أسماك تتسلق الأشجار.. لماذا؟

معظمنا يعتقد أن الأسماك تموت عندما تخرج من الماء. بينما الأمر عكس ذلك؛ فهناك أسماك نجحت في كسر الصورة المألوفة هذه، فخرجت من الماء، وتسلقتْ على الأشجار، وراحت تتنقل بين الأغصان بكل سهولة!

قبل الخوض في الموضوع، يجب أن نعرف أن ربنا عز وجل برحمته اللانهائية، منح الكائنات الحية تحت الماء أعضاء وأنسجة خاصة، لتتمكن من البقاء على قيد الحياة، وتتحرك بسهولة في البيئة التي تعيش فيها؛ فشَكْلُ الجسم للأسماك والجلد الزلق الذي يخفف الاحتكاك ويقلل من استهلاك الطاقة، والزعانف الشبيهة بالمجاديف التي تمكّنها من الحركة في الماء، وعضو الخط الجانبي الذي يكشف عن الاهتزازات والتغيرات في تيار الماء المحيط بها، والخياشيم التي توفر لها استنشاق الأوكسجين المذاب داخل الماء.. كلها أجهزة أساسية صُمِّمت عليها هذه المخلوقات المائية.

من المعروف أن معدل الأوكسجين في الماء، أقل بثلاثين مرة من معدل الأوكسجين في الهواء. لذا زُوِّدت معظم الأسماك بأوكسجين خاص بها غير الذي في الهواء. نعم، تتنفس الأسماك عبر خياشيمها بدلاً من الرئة التي تستخدمها المخلوقات البرية. وللحصول على الأوكسجين، تقوم الأسماك بإدخال الماء عبر الفم، ثم إخراجه بواسطة الممرات الخيشومية. وحين يتدفق الماء على سطح الجدران الرقيقة للخياشيم، ينتقل الأوكسجين المذاب إلى الدم. ولزيادة الكفاءة في امتصاص الأوكسجين لدى الأسماك، يجري الدم عبر الخياشيم ويُضخ في الجهة المعاكسة (التدفق العكسي) لتدفق المياه فوق الخياشيم، ومن ثم ينتقل إلى خلايا الأسماك لتتحقق عملية التنفس وتواصل السمكة حياتها (١).

إذا كان موطن الأسماك المياه العذبة أو البحار والمحيطات، وتم إعدادها بأجهزة خاصة توفر لها الأوكسجين وتقيها من التلف تحت الماء، فكيف يُتَصور إذن، أن تخرج هذه الكائنات إلى عالم غير عالمها، وتدخل في نظام غير نظامها فتلقي بنفسها إلى التهلكة أو الموت؟!

هناك أسماك كسرتْ هذا المألوف لدينا كما قلنا في بداية المقال، فخرجتْ من الماء وتسلَّقتْ على الأشجار وتنقَّلتْ بين الأغصان.. نعم، إن قدرة هذه الأسماك على التسلق ليس صعبًا كما يبدو؛ إنها تعتمد في ذلك على طرق تكيفتْ بها مع بيئتها الطبيعية.. تمتلك هذه الأسماك أجسامًا طويلة ونحيلة، وزعانف جانبية طويلة، وعراقيب قوية، ومرونة عالية، مما يمنحها القدرة على تسلق الأشجار المائلة والممتدة فوق سطح الماء؛ حيث يتمتع الجزء السفلي من أجسامها بتجويف يعمل كوعاء يحتفظ بالماء، وتتحرك السمكة عن طريق احتفاظها بهذا الماء بين العراقيب التي تستخدمها مثل الساقين الخلفيتين للدفع نحو الأمام.

سمكة نطاط الطين

تنتسب الأسماك التي تتسلق الأشجار إلى مجموعة الأسماك الزاحفة، وهي مجموعة صغيرة تضم بعض الأنواع، منها سمكة “نطاط الطين” (Periophthalmodan Schlosseri) التي تستخدم زعانفها الصدرية في الزحف على جذوع الأشجار والأرض. تعيش هذه السمكة في المناطق الاستوائية، بما في ذلك المحيط الهادئ وساحل المحيط الأطلسي بأفريقيا. هذه الأسماك تملك قدرة خاصة على التنفس الهوائي عن طريق عضو يسمى المتاهة، الذي يسمح لها بالبقاء خارج الماء لفترات طويلة، ومن ثم التحرك على الأرض من خلال زعانفها الصدرية العمودية (٢). ولكن ما هي طريقة التنفس التي مُنحت لهذه السمكة خارج الماء؟

إن سمكة “نطاط الطين” تملك خياشيم واسعة تمكّنها من التنفس خارج الماء؛ إذ تغلق هذه الخياشيم بإحكام لتحتفظ بفقاعات من الهواء، وبالتالي تحافظ على الخياشيم الرطبة أثناء وجودها خارج الماء.. إنها عملية تمدّ السمكة بالأوكسجين خارج الماء، تمامًا مثل أسطوانات الغاز التي يستخدمها الغواصون.

