من نعم الخالق على عبده منحه المقدرة على معرفة ذاته ووضعها في مكانها اللائق بها؛ لأن جهل المرء نفسَه وعدم معرفته بقدراته يؤدي إلى تقييم ذاته التقييم الخاطئ، فإما يبالغ في قيمتها فيثقل عليها، وإما يقلل قيمتها فيسقط من مستواها. والحقيقة أن جهدنا وعطاءنا يتأثر بشكل سلبي أو إيجابي بتقديرنا لذواتنا، فكلما ازدادت المشاعر الإيجابية تجاه ذاتنا ازدادت ثقتنا بأنفسنا، وكلما ازدادت المشاعر السلبية قلَّت ثقتنا بأنفسنا.
من هذا المنطلق، فتقدير الذات وتكريمها من أولى الدعائم للإنسان السوي نفسيًّا وأخلاقيًّا، وإن لم يستطع الإنسان تقدير ذاته واحترامها بحق، فلن يتمكن -حينها- من حب وتقدير الآخرين مهما حاول. إن الإنسان المقدِّر والعارف ذاته قادر على التمييز والإبداع، وقادر على تطوير الثقة بالنفس، وبالتالي يتمتع بشخصية اجتماعية راقية، يحث على العيش من أجل الآخرين والتعايش بأمن وسلام.. إنه يجيد التفكير ووضع الحلول للمشاكل والأزمات، ناظرًا إلى الحياة بتفاؤل وإيجابية.. يعتمد على نفسه من جانب، ومن جانب آخر لا يتردد في منح الدعم للآخرين وتقبُّل المساعدة منهم عند اللزوم.
تقدير الذات لا يعني الأنانية
قد لا يستطيع الكثير من الناس التفريق بين تقدير الذات والأنانية، مما يؤدي إلى الخلط بينهما والاعتقاد بأنهما وجهان لعملة واحدة.. بينما الفرق بين الأناني والإنسان المقدِّر لذاته شاسع كما بين الثرى والثريا؛ حيث الأناني يرى الآخرين على أنهم أعداء ومنافسون له، ويسعى إلى الحصول على أعلى المناصب والمراكز ولو على حساب الآخرين، وكذلك يعمل على إقصاء أو تخريب من يراهم منافسين له من أجل تحقيق أهدافه، ويبحث دائمًا عن الأسباب التي يثبت من خلالها فشل الآخرين.. بينما الإنسان الذي يحترم ذاته ويكرِّمها، دائم التركيز على تطوير نفسه ومهاراته وقدراته ليحقق أهدافه دون أن يقلل من شأن الآخرين، بل على العكس، يتعاون معهم ويقدِّر نجاحهم، ويقدِّم الدعم لهم ويساعدهم على تحقيق أهدافهم بكل حب ورضى.
تقدير الذات هو تكريم الذات واحترامها، إذ عندما نقدّر أنفسنا، فهذا يعني أننا نؤمن بقدراتنا وإمكاناتنا، ومن ثم نسعى إلى تطويرها وتحسينها. ومن وجهة أخرى، تقدير الذات لا يعني العزلة عن الناس، إنما القدرة على التواصل بشكل صحي، وبناء علاقات إيجابية معهم.. كما أن تقدير الذات وتكريمها يدفع الإنسان إلى العطاء وبذل الجهد والعيش من أجل الآخرين.
والأهم من ذلك كله، تقدير الذات وتكريمها يتطلب التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة محيطه، بين حقوق الذات وواجباتها، بين المطالبة والعطاء، بين الاستقلالية والتعاون.. كل ذلك يعني أن تقدير الذات رحلة طويلة وضرورية لحياة سعيدة صحية، زاخرة بالتعلم والتطور والتحسين.. رحلة تبدأ من داخل الإنسان لتنعكس على عالمه الخارجي.
من المعروف أن النفس أمّارة بالسوء، وهي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر صاحبها بالملذات الحسية فتوقعه في كمين الأنانية.. ولكن نظرة الإنسان المحترم لذاته تختلف عن نظرة الإنسان الأناني؛ حيث الإنسان المقدِّر لذاته يثق بنفسه فيعمل على تهذيبها دون أن تتعالى على الآخرين، بينما الأناني يرى أنه منزه عن الأخطاء فلا يسعى إلى تهذيب نفسه، ويريد النجاح له فقط على أكتاف الآخرين. وأدل مثال على الأنانية جواب إبليس لربه في قصة السجود لآدم عليه السلام: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِن نارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طينٍ) (الأعراف:١٢)؛ إن الأنانية هي التي منعت إبليس من السجود لآدم عليه السلام، ودفعته إلى عصيان أمر الله تعالى.
