفكرية في صحراء صنهاجة على النضوج، وجدنا كثيرًا من الدارسات في المحاضر من النساء اللواتي كنَّ إحدى أهم أدوات العلم والمعرفة، وشاركن بقسط وافر في الحركة العلمية في صحراء صنهاجة. ويورد الخليل النحوي عددًا من الأسماء لسيدات موريتانيات كنَّ شيخات محاضر وعالمات، مثل خُناثة بنت الأمير المغفري الشنقيطي بكار(٢)، التي تزوَّجها سلطان مراكش مولاي إسماعيل العلوي؛ وقد اشتهرت بالرياسة والعلم، وكانت تحاور العلماء.. وصفيَّة بنت المختار، وكانت عالمة تجويد وتفسير وسيرة.. وخديجة بنت المختار بن عثمان، وهي أم الشيخ التيجاني بن بابا العلوي.. وهند زوج الشيخ ماء العينين، وهي بنتُ العالم الشيخ السيد عبد الله بن أحمد بن محمد سالم، وكانت ذات دين حفظت كثيرًا من المتون، وقرأت على أبيها بعض العلم، وكانت عابدةً زاهدة، أجازها والدها في القراءات والحديث، وقرأتْ عليه بعد ذلك كثيرًا من العلوم من فقه وأصول وتفسير ولغة وأدب وشعر.. وافتتحت محضرة خاصة بها، تتلمذ فيها على يديها عدد من الفقهاء، وأخذوا عنها كثيرًا من الأوراد والأسرار وأجازتهم فيها، منهم ابنها الشيخ أحمد حبيب الله الذي قرأ عليها القرآنَ الكريم حفظًا وتجويدًا، ومتون مختلف العلوم ومختصر خليل، ومن مؤلفاتها: الدر الأسنى في أسماء الله الحسنى، و”نظم فروع الشيخ خليل” وهو رجز في نحو أربعمائة بيت. ولها ألغاز فقهية منظومة كثيرة، كانت تحاور بها إخوتها وأهلها، ونسختْ بخطها كتاب “ثمان الدرر”.. وكذلك ميمونة بنت الشيخ محمد الحضرمي.. وأختها ربيعة.. وخديجة بنت الإمام محمد العتيق.. وخديجة بنت البيضاوي.. وغيرهن كثيرات.
ومنهن من تصدَّرْن للمشيخة المحضرية، فكنَّ يُدَرّسن الطلبة والطالبات ما يدرس كبار المشايخ. وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي، وكان من أبرز سدنة العلم في الحجاز، أنه “درس الأدب على زوجة خاله، وتلقى عنها الأجرومية، وتمرينات ودروسًا واسعة في أنساب العرب وأيامهم، والسيرة النبوية، ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي، ونظم عمود النسب”.
ولهذا فليس من المستغرب أنْ تجد النساء في المحاضر يبرعْنَ في الفقه واللغة والشعر.. وأن تبلغ المرأة في التعليم المحضري شأنًا عظيمًا، حيث تذكر الروايات “أنَّ في “تينيكي” وحدها، أربعين بكرًا يحفظن الموطأ؛ منهن خديجةُ بنت العاقل الديمانية، التي كانت إذا أرادتْ أن تبالغ في سهولة أمر ما وبساطته تقول: “ذلك كالمنطق عندنا”، وأصبحتْ تدير وتدرِّس في محضرة تَخرَّج فيها علماء أجلاء، منهم أخوها الفقيه العلامة أحمد بن العاقل. ولخديجةَ شرح على سلم الأخضري في المنطق، وشرح لعقيدة السنوسي، “البراهين”. وأيضًا تعلَّم على يديها الإمام عبد القادر إمام (ملك) دولة فوتا الإسلامية(٣)، عندما سكن وعاش أثناء صغره في أحياء قبيلة أولاد ديمان”. ودرس على يديها أيضًا معه عالم بلاد شنقيط وباعث نهضة النحو في أرجائها شيخ الشيوخ المختار بن بونة الجكني، الذي يعد إمامًا للنحو في موريتانيا، ويعرف بـ”سيبويه الصحراء”، كما كان لمريم بنت المامي شرح على “الكافية”، أما آمنه بنت أحمد خليفة، فقد بلغت مرتبة القضاء. وكانت فاطمة بنت الفاضل أخت سيدي عبد الله بن الفاضل، عالمةً جليلة متفقهة في الدين، و”كان لها مع أخيها عبد الله مباحثاتٌ ومناظراتٌ في العلم والفقه، منها تفرقتها لأخيها بين المقاصد والوسائل، ومسألةُ دخول فرعون النار بنص القرآن.
