البيونية الروبوتية.. من اخترع أول روبوت في التاريخ؟

يهتم علم البيونيّة بتصميم وبناء منظومات وآلات اصطناعية مشابهة للكائنات الحية؛ بالاعتماد على دراسة الوظائف البيولوجية للأعضاء الحيوية. فكلمة “بيونية” (Bionics) تعني “التشابه مع الأحياء”، وهي مشتقة من كلمتي “Biology+Electronics”، أي كائنات اصطناعية آلية غير حية تقوم بوظائف الكائنات الحية.

لقد أسهمت البيونية بإفادة المتخصصين في الذكاء الاصطناعي في تطوير روبوتات مصنوعة على صورة الكائنات الحيةَ، وتتشابه معها إلى حدٍّ كبير في الصورة والهيكل والوظيفة، وذلك من خلال دراسة التركيبة الجسمانية، ووظائف الأعضاء، وميكانيكية الحركة المفصلية والعصبية والعضلية، والحواس المتنوعة لهذه الكائنات، ومن ثم تصميم الروبوتات على غرارها.

لقد تمَّ تطوير روبوتات الخدمات لتعمل في بيئتنا البشرية الطبيعية التي نعيش فيها، ومن ذلك روبوتات خدمة المرضى، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة التي تعمل في بيئة الإنسان. وكذلك وعلى ذات المنوال، فهناك روبوتات تعمل في بيئة كائنات حيّة أخرى يستلزم تصميمُها أن يكون في صور مشابهة لصورة الكائنات الحية التي ستعمل فيها، وهذا ما أسموه بـ”البَيُونِيَّة الروبوتية” التي أنتجت لنا الروبوتات الطائرة؛ اعتمادًا على دراسة التركيبة الجسمانية للطيور وحركة مفاصلها وأعضائها، كالروبوت النحلة، وهو روبوت صغير مستلْهَمٌ من البنية الحيوية للنحلة، يطير باستخدام عضلات صناعية، ومجهَّزٌ بحسّاسات ذكية وإلكترونيات متناغمة للتحكم، تحاكي عمل عيني النحلة وقرون استشعارها، مصمَّم ليؤدي عمل النحلة في تلقيح الزروع والثمار، بالإضافة إلى القيام بوظيفة البحث والإنقاذ والمراقبة.. مرورًا بالروبوتات الغواصة التي تقلد حركة الأسماك وتموجها للسباحة في الماء، والقيام باستكشاف الملوثات البيئية تحت الماء، أو القيام باستكشاف لأنابيب الغاز والنفط، وخطوط الإنترنت، والسفن الغارقة في قيعان المحيطات والبحار، وصولًا إلى الروبوتات الزاحفة التي تشبه الأفاعي في صورتها وحركتها، وانتهاءً بالروبوتات البشرية (الإنسان الآلي) أو “الرجل البيوني” (Bionic man).

لا جرمَ أن القضايا التي ستثار مباشرة عند الحديث عن “البيونية الروبوتية”، هي تلك القضايا التي تتعلق بمسألة التصوير والنحت وصناعة المجسَّمات المشابهة للكائنات الحية في صورتها وهيئتها. لقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على تحريم رسم المجسمات على شكل الإنسان وذوات الأرواح على شكل قد يمكن العيش به.

واستثنى الفقهاءُ من ذلك، مجسمات الجواري والبنات (العرائس) وأشباهها، مما يصنع للعب البنات به والترفيه، فأجازوا تجسيمَها واقتناءَها وبيعَها وشراءها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المشهور: “كنت ألعبُ بالبناتِ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يَنْقَمِعْن منه، فيُسَرِّبهن إليَّ، فيلعبن معي” (رواه البخاري)، وقد جاء تعليل هؤلاء العلماء جوازَ الأمر ههنا بالحاجة إلى ذلك؛ لما فيه من تدريب البنات في صغرهن على تربية أولادهن، وتأهيلهن للاهتمام بالرضّع والأطفال.

ولما كانت القاعدة الأصولية عند جمهور الأصوليين، أن المستثنَى عن قاعدة سابقة ويتطرَّق إلى استثنائه معنى، يقاسُ عليه كلُّ مسألة شابهته وشاركته في علة الاستثناء، فما المانع من قياس الروبوتات على مجسَّمات البنات، بجامع المنفعة والحاجة في كل منهما؟! انظر إلى روبوتات التعليم على سبيل المثال، فهي ليست بأقل فائدة وأهمية للطلاب والطالبات، من العرائس المصمَّمة للعب البنات، بل إن العاقل يجد أن فائدتها تربو وتزيد، فما بالك بروبوتات الإنقاذ واكتشاف الألغام، والروبوتات الصلبة الخاصة بالتعامل مع البراكين والغوص في أعماق البحار، والوصول إلى الأماكن التي لا يمكن أن يصل إليها الإنسان بجسده اللحمي؟! وكذلك الأمر في الروبوتات الطبية وغيرها من روبوتات الخدمة، إنها أعظم نفعًا للبشرية من مجسمات اللَّعب، ويحتاج الناس إليها بشكل أكبر.

