هوس الشهرة في عصر التواصل الاجتماعي

رائعة هي الشهرة المتزنة التي تكسب الفرد المزيد من الثقة والتقدير، وتجعله يمضي لتحقيق المزيد من التطلعات، ولكن الأضواء بحد ذاتها سلاح ذو حدين، فقد تُعزز الجانب الإيجابي في حياة الأفراد المؤثرين بنجاح، وقد تعمل في اتجاه معاكس، خصوصًا عندما تتجرد من مهمتها الحقيقية وتتحول إلى داء يجعل الأفراد أسرى للشهرة الفارغة، فتتحول الأهداف إلى ممارسة هوسية تتجرد من المضمون إلى أن يتلاشى الهدف السامي المنشود في المحتويات، لنستشعر موضوع الهوس بوضوح في سلوكيات الأفراد المؤثرين، الذين يسعون وراء لذة الشهرة والانغماس في الهوس، مما يفرض عليهم بعض الممارسات غير السوية التي يدركها المتابع العادي. إذن، ما هو الهوس وما أشكاله؟ وما أسبابه وكيفية علاجه؟

طبيعة الهوس

الهوس، هي حالة من الانفعال أو ارتفاع المزاج بشكل غير طبيعي، والإثارة أو مستويات الطاقة. وعامةً فإن الشخص “المهووس” أحادي التفكير ودجماتي متمركز حول ذاته، فهو يرفض كل شيء يتعارض مع معتقده، سواء أكان علميًّا أم ثقافيًّا، حتى إنه يسخر من الرأي الآخر لأنه يطبق قاعدة “لا أُريكم إلا ما أرى”.

ومع الثورة الحادثة اليوم في شبكة الإنترنت، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وما تفرضه الساحة الإعلامية والاجتماعية من أطروحات ومحتويات متنوعة، والتي باتت تغزو مشاهدتنا اليومية؛ أصبح لا يمكن تغافل الأفراد أو الجماعات التي تعاني من هوس الشهرة.. فلم يعد الموضوع مقتصرًا على أفراد في مرحلة عمرية، أو من مجتمع معين، أو من ثقافة محددة، وذلك لأن الفضاء الإعلامي رحب وواسع ويتسع للجميع، ويفتح أبوابه لكل فئات المجتمع، ويهيئ لهم الفرصة للدخول في عالم الشهرة ومجاراة ما يحدث بلا قيود. وما أسهل أن تفتح حسابًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتصنع محتوى وتجمع أفرادًا، وقد يكونون وهميين يتم شراؤهم، وتعيش دور المشهور والمهم الذي أصبح لا يتنفس إلا تحت الأضواء. ومن هنا ظهرت أنواع مستحدثة من الهوس، كهوس الشهرة، وهوس الصور الذاتية (السيلفي)، وهوس التجميل، وهوس النحافة، والهوس بالمظاهر، والهوس بمتابعة وتصدر مواقع التواصل الاجتماعي الذي يطلق عليه “الهوس الإليكتروني”.

ويرى بعض الخبراء انتشار مواقع التواصل واستخدام خواص تصفية الصور (الفلاتر) وصور “السيلفي” قد خلقا هوسًا في المجتمع وخاصة لدى فئة المراهقين والشباب، قد يؤدي بهم إلى الإصابة باضطراب “ديسمورفوبيا” (Dysmorphobia) وهو عدم رضا الشخص عن نفسه ومظهره. وأظهر استطلاع للأكاديمية الأميركية لجراحي تجميل وترميم الوجه، أن 42% من الجراحين استقبلوا مرضى يريدون الخضوع لعمليات تحسين صورهم السيلفي وصورهم على وسائل التواصل.