الإيثار وحب الآخر
لقد حث الإسلام على مكارم الأخلاق والإيثار وحب الآخر، وأمر بالابتعاد عن الأثرة والأنانية. وللإيثار فضل عظيم ينعم به الفرد والمجتمع، حيث يوثق الترابط بين أفراد المجتمع ككل.
يروى في “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نزل الجحفة وهو شاكٍ فقال: إني لأشتهي حيتانًا، فالتمسوا له فلم يجدوا له إلا حوتًا واحدًا، فأخذته امرأته صفية بنت أبي عبيد فصنعته، ثم قرّبته إليه، فأتى مسكين حتى وقف عليه، فقال له ابن عمر: خذه، فقال أهله: سبحان الله، قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبه.
نرى في هذه السطور المعبّرة؛ كيف تحول الإيثار إلى تفويض بالمصلحة الشخصية لصالح المصلحة العامة أو مصلحة الآخر، ليصبح فضيلة أخلاقية راقية.. لأن الإنسان المؤْثِر يشعر بالقوة والثقة والإيجابية، ويحاول نشر ذلك بالمشاركة والتعاون والتضحية، وهذا -بطبيعة الحال- يرسخ التآزر والتضامن والتعاضد مع أفراد المجتمع، وكسب الثقة والاحترام.
وثمة مجال للتوازن بين الأنانية والإيثار يسمى بتكريم الذات أو حبها الصحي، وهو مفهوم يشير إلى التوافق بين احترام الذات وحب الآخر. فالإنسان الذي يتحلى بالاحترام لذاته بصورة صحية، يقدِّر نفسه ويرضى عنها، وبالتالي يرعى مصالحه ورفاهيته دون أن يغض الطرف عن مصالح ورفاهية الآخرين، ليحظى بحياة سعيدة متوازنة من جانب، ومن جانب آخر ليساهم في سعادة الآخرين ورفاهيتهم.
التوازن بين الأنانية والإيثار
التوازن هو أفضل السبل لتحقيق السعادة والنجاح في الحياة. وبالنسبة لتكريم الذات والإيثار، فإن التوازن يعني أن نعتني بأنفسنا ونهتم باحتياجاتنا، وفي الوقت نفسه نساعد الآخرين ونسعى إلى تحقيق مصالحهم. كما أن التوازن بين الأنانية والإيثار، يتطلب من الفرد أن يكون على علم ودراية تامة باحتياجاته واحتياجات الآخرين، وبالتالي أن يكون صادقًا مع نفسه ومع الآخرين. عندما يكون الإنسان صادقًا مع نفسه، يتمكن من فعل ما هو الأفضل له، وعندما يكون صادقًا مع الآخرين، فذلك يجنِّبه استغلالهم والانتفاع بهم بغير حق.
يرى العلماء أن الأنانية هي الميل إلى تفضيل المصالح الشخصية على المصالح العامة أو الجماعية، والتمسك بالحقوق دون الواجبات، والسعي إلى تحقيق الرغبات دون مراعاة الضوابط الأخلاقية أو الشرعية.. وأن هذه الصفة هي مصدر كل الشرور والمفاسد في الفرد والمجتمع، تؤدي إلى تدمير الروابط الإنسانية والاجتماعية والدينية. أما الإيثار فهو التضحية بالمصلحة الشخصية أو جزء منها لصالح المصلحة العامة أو الجماعية، والقيام بالواجبات دون التطلع إلى الحقوق، والسير على طريق الحق دون خوف أو حساب.. فيتحول الإيثار بذلك إلى مظهر من مظاهر الإيمان والتقوى والكمال، ويبني مجتمعًا مثاليًّا متآلفًا متضامنًا ومتحضرًا.
وللإيثار أهمية كبيرة في حياة الإنسان؛ أولاً الإيثار صفة إنسانية حميدة تجعل الإنسان سعيدًا وراضيًا عن نفسه، كما يساعد على بناء مجتمعات أكثر عدلاً وسلامًا. ثانيًا الإيثار ينطلق من حب الخير للآخرين، ولا يهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية أو اجتماعية، فإنه ينطوي على التنازل عن بعض الرغبات والراحة من أجل الآخرين.
