يتكون جسم الإنسان من أعضاء كثيرة، وكل عضو منها مكلَّف بوظيفة يقوم بها على أكمل وجه.. ولا شك أن هذه الأعضاء كانت مصدر إلهام للعلماء عبر التاريخ -وما زالت- لاكتشاف وابتكار العديد من الآلات المفيدة التي تحاكي أعضاء الجسم البشري.
عينك آلة تصوير ضوئي (كاميرا)
تلتقط عيناك الصور بنفس الطريقة التي تقوم بها عدسة الكاميرا. فلو نظرتَ إلى عينيك في المرآة، سترى مساحة بيضاء تتوسطها دائرة ملونة -سوداء أو بنية أو زرقاء أو خضراء- تسمى القزحية. وعندما تمعن النظر فسترى بؤبؤ العين أو إنسان العين؛ الدائرة الثانية داخل تلك الملونة، ولكنها معتمة جدًّا سوداء اللون. ويدخل الضوء المنعكس عن الأشياء التي تراها، إلى عينك، عن طريق هذا البؤبؤ الذي يتسع ليسمح بدخول أكبر كمية من الضوء في الأوقات التي يقلُّ فيها الضوء، ويضيق في حالة زيادة الضوء عن حاجة العين. ثم يمرُّ الضوء عبر عدسة محدبة -أي مقوسة قليلًا للخارج- تشبه الزجاج الرقيق. تقوم هذه العدسة بتجميع الضوء لتكوين صورة لما نراه وعكسها على الشبكية، وهي غشاء حساس للضوء يوجد على الحائط الخلفي للعين، ولكن الصورة تكون مقلوبة، وأخيرًا ترسل الشبكية الصورة إلى المخ الذي يعدلها للوضع الصحيح.
والكاميرا أيضًا تتكون من عدسة محدبة تجمع الضوء، وتعكس الصورة مقلوبة على الفيلم الحساس للضوء مثل الشبكية تمامًا، وأنت تقوم بتحريك عدسة الكاميرا لتصور الأجسام البعيدة والقريبة بوضوح.
ليست الكاميرا فقط التي اعتمدت على العدسة في الرؤية، بل الكثير من المخترعات البصرية، مثل التليسكوب الفلكي الذي مكَّن البشر من مشاهدة الكواكب ودراستها، ثم الذهاب إليها واكتشاف الحقائق المذهلة عن الفضاء الخارجي. وكذلك المجهر (الميكروسكوب) الذي يمكِّننا من رؤية أصغر الكائنات الموجودة حولنا، التي لا تستطيع أعيننا أن تراها، مثل البكتريا والفيروسات.
دماغك حاسب آلي
ينقسم الجهاز العصبي إلى جهاز مركزي وآخر طرفي. يتكون المركزي من الدماغ والنخاع الشوكي؛ ويمثل الدماغ مركز السيطرة الحقيقي، الذي يستقبل المعلومات الواردة إليه من جميع أجزاء الجسم، ثم يقوم بإرسال الأوامر الضرورية عبر النخاع الشوكي.
ويتشابه الحاسوب مع عقل الإنسان من حيث مبدأ العمل، إذ تستقبل الحواس في الإنسان البيانات، وتنقلها بوساطة الأعصاب إلى الدماغ الذي يعمل كوحدة المعالجة المركزية في الحاسوب، فيقوم بتحليل هذه البيانات على أساس تعليمات وأوامر مخزنة في الذاكرة، ثم يتخذ قراره لأداء عمل ما، بناء على التعليمات في الذاكرة، فيبدأ إما بالكلام وإما بالحركة. لكن الجهاز العصبي أكثر تعقيدًا من أفضل وأكبر أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) في العالم، حيث تتمثل مهامه في تنسيق جميع أنشطة الجسم ووظائفه دون توقف حتى في أثناء النوم.
الآلات الموسيقية تحاكي حنجرتك
تعتبر الحنجرة (صندوق الصوت) آلة موسيقية ربانية الصنع، لم تخترع كل الأصناف المتنوعة من الآلات الموسيقية إلا لتقليدها ومحاكاتها.
ويعدُّ التواصل الصوتي أحد أعمال الجهاز التنفسي، فالهواء الساري عبر القصبة الهوائية إلى الرئتين ومنهما، يمرُّ في الحنجرة بين الأوتار (الحبال) الصوتية، فيتذبذب الوتران ويولدان الأصوات، ومطّ الأوتار وتذبذبها بمقادير متباينة، هو المسؤول عن ارتفاع الصوت أو انخفاضه. والأصوات الناتجة عن الآلات الموسيقية -خصوصًا الوترية- تصدر بالطريقة نفسها تقريبًا عندما يتذبذب الوتر، فيحدث أصواتًا يتحكم فيها العازف بطريقة معينة لكل آلة، تمامًا كما يقوم كل من لسانك وشفتيك وأسنانك وخديك بتشكيل الأصوات الصادرة منك. وليست الآلات الوترية فقط التي تعتمد على فكرة الاهتزاز لتوليد الأصوات، بل أيضًا آلات النفخ التي يهتز الهواء بداخلها محدثًا أصواتًا مختلفة عندما يخرج من فتحاتها.
