الدماغ بين الكهرباء والمغنطة

اكتشف الطبيب الإيطالي “جلفاني” الكهرباء في الحيوان لأول مرة عام 1786م في رِجل ضفدعة كان يقوم بتشريحها.. ومنذ ذلك الحين أجريت الكثير من التجارب التي تتعامل مع الظواهر الكهربائية داخل جسم الإنسان، لاستخدام الكهرباء في تشخيص وعلاج الأمراض، مثل أمراض الشبكية في العين، وأمراض المخ كالصرع والأورام وأمراض القلب.

كل وظائف وأنشطة الجسم تدخل فيها الكهرباء بطريقة ما، فنشاط المخ هو بالأساس كهربائي، وكل الإشارات العصبية من وإلى المخ تشمل انسياب تيارات كهربائية، تؤدي في النهاية إلى التحكم في العضلات والجوارح والغدد. بصورة عامة، يمكن تشبيه جسم الإنسان بكمبيوتر ضخم يستطيع معالجة ملايين المعلومات في نفس الوقت وبسرعة كبيرة، حيث تتصل أجزاء هذا الكمبيوتر عن طريق شبكة كبيرة من ملايين الأسلاك التي تعرف بالأعصاب.

تسري التيارات الكهربائية خلال هذه الشبكة لتنقل المعلومات إلى مراكز الاستقبال في المخ، فيستجيب الاستجابة المباشرة لها، ويرسل هذه الاستجابة في صورة إشارة كهربائية من مراكز الإرسال عبر الشبكة العصبية مرة أخرى إلى أجزائه أو أعضائه. وتتولد نبضات كهربائية عند تنفيذ العديد من الوظائف الحيوية بالجسم، ويمكن إجراء قياس اختياري لنبضات بعينها لنحصل على معلومات طبية عن وظائف أعضاء الجسم، مثل الرسم الكهربائي للعضلة، والرسم الكهربائي للقلب، والرسم الكهربائي للدماغ، والرسم الكهربائي للشبكية والنبضات الكهربائية المصاحبة لنمو العظام وغيرها.

حيث ينتج جهد كهربي عند الضغط على العظام يؤدي إلى زيادة نموها، وقد وجد أن جهودًا كهربائية تكون مصاحبة لتجدد الأعضاء في الحيوانات كالسحلية، وتعمل أعضاء الإحساس في سمك الأنقليس عن طريق موجات كهربائية تصل إلى 800 فولت في حالة السمك البالغ وبتيار كهربائي شدته أمبير واحد، وبهذا الجهد العالي تستطيع هذه الأسماك شل فرائسها عن الحركة.

وينشأ في مناطق الكسور والجروح في الإنسان تيار كهربائي مستمر يسمى “تيار الإصابة”، حيث يكون الجهد الكهربائي في هذه المناطق أعلى منه في المناطق المجاورة، مما يؤدي إلى انسياب هذا التيار وسريانه. وقد استخدمت هذه الطريقة في حث المناطق المكسورة من العظام على الالتئام بتيار كهربائي مستمر يتراوح بين ١-٣ نانو أمبير، (النانو أمبير يساوي واحدًا من بليون جزء من الأمبير)، كما يمكن استخدام هذه الطريقة في حالات العظام التي يكون فيها النمو قليلاً لحفز نموها. وقد توصل العلماء إلى تصميم جهاز يطلق موجات كهرومغناطيسية يمكنها عند تسليطها على المخ يمكن معرفة درجة الذكاء.

تحفيز الدماغ بالكهرباء

يقول علماء بريطانيون، إنه لا يمكن معرفة درجة ذكاء الإنسان من خلال معرفة حجم الفص الجبهي بالمخ فقط، كما توصل الباحثون إلى هذه النتيجة من خلال دراستهم التي قارنوا فيها حجم هذه المنطقة لدى الحيوانات والإنسان. وقال الباحثون في دراستهم التي نشرت نتائجها بمجلة “بروسيدنغز” التابعة للأكاديمية الأمريكية للعلوم: إن حجم الفص الجبهي للإنسان الموجود في القشرة الدماغية، ليس أكبر مما يتناسب مع التطور العام لأحد الحيوانات الثدية.

وكان العلماء يعتقدون حتى الآن، أن النمو فوق العادي للمخ في منطقة الجبهة أثناء تطور الإنسان -وفقا لمؤيدي نظرية النشوء والارتقاء- هو السبب في ذكاء الإنسان. وفي ضوء نتائج هذه الدراسة أوصى الباحثون بالتركيز على كهرومغناطيسية شبكات الخلايا العصبية في مخ الإنسان أكثر من التركيز على دراسة الفص الجبهي لديه. إلا أن باحثين ألمان توصلوا إلى أن الظلام يعمل على تحفيز الإبداع، وذلك في دراسة أجريت في جامعة دورتموند التقنية فحصت تأثير الإضاءة الكهربية على الأفكار.