الأنانية وأثرها على النفس
تؤدي الأنانية إلى العديد من الآثار السلبية على النفس البشرية، منها الشعور بالوحدة والانعزال عن الناس، عدم الرضا عن النفس والبعد عن الشعور بالسعادة، صعوبة التواصل مع الآخرين والتخلي عن بناء علاقة صحية، الشعور بالذنب وعدم الراحة، الانطواء والانعزال وعدم الرغبة في التفاعل مع المحيط، الاضطرابات النفسية وفقدان الثقة بالنفس، المشاكل الاجتماعية واستخدام العنف، التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر، تدهور البيئة والاستهلاك المفرط للمواد الطبيعية، الصراعات المسلحة على الموارد الطبيعية أو الثروات التي يؤدي إلى الحروب والنزاعات ومن ثم القتل والدمار.
إذن، الأنانية صفة سلبية تؤدي إلى العديد من الآثار السلبية على النفس الإنسانية والمجتمع ككل. ولذلك، من المهم السعي رواء التغلب على الأنانية، وتنمية الصفات الإيجابية مثل الإيثار والرحمة والحب.
كيف نتغلب على الأنانية؟
يجب أن نؤكد أولاً على عدم خلو الإنسان من الإيجابيات والسلبيات، فالكمال لله وحده سبحانه، ولكن يظل العمل الدؤوب والمستمر من أجل الاقتراب من الكمال البشري. وثمة العديد من الطرق التي تمكّن الإنسان من التغلب على أنانيته، منها:
أ- الوعي الذاتي: من المهم أن يكون الإنسان على دراية بصفاته وأنانيته. ويمكن القيام بذلك من خلال مراقبة أفكاره ومشاعره وسلوكياته، والتفكير في كيفية تأثيرها على الآخرين.
بـ- تنمية الوعي الاجتماعي: ينبغي أن يكون الإنسان على وعي بمشاعر الآخرين واحتياجاتهم. ويتحقق ذلك بالاستماع إلى الآخرين باهتمام، ووضع نفسه في مكانهم.
جـ- الممارسة والتطبيق: يمكن التغلب على الأنانية من خلال الممارسة، وذلك بالإيثار وتقديم المساعدة للآخرين، والتفكير في مصالحهم قبل المصالح الخاصة.
د- الامتنان وتنمية الشعور بالرحمة: يساعد الشعور بالامتنان في تقليل التركيز على الذات وتنمية الشعور بالرحمة تجاه الآخرين.
هـ- تطوير علاقات قوية مع الآخرين: العلاقات القوية تنمي الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ومن ثم تعزز الشعور بالسعادة والانتماء.
و- البحث عن المعنى والهدف في الحياة: البحث عن المعنى والهدف في الحياة، يساعد الإنسان على تركيز ما هو أكبر منه، وتطوير عنصر المودة تجاه الناس.
نتوصل من كل ما ذكرناه إلى أن التغلب على الأنانية ليس بالأمر السهل، ولكنه أمر ممكن، يحتاج فقط إلى الوعي الذاتي والممارسة وبذل الجهود.. ومن خلال السعي إلى التغلب على أنانيتنا، يمكننا أن نجعل العالم مكانًا أفضل لجميع البشر. كما أن تقدير الذات والإيثار ليسا سلوكين منفصلين، بل هما وجهان لعملة واحدة. عندما نقدِّر أنفسنا، لا شك أننا نشعر بالرحمة والرأفة تجاه الآخرين، الأمر الذي يدفعنا إلى مساعدتهم ومؤازرتهم. وعندما نساعد الآخرين، فإننا نشعر بالتقدير والاحترام لأنفسنا، وهذا ما يعزز احترام الذات لدينا. ولذلك فتقدير الذات والإيثار، هما سلوكان متكاملان يتمم كل منهما الآخر.. إذن، لا بد من نبذ الأنانية وتحقيق الإيثار في كل مجالات الحياة، لأنه السبيل الوحيد لترسيخ الحب والسلام بين البشر، ولبناء حضارة لَبِناتُها القيم الإنسانية النبيلة.
(*) كاتب وباحث تركي.