أُذنك ميكروفون
الميكروفون (Microphone) أو اللاقط، هو جهاز يقوم باستقبال الأصوات على شكل موجات صوتية تهز الغشاء المشدود بداخل المكبر، فتتحول هذه الاهتزازات بواسطة معدَّات صغيرة، إلى إشارات كهربائية تنتقل عبر الأسلاك المعدنية إلى السماعات التي تعمل بطريقة عكسية، حيث تعمل الإشارات على جعل غشاء السماعة يهتز، فتتولد الموجات الصوتية وتنتقل في الهواء إلى أذن المستمع. يعمل الميكروفون على تضخيم الصوت البشري العادي من خلال مكبرات الصوت، ويستخدم في حفلات مخاطبة الجمهور، وفي بث العروض التلفازية والإذاعية، وتسجيل الصوت للأفلام، وطبع الأسطوانات، وتسجيلات الكاسيت.. وتُستَخدم اللاقطات أيضًا في الإذاعات الشعبية وإذاعات الهُواة.
وهنا نجد أيضًا، أن فكرة الميكروفون تحاكي تركيب ووظيفة الأذن البشرية؛ فهي مكونة أيضًا من صوان خارجي يقوم بتجميع الموجات الصوتية، وتوصيلها إلى القناة السمعية التي تؤدي إلى غشاء رقيق يشبه الجلد يسمى “غشاء الطبلة”. يتذبذب ذلك الغشاء بفعل اصطدام الموجات الصوتية به، ثم تنتقل الذبذبات عبر ثلاث عظيمات (المطرقة والسندان والركاب) تعمل على تكبير الموجات، ونقلها إلى الأذن الداخلية التي تحوي سائلًا ينقل الاهتزازات إلى الأطراف العصبية، التي تقوم بتحويل الذبذبات إلى إشارات عصبية، وإرسالها إلى الدماغ الذي يحوِّلها إلى أصوات لها معنى.
أسنانك أدوات تقطيع وطحن
تمثل الأسنان المحطة الأولى في طريق دخول الطعام إلى الجسم، وفيها تتم عمليات عديدة؛ فهي أولًا تقضم من كتل الطعام الكبيرة -مثل التفاح- قِطَعًا صغيرة لتناسب حجم تجويف الفم، والأسنان الأمامية المعروفة بالقواطع هي الأنسب لهذه المهمة. ثم تقوم الأنياب المجاورة للقواطع بتمزيق الطعام، بعد ذلك تعمل الضواحك والطواحن -وهي الأسنان الخلفية العريضة- على سحق الطعام وطحنه ومزجه باللعاب، ليتحول إلى عجينة طرية سهلة البلع.
ونحن نستخدم في حياتنا اليومية العديد من الأدوات التي تحاكي عمل الأسنان، كالسكاكين، وكسارات البندق، والمطارق، وأجهزة تحضير الطعام الكهربائية، وغيرها من الأدوات التي نستخدمها لقطع وتفتيت الأشياء.
هيكلك العظمي الآلات الرافعة
من حيث التركيب، فإن الهيكل العظمي للإنسان يشبه الماكينة متعددة المهارات؛ فهو مكوَّن من 208 عظمة لدى الأشخاص البالغين، ترتبط معًا من خلال “المفاصل” التي تربط عندها نهاية كل عظمة مع بداية العظمة التالية. وتأخذ هذه المفاصل أشكالاً مختلفة تمكِّننا من تحريك العظام في اتجاهات كثيرة.
وفكرة “المفصل”، موجودة في الآلات جيدة التصميم التي تدور أو تنزلق حول نفسها، مثل مفصلات الأبواب والمنشار وغيرها. تقوم هذه الحركات على فكرة “الروافع الهندسية”، ومن الروافع ما هو صغير ونستعمله يوميًّا، مثل المقص وكسارة البندق أو الجوز، والملعقة أو الشوكة، والسكين وغيرها، ومنها أيضًا ما هو كبير، مثل آلات الرفع الضخمة التي يستعين بها المهندسون في تشييد المباني.
وداخل المفاصل توجد أسطح ملساء تسمى “الغضاريف”، تعمل كمضادة للتآكل الذي يحدث عندما تحتك أجزاء الماكينة بعضها بعضًا. وكما أن روافع أي آلة تحتاج إلى تشحيم أو تزييت لتسهيل حركتها، فإن لمفاصل الجسم زيت تشحيم خاصًّا يسمى “السائل الزلالي”، يعمل على تقليل الاحتكاكات بين العظام.