إن تفشي ظاهرة هوس الشهرة لدى الأفراد، شأنه أن يؤجج من ظهور الاضطرابات النفسية لدى هذه الفئة، حيث يرى علم النفس بأن الهوس بصورته العلمية، “شكل من أشكال الأمراض العقلية الرئيسة، ويختلف من مريض إلى آخر في الشدة والدرجة والأعراض التي تتضارب في وتيرتها ما بين النشاط الزائد والمرح وعدم التركيز على عمل ما، والتركيز المبالغ فيه، والمطالبة بفعل أشياء مبالغ فيها”. كما أن وقوع الفرد تحت طائلة اضطراب الهوس، شأنه أن يجره إلى الإصابة باضطرابات نفسية أخرى، كاضطراب ثنائي القطب الذي كان يعرف تحت مسمى “الاكتئاب الهوسي أو الهوس الاكتئابي”؛ وهو مرض نفسي يتميز بعدم اتزان المزاج، وقد يكون المرض خطيرًا ويشكل عائقًا جديًّا في الحياة اليومية عندما يشكل التصرف الجنوني المتطرف الهَوَس أحد طرفيّ الاضطراب، بينما يشكل الاكتئاب الشديد طرفه الآخر. وقد تستمر التغيرات المزاجية المتطرفة في مرض الهوس الاكتئابي طيلة أسابيع بل حتى بضعة أشهر كاملة، بحيث تسبب خللاً في التحكم بالأمور الحياتية الطبيعية لدى مَن يعانون منها، وقد يؤثر أيضًا على العائلة ودائرة الأصدقاء القريبين.

أسباب وأعراض الهوس

يمثل الهوس اضطرابًا نفسيًّا غير معروف الأسباب، ولكنه يعود إلى مجموعة من العوامل العضوية والنفسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، كالجانب الوراثي ومدى استعداد الشخص للإصابة بهذا الاضطراب، وكذلك التعرض للإحباط المتكرر كالفشل في تحقيق هدفٍ ومن ثم الدخول في صراعات نفسية داخلية، بالإضافة إلى الآثار الجانبية للأدوية النفسية أو الاعتمادية النفسية والجسمية على المخدرات. وغالبًا ما يعقب حالة الهوس حالة اكتئاب، وهو ما يسمى بـ”الاضطراب الوجداني ثنائي القطب”، وهو عبارة عن حالة نفسية يعاني فيها المصاب من تغيرات وتقلبات مزاجية شديدة ومختلفة سواء أكانت نوبات مزاجية غير طبيعية مرتفعة، أم نوبات مزاجية غير طبيعية منخفضة. وأحيانًا يوجد خليط من أعراض الهوس والاكتئاب في نفس الوقت، ولذلك يسمى بـ”اضطراب الهوس الاكتئابي”. وهذا النوع من الاضطراب يؤثر على أقل من 1% من أفراد المجتمع، كما أنه نادر الحدوث قبل سن النضج، ويصبح أكثر شيوعًا خلال مراحل الحياة الاجتماعية المختلفة. وبطبيعة الحال، فإن المصاب بالهوس ذو نشاط مرتفع، وحديثه سريع ومتواصل بلا توقف، وصوته مرتفع أي إنه ثرثار، وهذا ما يسمى بـ”ضغط الكلام”. كما أنه ينتقل من موضوع إلى آخر بشكل غير مترابط، وهذا ما يسمى بـ”تطاير الأفكار”، وهو بذلك عكس المصاب بالاكتئاب تمامًا، إذ يكون حديثه بطيئًا وبصوت منخفض مع ضعف النشاط.

وقد حدد المختصون في المجال العلمي والبحثي عدة أوصاف لما يسمى بـ”الهوس والمهووسين”، وهي درجات متقدمة للانشغال بشيء ما يقترب من الجنون؛ فمن نشوة الشغف والجنون إلى الاكتئاب الشديد، ومن التهوّر والاندفاعية إلى اللامبالاة. كما أن المهووس غالبًا ما يكون ذا نقاش بيزنطي وعقيم، أي حوارات غير عقلانية؛ لأنه يخضعها لنرجسيته أولاً وأخيرًا. وقد يكون الشخص مهووسًا بشكل عام في كل اتجاهاته الاجتماعية، وقد يكون مهووسًا في اتجاهات معينة كالمهووس بالسيطرة، أو بالحب، أو بشخص ما، أو بالحيوانات، أو مهووس بالألعاب أو غيرها.