بل إننا إن استقرأنا أقوال الفقهاء المعاصرين، فسنجدهم يحملون التحريم الوارد في ذوات الأرواح من الصور والتماثيل على أنه من باب المحرم لغيره لا لذاته؛ فهو تحريمٌ لما يُفعَلُ بها لا لذواتها، فالتحريم قائمٌ عندما يَقصِد صانعُها مضاهاة خلق الله مثلًا، أو أن تُتَّخذ للعبادة والتقديس، فإن انتفى ذلك عنها فإن الحرمة تنتفي، بدليل إذن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما للمصوِّر الذي سأله عن تصوير الشجر وما لا نفس له، ومنعه من تصوير ذوات الأنفس والأرواح، لأنها كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية، والناس حديثو عهد بالجاهلية.. أما حينما صارت صورُ ذوات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت عنها مظنّة العبادة، اتخذ بعض أئمة السلف شيئًا من الصور في بيوتهم، كما أن الصحابة الكرام قد تركوا الصور في إيوان كسرى ولم يحطموها؛ وذلك لانتفاء مظنّة العبادة عنها، فدلَّ ذلك على أن الحرمة فيها متعلّقةٌ بالقصد لا بالذات، بحيث لو زال عنها التَذَرُّع بها إلى عبادة غير مشروعة، أو إلى تعظيم ديني، أو مضاهاة خلق الله، فإن التحريم يزول تلقائيًّا، فإذا انتفت العلّة انتفى السبب.

ولعل هذا التخريج يفسِّر لنا النصوصَ والأخبارَ المدونةَ في كتب السِّيَر والتاريخ من وجود مجسَّمات لذوات الأرواح من المخلوقات، صمَّمها وتفنَّن بها علماءُ المسلمين للانتفاع والاستفادة منها في أداء الأعمال النافعة للإنسان. وها هو الإمام القرافي رحمه الله (ت 684هـ)، عندما تناول “ماهية الكلام” في باب اللغات من كتابه “نفائس الأصول”، ونقلَ تعريف أبي الحسين البصري رحمه الله (ت 436هـ) فيه بأن الكلام هو “المنتظِمُ من الحروف المسموعة المتميِّزة المتواضع عليها”، قال: “وربما زِيدَ فيه فقيل: إذا صَدَرَ عن قادرٍ واحد”. انتقد القرافيُّ هذا التعريف بأنه غيرُ جامع، بحجة أن قولهم: “إذا صَدَر عن قادرٍ” يقصرُ الكلامَ على الحي فقط، مع إمكان حصوله من الجمادات، فقال رحمه الله: “اشتراطُ القادرِ يُصَيِّر الحدَّ غير جامع، فإن القادِر لا يتصور إلا في حي له إرادة وقدرة، والكلامُ قد يحصل من الجماد، فإن الأصوات والحروف لا يشترط فيها الحياة، فإنها رياح تنضغط في مجار، وهذا المفهوم يتأتى في الجماد”.

 إن هذا الإبداع واتساع الأفق عنده رغم أنه عاش في القرن السابع الهجري، قاده إلى أن يحكي عن مجسَّمات ناطقة ومتحركة صمَّمها المتخصصون للملوك والسلاطين، لخدمتهم وتعريفهم بمواقيت الصلاة، ومساعدتهم في الوضوء، والاستعلام عن الوقت وغير ذلك. وذكر أنه -رحمه الله- صنعَ هذه المجسمات المتحركةَ بنفسه، غير أنه عجز عن صنعة الكلام، فقال رحمه الله: “بلغني أن الملك الكامل وُضِع له شمعدان، كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضت عشرُ ساعات طلع شخص على أعلى الشمعدان وقال: صبَّحَ الله السلطانَ بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع، وعَملْتُ أنا هذا الشمعدان، وزدتُ فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمرة الشديدة، في كل ساعة لهما لون، فيعرف التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص ويخرج شخص غيره، ويُغْلق باب ويُفْتَح باب، وإذا طلع الفجرُ طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى الأذان، غير أني عجزت عن صنعة الكلام، وصنعت أيضًا صورةَ حيوان يمشي ويلتفت يمينًا وشمالًا ويُصَفِّر ولا يتكلم”، ثم قال رحمه الله معقّبًا على ذلك: “وبالجملة، فاتفق العقلاءُ على أن الأصوات لا تفتقر للحياة، وإذا نطق الجمادُ بالكلام فهو كلام عند العرب، ولم يندرج في الحد”.