كليتك والمليون فلتر
ينتج عن النشاط الأيضي للخلايا، كمية كبيرة من المخلفات الحيوية مثل اليوريا، وحمض البوليك، وغير ذلك من الكيماويات الضارة، والأملاح الزائدة، التي يجمعها الدم لصرفها عبر الكليتين، حيث تخرج هذه المواد مع الماء الزائد على شكل سائل “البول” يختزن في المثانة إلى حين طرده.
تعمل الكلى على تنظيم ضغط الدم وفلترة 200 لتر يوميًّا، كما يعتمد نجاح عملية الترشيح هذه، على كفاءة وظيفة الكلى؛ فالنسيج الكلوي مجهز بحيث يحتفظ بالمواد المفيدة للجسم ويتخلص من المواد التي قد تؤدي إلى ضرر الجسم، حيث تحتوي كل كلية على مليون وحدة ترشيح دقيقة (فلتر) تسمى “الكبيبة” تعمل على ضبط كميات المياه في الجسم، وإخراج كمية من البول تقدر بحوالي ١,٥ لتر يوميًّا، تنتج عن ترشيح حوالي 180 لترًا من السوائل داخل الكلى، وتتطلب عملية الترشيح هذه كمية هائلة من الدم. ولذلك تتلقى الكليتان على مدار اليوم، دفقًا عظيمًا من الدم يصل إلى حوالي 20% من الدم الخارج من القلب (2000 لتر يوميًّا تقريبًا). وتحاكي طريقة عمل فلاتر المياه (فكرة المُرشِّح) وظيفة الكلية، وتعمل بالطريقة ذاتها تقريبًا. وارتفاع ضغط الدم ومعدل السكر لفترات طويلة، من الأسباب التي تؤدي إلى الفشل الكلوي، وقد لا تظهر الأعراض إلا بعد تلف 70% من فلاتر الكلى، حيث لا يتبقى إلا 30% من طاقة هذه الفلاتر.
جلدك حقيبة وعازل حراري
عندما كنت تذهب إلى المدرسة كنت تحمل كتبَك المدرسية داخل حقيبة، حتى لا تتعرض للغبار والأتربة ومياه والأمطار. في جسمك أيضًا، تلعب الأعضاء المختلفة دور الكتب المدرسية؛ بينما يقوم جلدك بدور الحقيبة التي تحفظ أعضاءك، فهو مثل السترة الواقية من الأمطار، تفرز بعض الغدد الموجودة على سطحه مادة زيتية تحمي الجلد وتجعله مرنًا ورطبًا.
يعمل جلدك أيضًا كعازل جيد؛ فعندما شق علماء التشريح الأوائل الجلد، وجدوا تحته طبقه لينة صفراء اللون أسموها “الطبقة الدهنية تحت الجلد، تعمل هذه الطبقة كالبطانة العازلة في معطف مُبطن، فتحافظ على دفء الجسم وتمتص الصدمات أيضًا.
ومن جهة أخرى، يعمل الجلد على تثبيت درجة حرارة الجسم الداخلية؛ فعندما تزداد درجة الحرارة عن معدلاتها، يقوم بإفراز العرَق عن طريق غدد مخصصة على سطح الجلد، فتقلل هذه العملية من درجة الحرارة. أيضًا، يساعد الجلد على الاحتفاظ بالحرارة في حالة البرودة، من خلال تضييق الأوردة الدموية.
كانت تلك مجرد أمثلة للتشابه الوظيفي بين أجهزة نستخدمها وأجهزة الجسم البشري، إذ لا يتسع المجال لمزيد من فيوض التأمل في صنع الله وصنع البشر، الذي يُظهر لنا شكلين من التعبير عن فكرة وظيفية واحدة، إلا أننا نستطيع أن نحس داخل كل عضو من أعضاء الإنسان، بالإبداعات المذهلة التي تنظم وتركب وتعطي الأوامر لكل خلية داخل كل عضو بمنتهى الدقة والرهافة. أما الاختراعات البشرية فهي مجرد أداء آليّ يحركه ذكاء نائم. كما أن هذا التماهي بين الفكرة المركزية التي تقوم عليها وظائف أعضاء الجسم البشري، ووظائف العديد من الآلات والاختراعات من حولنا، يشير إلى أن الكون منطوٍ داخل الإنسان، وأنه يستطيع الإحساس بسر الكون وروعة الخلق، من خلال الغوص داخل نفسه. فالاختراعات والآلات من حوله ليست سوى انعكاس لروعة الصنعة الربانية الكامنة في جسمه. وتحسب أيها الإنسان أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
(*) طبيبة متخصصة في علم الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة / مصر.