ويقوم عديد من المهووسين بممارسات غريبة أو صعبة ومدهشة قد تصل إلى الوصف بالجنون، نظرًا لتعلق أصحابها بها يعيشون لأجلها، ويمضون الأوقات في ممارستها والاهتمام بها، وينفقون الأموال الطائلة عليها.. وتتجاوز درجات العشق والحب والهيام منها، الهوس بجمع الأشياء الغريبة والبحث عنها في كل مكان وفي أي زمان؛ إذ توجد فئة من الأشخاص يهتمون بجمع الأثاث القديم والمخطوطات وأدوات الزينة القديمة وكل ما له من عبق تاريخي قديم وتراثي، ويستجمعون هذه الأشياء دون كلل أو ملل، ويشترون منها كل ما يجدون أمامهم، كجمع أنواع قديمة بأشكال مختلفة وأنواع عديدة من آلات التصوير والتقاط الصور، مع أعداد أنواع الهواتف القديمة، بالإضافة إلى أدوات مختلفة من الأواني للبيت القديم، والصور وغيرها.. أما تبرير وتفسير أصحاب هذه الأدوات والأجهزة وغيرها، فهم يرونها تشكل جزءًا من الماضي الذي تفوح منه رائحة الأجيال القديمة، وعبق التاريخ الممزوج بصفحات من التراث، أو هو فن من الفنون الراقية.. فهم يسخِّرون كل أوقاتهم لجلب أكبر عدد ممكن من هذه الأدوات والأجهزة والآلات.

وهناك فئة أخرى مهووسة بالعيش في الصحاري والبراري، فهم يتحيَّنون الفرصة للخروج إلى الصحراء والعيش في الطبيعة، ليس هروبًا من المدينة أو طرق العيش الحضارية، وإنما عشق الصحراء وحب التأمل. ولهذه الفئة نظامها الخاص وأسلوبها المميز بعدد من الطقوس والتقاليد الرسمية؛ من إقامة جلسات طبخ وشواء وصيد وسهر وسمر إلى أوقات متأخرة من الليل، وهو ما يعرف بـ”التخييم”، ولكن ليس هناك وقت محدد لمثل هذه الطقوس، وإنما بشكل مستمر يتجاوز الأمر العادي والطبيعي، لدرجة أن تصرفاتهم وطبيعتهم تتغير بسبب السعادة التي يصلون إليها أثناء التحضير للخروج إلى الصحراء أو البراري.

علاج الهوس

للهوس عدة أساليب للعلاج والمواجهة، التي تشمل مقاومة الشخص للانجراف وراء اللذة التي يشعر بها من وراء ممارسة سلوك معين كالهوس الإليكتروني، ومحاولته تقليل المدد الزمنية التي يجلسها أمام شبكة الإنترنت، وتنظيم وقته، واستخدامه للإنترنت ككل.. وإذا كان المصاب يعاني من الهوس الخفيف أو الحاد والمزمن، فلا بد من العلاج الدوائي لتثبيت الحالة المزاجية حتى لا تتفاقم المشكلة لدى المصاب، على أن يكون العلاج الدوائي متزامنًا مع العلاج النفسي المعرفي السلوكي، لأن العلاج النفسي هو الجزء الأهم في مراحل علاج هذا المرض، حيث يتم فيه تأهيل المريض وعلاجه نفسيًا حتى يستطيع التخلص من مرضه. كما قد يحتاج الأمر إلى علاج اجتماعي لتوجيه المريض إلى عمل أشياء مُعينة في حياته وتعديلها حتى يشعر بالراحة ويحد من مرضه. وهو مهم جدًّا لأنه يساعد المصابَ على فهم حالته والتعايش معها، وبخاصة أن بعض الحالات لا يحتاج المصاب فيها للعلاج الدوائي كالهوس الخفيف.

(*) كلية التربية، جامعة الإسكندرية / مصر.

المراجع

(1) الفرق بين الهوس والمهووس، عبد الله بن أحمد الوايلي (2023)، المجلة العربية، العدد: 559.

(2) الهوس بين عبق التاريخ والعيش في البراري، صادق سالم (2023)، المجلة العربية، 559.

(3) هوس السيلفي: ما آثاره النفسية؟ https://1-a1072.azureedge.net/