ومن هاتيك العالمات من برعْنَ في الخط فكُنَّ ينسخْنَ الكتب، ومنهن شواعر مثل مريم بنت بله، التي تندَّر فيها الشيخ سيديا استحسانًا لشعرها قائلاً: “المرأةُ كلُّها عورةٌ”. كأنَّ شعرَها لروعته بعضُ مفاتنها. وكانت مريم مانة بنت بله تحفظ القاموس المحيط، وكانتْ آمنة بنت الخال عارف تنظم في المحبة شعرًا رقيقًا وكذلك مريم بنت محمد بن الطلبة.
وتوجد بدار الوثائق المصرية نسخةٌ نادرةٌ من نظم مالك بن المرحل لفصيح ثعلب المسمَّى “التلويح” بخط آمنة بنت الطالب محمد الشنقيطية، أرسلتها للشيخ والعالم اللغوي محمد محمود بن التلاميذ أثناء إقامته في مصر. وقد اشترتْ إحدى عالمات وكريمات تيشيت -وهي عائشة بنت أبي بكر بن الأمين المسلمي- نسخةً مخطوطة من فتح الباري على صحيح البخاري بقيمة سبعين حقًّا من الإبل ذهبًا وأوقفتها على المكتبة بالمدينة.
ومن النساء العالمات من حُكّمتْ في نزاع بين القبائل في وقائع بينها مثل بنت الدريجة التي حكمتها قبائلُ تيشيت، في الواقعة التي نشبت في رابع شوال 1248هـ/24 فبراير 1833م، وهي آخر أيام الحرب بين أولاد موسى وأولاد أحمد من الأقلال. وفيه دارت الدائرة على أولاد موسى، وذكر محمدو بن المرابط في تحقيقه لحوليات تيشيت، أنَّ الطرفين المتنازعين حكَّماها بينهما فقضت، وجاء حكمها نظمًا. ومن سيدات أهل العلم في المحاضر أم محمذن فال المختار بن متالي، الذي ربته أحسن تربية وتعلم عليها، حتى إنَّ الروايات تذكر أنه لم يدرس على أحدٍ غيرها. وقد فتح الله عليه في جميع العلوم وصار موردَ الطلاب ومأمن الخائفين.
وشاعت لدى الجمهور رواية الثلاثمائة فتاة اللواتي كنَّ يحفظن الموطأ في صفوف تكانت إبان ازدهارهم في تنيكي.. وفي ذلك يروي المختار بن حامد نقلًا عن العلامة أباه بن محمد الأمين اللمتوني، أن أكثر بقاع الدنيا علمًا إذ ذاك مصر وتنيكي.
ومن خلال ما سبق، يتبين مدى النظرة التبجيلية التي تتمتع بها المرأة في الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في المجتمع الصنهاجي، حيث شاركت بدور كبير في تأسيس وتعزيز النهضة العلمية والفكرية جنبًا إلى جنب مع شريكها الرجل، بل تقدمت عليه في بعض النواحي حيث كانت أستاذة للرجل ومرشدة له، وهو ما يشكل للمرأة من خصوصية فريدة لهذا المجتمع دون سواه من المجتمعات، اكتسبها من فهم سليم للدين الإسلامي، الذي يحل المرأة مكانة عالية في العلم والتعليم والنهضة الفكرية والثقافية.
(*) كاتب وصحفي، نائب رئيس تحرير الأهرام / مصر.
الهوامش:
(١) وُلِد في قر قريته “طَقِل” الواقعة في جمهوريَّة النيجر، عام 1169هـ/1754م، اشتغل منذ صغره بالدعوة إلى الله بعد أن أخذ عن والده القرآن الكريم وبعد تفقهه في الدين، من مؤلفاته “إحياء السنة وإخماد البدعة”، و”إرشاد الأمة إلى تيسير الملة”.
(٢) فقيهة وأديبة وعالمة بالحديث والقراءات السبع، كانت لها اسهاماتها في حياة المغرب السياسيَّة والفكريَّة بعد زواجها من السلطان المغربي مولاي إسماعيل، نالت عنده حظوة عظيمة فكان يستشيرها،، توفيت بفاس سنة 1255هـ/1842م.
(٣) المامي (الإمام) عبد القادر كان، أمير وشيخ دولة الأئمة “فوتا” السنية التي قامت على ضفة نهر السنغال (1193-1221هـ/1779-1806م) تولاها بعد وفاة “المامي سليمان بالْ” زعامة من 1779م حتى 1806م. توفي وعمره ٨٠ عامًا.