سمكة كيليفيش المنجروفية

هي من الأسماك التي تستطيع الخروج من الماء والتسلق على الأشجار أيضًا. تستطيع سمكة “كيليفيش” أن تغير خياشيمها لتتمكن من العيش خارج الماء. فعندما يجف الماء حول أشجار المنجروف، تتسلق هذه الأسماك على الأشجار وتختبئ بين أوراقها حتى عودة المياه. وبمجرد الشعور بالأمان، تقوم بتغيير خياشيمها من جديد وتعود إلى الماء مرة أخرى. والملفت للنظر أن بعض هذه الفصائل تصطاد فرائسها في البر، وتستطيع العيش خارج الماء أكثر من شهرين. تعيش هذه الأسماك في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حول العالم. وتستخدم زعانفها الصدرية والبطنية للانزلاق على الأرض أو التثبت على جذوع الأشجار. تتغذى سمكة كيليفيش المنجروفية على الحشرات والحيوانات الصغيرة التي تسقط من الأشجار، وتتنفس في الهواء بفضل خياشيمها المتميزة وجوفها الهوائي. كما تعتبر هذه الأسماك مثالاً على التكيف البيولوجي مع البيئات المختلفة(٣).

سمكة Anabas Testudineus

هي نوع من الأسماك التي تملك القدرة على الخروج من الماء والتحرك على اليابسة. تعيش هذه الأسماك في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية من آسيا وأفريقيا، وتفضل المياه الضحلة والهادئة. تتميز هذه الأسماك بقدرتها على استخدام الهواء الجوي كمصدر للأوكسجين بفضل خيشومها الخارجي الذي يعمل كرئة. عندما تنخفض مستويات الماء أو تزداد درجة حرارتها، تقوم هذه الأسماك بمغادرة بركتها والانتقال إلى بركة أخرى. تفعل ذلك بالزحف على الأرض عبر زعانفها الصدرية، أو التعلق بالنباتات أو الجذور أو الشجر عن طريق فكها. كما تستطيع هذه الأسماك البقاء خارج الماء لعدة ساعات إذا كانت رطبة. ويجدر الذكر هنا، أن مهارات هذه السمكة المبهرة في التسلق، تجعلها موضوع اهتمام العديد من الباحثين في البيولوجيا الحيوانية (٤).

هناك أسماك أخرى قادرة على استغلال الظروف الطبيعية والتنقل بين المواقع المائية المختلفة والأراضي الجافة أيضًا. ومن الأمثلة لهذه الأسماك، وسمكة الفنَّة الشائكة، وسمكة البوكو شمال أستراليا، وبعض أنواع الكاركينوس، والغواصة الساحرة، وسمكة الباكو السوداء.

لماذا تتسلق على الأشجار؟

لعل الهدف الرئيسي لهذه الأسماك من تسلق الأشجار، هو البحث عن الغذاء من الحشرات الطائرة، أو الفواكه التي تنمو فوق سطح الماء.. أو إن الخروج من الماء والتسلق على الأشجار، قد يمكِّن هذه الأسماك من الفرار من العدو، أو الخلاص من المياه المضطربة.

ما زالت الدراسات والأبحاث جارية لفهم كيفية تأقلم هذه الأسماك مع الحياة البرية، وتنمية قدرتها الفريدة هذه على التسلق. ولا شك أن وجود الأسماك التي تتسلق على الأشجار، من الظواهر المبهرة في عالم الأحياء. ولكن مهما كان الأمر، فإن هذه الكائنات المخلوقة بملامح وأشكال مختلفة، لا تتعارض مع نظام الأرض قوانينها التي وُضعتْ لها، مما يدفع الإنسان إلى التأمل بقدرة الله جل جلاله وعظمته وحكمته وعلمه الذي لا ينفد، ومن ثم ليكشف عن أسرار الصنعة البديعة في الخلق والخلائق.

(*) كاتب وباحث تركي.

الهوامش

(١) ‘Dissolved Oxygen’, www.fondriest.com/environmental-measurements/parameters/water-quality/dissolved-oxygen/

(٢) https://en.wikipedia.org/wiki/Mudskipper

(٣) https://www.facebook.com/Elmina.media2/posts/209212853937455/

(٤) ‘Anabas’, en.wikipedia.org/wiki/Anabas