ولا شك أن ما صنعه الإمام القرافي رحمه الله، وما حكى عنه بهذه الصورة المتطوّرة عن ذلك العصر، ما هي إلا روبوتات تشبه روبوتات الخدمة في عصرنا الحديث، ولم يستنكِر اقتناءها، فضلًا عن تصميمها، لأنها ما أعدّت للتعظيم والتقديس، وإنما أعدّت للانتفاع بها في أغراض جائزة ومشروعة.

ويعدُّ بديعُ الزمان عبد العزيز إسماعيل بن الرزاز الجزري (ت 602هـ) من أشهر المهندسين القدماء في تصميم وصناعة هذه المجسّمات والروبوتات والآلات الميكانيكية المتحركة، والتي صمّمت أصلًا لأداء مهامّ معينة. وقد ألَّف كتابه الرائع في صناعة الحِيَل الهندسية، سماه “الجامع بين العلم والعمل في صناعة الحِيَل”، وقد وصف فيه نماذج من الآلات والمجسّمات ذاتية الحركة، كآلات ضخ الماء ورفعه، والساعات المائية ذاتية التشغيل والتي صمّمها في صورة حيوان مجسَّم، كساعة الفيل وساعة القرد وساعة الرامي البارع وغيرها، الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأنه مبتكِرُ علم الروبوتات، وواضعُ حجر الأساس في بابه.

كما يُعتبر بديع الزمان إسماعيل بن الرزاز الجزري من أوائل مَن اخترع روبوت الخدمة المنزلية. فقد طلب منه أحدُ حكام عصره أن يصنع له آلة تُغْنيه عن الخَدَم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له آلة أسماها “نافورة الطاووس”، وكانت على هيئة صبي منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّر الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى من وضوئه يُقدِّم له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرّد.

وفي النهاية، فإننا عندما ننادي بجواز تصميم الروبوتات والمجسمات البشرية والحيوانية، فلا يعني أبدًا خلوُّها من الضابط التالي: “النفعِ المشروعِ والمقصدِ المعتبَر”، إذ للوسائل حُكْم المقاصد، والغاية تبرر الوسيلة كما قرَّر الفقهاء، فكلما كان مقصدُ صناعةِ الروبوت والمجسَّم معتبرًا في الشريعة الإسلامية، كان تصميمُه واتخاذُه مشروعًا، وكلُّ ما كان المقصدُ فيه غير معتبر من الناحية الشرعية، فتصميمُه واقتناؤه والاتجار فيه غير مشروع، فتلك الروبوتات التي يسمونها بـ”الروبوتات الجنسية”، وما بات يعرف مؤخّرًا باسم “الجنسانِيُّون الرقَمِيُّون”، وما يروج له في المستقبل من فكرة “الزواج التكنولوجي” بين الإنسان والروبوت، وفكرة الالتقاء الجنسي بين الإنسان والإنسالة؛ ما هي إلا تكنولوجيات خبيثة تحتوي على فوضى عارمة في المنظومة الأخلاقية، وانحرافاتٍ حادة في السلوك الطبيعي والفطرة الإنسانية السليمة التي فطر الله الناسَ عليها، ولا تستقيم بحال من الأحوال مع مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ العرض والنسل.. فالشريعة الإسلامية الغراء التي منعت نكاح الخنثى المشكِل -وهو إنسان بيولوجي لم تتأكد أنوثتُه البيولوجية من ذكوريته- كيف تستقيم معها تلك الأفكار والانحرافات والتشوهات؟! وهنا يمكننا القول بكل أسف: إن هذا وجه قبيح آخر للذكاء الاصطناعي، أصبح موجودًا بالفعل ويروَّج له في المستقبل ويُراد له الانتشار.

(*) كاتب وباحث سوري.

المراجع

(١) البيونية، د. عبد الله حورية، صحيفة: 27.

(٢) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد ابن رشد، 9/366، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط٢، 1408هـ/1988م، تحقيق: محمد حجي وآخرون، مواهب الجليل، 4/266-267.

(٣) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، 22/170، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.

(٤) كشف الأسرار عن أصول البزدوي، الشيخ عبد العزيز البخاري، 3/448، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، 1418هـ/1997م.

(٥) نفائس الأصول، 1/433، طبعة مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى، سنة 1416هـ/1995م، تحقيق: علي معوّض وعادل عبد الموجود.

(٦) الأعلام، الزركلي، 4/15، طبعة دار العلم للملايين، ط١٥، سنة 2002م.

(٧) الأشباه والنظائر، لابن نجيم مع حاشية غمز عيون البصائر للحموي، 3/379، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، 1405هـ/1985م.