وشملت التجربة 74 شخصًا، كلفهم الباحثون بحل العديد من أسئلة الذكاء، منها مثلاً السؤال عن الاستخدامات الممكنة لمنتج معين. وتم تقسيم المشتركين إلى مجموعتين، الأولى جلست في غرفة مضاءة بضوء النهار، والثانية في غرفة مظلمة تمامًا. وأظهرت النتائج أن المشتركين الذين جلسوا في الغرفة المظلمة، قدموا أفكارًا أكثر وأفضل بكثير من المشتركين الآخرين.

وعلل البروفيسور “هارتموت هولتسمولر” من جامعة دورتموند ذلك، بأنه في الظلام يتفتق ذهن الإنسان بشكل أكبر وتسقط الحواجز الاجتماعية، فدون الخوف من التعرض لسهام النقد يصبح الإنسان أكثر إبداعًا ويقدم أفكارًا خلاقة. كما قد يكون الجو المظلم الخالي من الملهيات التي تشتت انتباه الشخص، مساعدًا على استجماعه أفكاره بشكل أفضل من الجو المضيء الذي قد يشتت انتباه الفرد.

وبعد سنوات من الجدل حول إمكانية تحسين الوظائف الذهنية عن طريق تحفيز الدماغ بالتيار الكهربائي، يشير تحليل ضخم لدراسات سابقة إلى أن الإجابة هي “ربما”. وينطوي التحفيز الكهربائي عبر الجمجمة على إرسال تيار كهربائي ضعيف غير مؤلم إلى الدماغ عبر أقطاب كهربائية مثبتة على فروة الرأس. ووجد تحليل تجميعي لأكثر من مئة دراسة تدرس نوعًا واحدًا من التحفيز الكهربائي عبر الجمجمة، أن التقنية ينتج عنها تحسُّن معتدل في الانتباه، والذاكرة، وحل المشكلات. لكن هذه النتائج لم تُقنع الجميع، يقول اختصاصي علم الأعصاب “ألفارو باسكوال ليون”: “مشكلتي مع هذه الورقة البحثية، أنها تجمع في سلة واحدة دراسات تمثل فعليًّا تدخلات طبية مختلفة”.

للمخ ثنايا وتضاعيف أشبه بطيَّات ثمرة الجوز، وقد اكتشف العلماء أن لهذه التضاعيف تأثيرًا كبيرًا في نشاط الدماغ، يشبه إلى حد بعيد تأثير شكل الجرس في الصوت الناتج. وهذا الاكتشاف يعارض الفكرة الشائعة التي تقول إن وظائف المخ إنما تنشأ من شبكة الوصلات العصبية المعقدة بين مجموعات من الخلايا المتخصصة، التي يُطلق عليها الشبكة العصبية. استعان الباحثون بنماذج رياضية للتنبؤ بمسار حركة الموجات عبر الأسطح، وانتهوا من ذلك إلى أن شكل السطح الخارجي للمخ، قدَّم صورة لبيانات الموجات الدماغية أقرب إلى الدقة قياسًا إلى النموذج المعتمِد على الشبكة العصبية.

ترجمة الأفكار دون كلام

طوّر علماء وحدة فك ترميز تتيح، من خلال تصوير الدماغ والذكاء الاصطناعي، ترجمة أفكار الشخص إلى لغة من دون التحدث، بحسب دراسة نُشرت نتائجها بمجلة “نيتشر نيوروساينس”. ويكمن الهدف الرئيسي من “وحدة فك ترميز اللغة” هذه، في مساعدة المرضى الذين فقدوا القدرة على التكلّم على توصيل أفكارهم عبر الكمبيوتر. ورغم استخدامه لأغراض طبية، فإن هذا الجهاز الجديد يثير تساؤلات حول انتهاك “الخصوصية العقلية”. ووفق معدِّي الدراسة، ولدرء الانتقادات، أشار الباحثون إلى أن أداتهم لا تعمل إلا بعد تدريب الدماغ من خلال تمضية ساعات طويلة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي.

وكانت واجهات سابقة بين الدماغ والآلة -وهي أجهزة تهدف إلى السماح للأشخاص ذوي الإعاقات الكبيرة باستعادة الاستقلال الذاتي- أثبتت جدواها. فقد أظهرت إحدى هذه الواجهات، قدرة على ترجمة جمل من شخص مشلول غير قادر على التحدث أو الكتابة على لوحة المفاتيح. لكن هذه الأجهزة تتطلب تدخلاً جراحيًّا، مع زرع أقطاب كهربائية في الدماغ، والتركيز فقط على مناطق الدماغ التي تتحكم في الفم لتكوين الكلمات.

وقال عالم الأعصاب في جامعة أوستن في تكساس “ألكسندر هوث” المشارك في إعداد الدراسة، خلال مؤتمر صحافي” “يعمل نظامنا على مستوى الأفكار والدلالات والمعنى، من خلال أسلوب غير جراحي”.

وأثناء التجربة، أمضى ثلاثة أشخاص 16 ساعة في جهاز تصوير طبي وظيفي (fMRI). وتتيح هذه التقنية تسجيل الاختلافات في تدفق الدم في الدماغ، وبالتالي الإبلاغ في الوقت الفعلي عن نشاط المناطق الدماغية أثناء مهمات معينة كالكلام والحركة وما إلى ذلك.

وقد سمع الباحثون المشاركون في التجربة مدونات صوتية (بودكاست) سُردت خلالها قصص، ودُربت الشبكة على التنبؤ بطريقة تفاعل كل دماغ مع الكلام المسموع. ثم استمع كل شخص إلى قصة جديدة داخل جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي، لاختبار ما إذا كانت الشبكة قد خمّنت بشكل صحي “أعمق من اللغة”. ورغم إعادة الصياغة أو تغيير ترتيب الكلمات في كثير من الأحيان، تمكنت وحدة فك التشفير من “إعادة بناء معنى ما سمعه الشخص”، على ما أوضح “جيري تانغ” من جامعة أوستن، وهو المعد الرئيسي للدراسة. على سبيل المثال، عندما سمع أحد المستخدمين عبارة “ليس لدي رخصة قيادة بعد”، أجاب نموذج الشبكة “هي لم تبدأ حتى تعلم القيادة بعد”. وذهبت التجربة إلى أبعد من ذلك.. فحتى عندما تخيل المشاركون قصصهم الخاصة، أو شاهدوا أفلامًا صامتة، كان جهاز فك التشفير قادرًا على التقاط جوهر أفكارهم. وتشير هذه النتائج إلى “أننا نفك تشفير شيء أعمق من اللغة ثم نحوله إلى لغة” وفق “ألكسندر هوث”.

واعتبر “ديفيد أرياس فيلهين” وهو أستاذ في أخلاقيات علم الأحياء في جامعة غرناطة الإسبانية لم يشارك في الدراسة، أن هذه النتائج تشكل تقدُّمًا حقيقيًّا مقارنة بالواجهات السابقة بين الدماغ والآلة.

ولفت “فيلهين” إلى أن هذه النتائج، تقربنا من مستقبل ستكون فيه الآلات “قادرة على قراءة العقول وتدوين الأفكار”. لكنه حذّر من أن هذا الأمر قد يحدث خلافًا لإرادة الأشخاص، على سبيل المثال، عندما يكونون نائمين، ما يعرض حريتنا تاليًا للخطر في المستقبل. وتوقّع معدو الدراسة هذه الأخطار عبر إثبات أن وحدة فك التشفير لا تعمل على دماغ شخص لم يتم تدريبها عليه.

وتمكن المشاركون الثلاثة أيضًا من خداع الآلة بسهولة. فأثناء الاستماع إلى مدونة صوتية، كان عليهم العد إلى سبعة وتخيل حيوانات وتسميتها أو سرد قصة أخرى في رؤوسهم.. تكتيكات كثيرة “خربت” عمل وحدة فك الترميز. ومع ذلك، دعا معدو الدراسة إلى وضع قواعد تهدف إلى حماية الخصوصية.

ولمعرفة أسباب ألم الدماغ، غرس باحثون جهازًا في أدمغة أربعة أشخاص وللمرة الأولى، لرصد علامات ملموسة على حدوث الآلام المزمنة. سجلت الغرسة الدماغية النشاط الدماغي للمشاركين مرات عديدة على مدار اليوم الواحد ولمدة بلغتْ ستة أشهر، ثم قارن الباحثون هذه الأرصاد بالأعراض التي ذكر المشاركون أنهم يعانون منها. وكان أحد المشاركين يعاني من الألم الشبحي إثر بتر إحدى قدميه، أما الباقون فكانوا يعانون من أحاسيس غير مبررة أو غير مفهومة إثر تعرضهم لسكتات دماغية.

كانت الغرسة ترصد حدوث نشاط دماغي في منطقة القشرة الجبهية الحجاجية لدى شعور المشاركين بآلام مزمنة، أما في حالة لمسهم لشيء ساخن، فقد كان يُرصد نشاط دماغي في منطقة مختلفة من الدماغ. يقول الطبيب والباحث “براساد شيرفالكار الذي شارك في الدراسة: “الألم المزمن إنما هو في حقيقة الأمر مرض قائم بذاته، وليس مجرد امتداد للألم على عمومه”.

(*) باحثة وكاتبة مغربية.